القرآن الكريم … حين نزل عبر الزمن من عالم الله ، أتى ليحكي عن الحقائق المطلقة للعالم وللكون، فكل ما تضمنه من المعاني والمعلومات هو الذي لا يمكن إلا أن يكون من عند الله ببرهان المعلومة نفسها، ومستوى بيان اللفظ هو حسن التعبير عن المعنى … لأن اللفظ وحده يمكن حتى للحواسيب إنشاؤه إذا زودت بالخوارزميات المناسبة، وهناك من استطاع فعلياً تكوين آيات من خلال برامج الضرب العشوائي للكلمات في الكومبيوتر، لكن برهان الآيات التي رآها العرب قديماً وتراها كل روح تقرأ القرآن بهدوء وبصيرة هي قوة "البيان والمعاني" التي وصلت أعلى رتبة في الكون، وليس "البديع والزخرفة اللغوية" من ذلك في شيء.
ربما إذا أتيت مثلاً بكتاب كالقرآن الكريم فسيحكي نفس المعاني بنفس طريقة التعبير حتى يكون مشابهاً وبالتالي سيكون من "نفس المَثل القرآني" ولن يكون "مِثله" أي لن يكون له تكوينه المستقل. فتكوين القرآن هو مثال التعبير الرمزي عن الحقائق العليا للوجود … وما يهم في القرآن هو قضاياه ومباحثه والحكمة التي يتلوها ، فهذه هي التي لا يمكن أن تأتي بموازي لها ، ذلك بأنها تحكي الحقيقة مطلقاً وبأن الحقيقة لا موازي لها ... هل تدرك الآن معنى التعليم الإلهي : أن أحداً لن يأتي بمثل القرآن لأن أحداً لن يأتي بمثل ناموس الكون والوجود ولأن القرآن يحكي ناموس الكون والوجود.
اللفظ دون معناه دائماً أجوف، حيث يكون للفظ معنى ، يصبح له قيمة … وتكون قيمته من قيمة المعنى نفسه … والعبارة المكونة من ألفاظ تقاس بلاغيتها بما تعنيه وعبر تطابق معناها مع نظام الكون والوجود من جهة، وتطابق ألفاظها مع هذه المعاني من الجهة الأخرى …
عندما تقول مثلاً "شكراً كثيراً لله على نعمة الحياة" فهذا معنى ضعيف بلاغياً في مقام عالمي الخطاب، رغم أن قلبك قد يكون ممتناً للغاية ولذلك كنت عفوياً تماماً فكان صدقك أقرب من الذي يتلو النص القياسي، ولكن عبارتك لا تصلح لتوضع في كتاب مقدس لجميع العالَمين … بينما حين تقول "أنا حي ..… الحمد لله ربي ورب العالمين" فهذا يصيب المعنى بتعبير كامل عن ما تشعر به وفق قاعدة صياغة الترميز اللغوي.
ربما تظن أن الأسماء الحسنى كلفظ الجلالة واسم الله الرحمن الرحيم واسم الله الملك القدوس، كانت هكذا مُنشأة على هذا النحو إعتباطاً أو مصادفة أو حسب لسان العرب الذي تكون عبر التاريخ، ولكن الحقيقة غير ذلك، إنها حكمة الله ، وهي الحقيقة التي في باطن هذا التكوين الرمزي للحروف والكلمات …
علم المعاني والترميز :
العلوم التي يمكن من خلالها فهم فئات المعاني هي علم الدلالة Semiotics وعلم الترميز symbology وعلم التأويل Hermenutics، ومع ذلك فما يجعلك قادراً على التأويل هو الممارسة والتدريب على الإدراك الحُر والدقيق والجاد .
ثمة مذاهب لهذا العلم ... ما يهمنا حالياً أن تعلم أنّ المعاني تأتي من الوجود والألفاظ تأتي من الترميز وعلى ذلك لا يمكن تحديد المعنى بقيد غير الوجود نفسه ، ولا يمكن إذن جعل المعنى رهين اللفظ لأن الوجود ليس رهين اللفظ.
المجاز والكناية والاستعارة والحرفية هي أوصاف لسياق المعنى وتدرسها في علم البلاغة ، وهذا مختلف عن بناء الكلمة المعنوي
مثلاً يمكن توظيف كلمة مثل ( الكلب ) لوصف وفاء شخص معين ، وهذا هو التعبير المجازي ( وليس المعنى المجازي ) ولكن كلمة الكلب بحد ذاتها لا تتعلق بالوفاء بشكل رئيسي ، لأن الكلب في المستوى الموضوعي السطحي هو كائن حي أرضي تعرفه جيداً ، وفي المستويات الأعمق له معاني مختلفة ، مثلاً ما الذي يميز سلوك وجسد الكلب عن سلوك وجسد القطط والسنوريات والكائنات الأخرى ؟ يوجد علة معينة تعرف من خلالها الكلاب ، جسدياً الكلب نشيط وحركي وجسده ضخم ولن غير مرن وفيه نوع من الفوضى على عكس القطط ، سلوكياً الكلب لا يعرف الهدوء ولا يمكنه العيش في وحدة كالقطط ويحب أن يتعلق بالأشياء والأشخاص ويلهث وراءها وقليلاً ما يكون قادراً على استيعاب الخصوصية ، ولذلك يقول الله في القرآن {( مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهثه أو تتركه يلهث )} لأن الكلب له معنى باطني وهو تبعية الكينونة للعلاقات الزمنية بباب العالم …
هذه أحرف الكلب ، كاف ( كيان كامل ) لام ( علاقة لوم ) باء ( بوابة ) واليهود يعرفون هذا العلم ولو اختلفت طريقتهم في التأويل ومعاني الحروف ولكنهم لديهم بعض المفاتيح …
مستويات المعاني موزعة بحسب مستويات الوجود وكل وجود له معنى ، والرمز الذي يشير إلى موضوع محدد سيشير إلى كافة أبعاد هذا الموضوع ، مثلاً رمز يشير إلى مادة معينة مثل الذهب ينبغي حينها أن يشير إلى كافة أبعاد كينونة الذهب المنظورة وغير المنظورة
هذه مسألة بديهية … المسألة غير البديهية والمُبهمة : متى يكون الرمز مشيراً إلى معنى عميق ومتى يشير إلى معنى ظاهري ، إذا خاطبك جارك وقال لك : مساء الخير … ما الذي ستفهمه منها ؟
إذا خاطبك شخص مهم أو ذو قيمة وقال لك مساء الخير .. هل ستفهم نفس ما فهمته من قبل ؟ بالتأكيد لا …
لأن الشخص الآخر لا يحتاج إلى قولها لك مثل جارك ، وحين يقولها فهناك بقية للكلام …
إذا لم يخاطبك أحد ، لكن خطر ببالك أن تحلل الكلمة أو تحاول فهم عُمقها الكوني … ستتخيل المساء والرابط بينه وبين الخير ، وهذا سيعيدك إلى اعاد فائقة للوجود الظاهري الذي تشير إليه كلمة مساء وكلمة خير …
هكذا يكون للمعنى دلالة بحسب ( الإطار الوجودي ) لا بحسب السياق ضمن الكلام ، وهذا هو معنى الترميز ، أي البحث في عُمق الرمز ، هيكل الرمز ، مستويات الترميز … لا في موقع الرمز بالجُملة الرمزية .
إليك بعض مستويات الترميز العامة :
- المستوى الوهمي وهو الشيء الخالي من الحقيقة الجوهرية مثل أقوال السخرية كمن يقول ( أوعى تنسى نفسك ) ليضرب بها شخصاً آخر غير المخاطب ، وكذلك أقوال الشعراء الخاصة بمديح الخلفاء والملوك …
- المستوى الاعتباري وهو ما يراه الناس عن الشيء ويتفقون عليه ، وهنا تأتي الدلالة الرمزية التاريخية واللغات البشرية الوضعية ، مثلاً كلمة محكمة عند كل الناس تقريباً لها المعنى نفسه.
- المستوى المادي الظاهري المتشخص وهو شيء موضوعي معين في محل ، كما عندما تقول ( أين الكلب ) وتقصد كلباً محدداً وهذه دلالة الكل على الجزء
- المستوى المادي الماهوي ( هُوية الشيء في الطبيعة المادية ) مثل كلمة الطين ، قد تأولها على أنها ذلك الخليط الكربوني الذي تسمونه بالطين.
- المستوى العقلي ( هوية الشيء في الوجود ) ما هو الطين أصلاً ولماذا سمي بهذا الإسم ، لما لم يسمى الطين بأوباما ؟ لما لم يسمى بترامب ؟ هل تسميته جاءت اعتباطاً أو بالصدف التدرجية أم لها دلالة باطنية ؟
- المستوى القيمي ( هوية الشيء في ذاته الحق ) ما هي القيم التي يبلغها الطين في خلقه عن خالقه وعن الوجود ؟ مثلاً السكين في أعمق مستوياتها تخبر عن الصفاء وقوة الحق والفصل ، وهذا أمر يحتاج إلى حساسية ولا يمكن إدراكه بالتحليل العقلي …
كما ترى فهذه المستويات هي ما يحدد كيفية إدراك المعاني المقدسة ، هذا إذا كنتَ تقدسها فعلاً …
إذا كنتَ ستؤول كلام الله من خلال المستوى الثاني ( المعنى المتعارف عليه ) كما يفعل الجميع عادة ، فستصل إلى نتيجتين :
- أولاً لن تدرك أبداً ما لا يعترف عليه الناس في مجتمعاتهم من المعاني وهذا يعني أن كلمات القرآن ستتوزع ما بين كلمة تشير إلى معنى واضح لأي شخص ، وما بين أخبار لا يمكنك إدراك معانيها على الإطلاق ، أي أنك منفصل تماماً عما يخبر به القرآن ككتاب سماوي ( وباتالي حتماً ميتافيزيقي بقدر ما هو مقدس ) لأنك قطعت حبل الميتافيزيقا عن إدراكك وأصبحت رؤيتك جافة جداً موزعة بين التسليم الأعمى وبين السطحية.
- ثانياً ستنظر للقرآن كظاهرة تاريخية محدودة الزمان والمكان أكثر منه كشيء مقدس ، ستراه تعاليم أخلاقية واجبية أو دستور حياة للفرد ومجتمع ، ولن ترى الأسرار العليا التي يحتويها ، وكعمل أعرابي لا كرسالة إلهية للعالم استخدمت لغة قادرة على حملها.
هذا سيؤدي إلى تأويل كتاب الله إما بالمنهج التراثي الروائي وفهم المعنى وفق الاصطلاح ، وإما بمنهج الحداثة وفهمه وفق التحليل المنطقي الوضعي … منهج ابن تيمية ضد منهج شحرور … كلاهما تأويل فارغ من التقديس بالمعنى الدقيق والحقيقي للكلمة.
كتاب من عند الله ، ستكون معانيه حتماً ميتافيزيقية وقيمية وجودية تتعلق بهياكل العالم والتوحيد والأسرار العليا ، لأن الله لن ينزل عليك شيئاً أنت مسبقاً قادر على الوصول إليه بالبحث المادي الاعتيادي.
كتاب من عند الله سواء كان القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو الطاو ، لن يكون صالحاً في زمكان محدد … لأن كلمات الله تصف ما وراء التاريخ …
عند تأويلها بالطريقة التي يريد الله أن يؤول بها …
البلاغة لا تبحث عن معنى الكلمة بحد ذاتها، وإنما عن وظيفتها بالنسبة للجملة، لذلك الوصف البلاغي يصلح لفهم الشعر ولكنه لا يصلح لتأويل القرآن الكريم أو الكتب المقدسة … لأن معنى الكلمة في الشعر يتوقف على سياقها فيصف الشاعر الموضوع بما لا يتناسب معه من الكلمات لأنه غير ملتزم بالمعاني الحقيقية بقدر ما يهمه السجعية والبدوع والمبالغات والتأثير النفسي …
------------------------------------------------------------------------------------------------
حُسن القرآن هو بالبيان والبرهان، فبرهان القرآن قد تم إحكام أركانه وتفاصيله اللازمة معنوياً واستخدم التعبير الدقيق رمزياً ولغوياً عن هذا البرهان، وبيانه هو ببيان الحقائق المطلقة، وليس بالسجع والاستشعار، وهذا البيان كان منطبقاً تمام الطباق على الرموز التي سخرت لأجله فلا يعدو اللفظ عن البيان شيئاً ولا ينقص معناه شيئاً.
بعبارة أخرى فإعجاز القرآن ليس بعدم القدرة على أن تأتي بنقيض، بل إنما القرآن معجز لأن لا نقيض له، لأن ترميز الحقيقة كونياً يكون على نحو واحد، وترميزها وضعياً يكون بأنحاء لا نهاية لها، وكل معنى حقيقي له رمز محدد في نظام الكون، لأنه أصلاً هو الحقيقة معبراً عنها في لفظ وترميز … فكيف تُعبر عن ذات حقيقة ما بأكثر من عبارة ؟
معاني القرآن هي ما يعطيه قوته، ارتباط الرمز بالمعنى برابطة ليست من وضع الناس، تكشف عنها حين تدرس قواعد الترميز في التوارة، وليس حين تتعلم تاريخ اللسان العربي الذي يتعدل وراثياً في كل جيل، وهذه العلوم "علوم الحرف والتوراة" موجودة عند اليهود حتى هذا اليوم، وتدرس حتى في الجامعات الرسمية في إسرائيل.
الرموز العربية هي رموز الكون، الحروف العربية هي حروف الكون، وهي أم اللغات كلها ومثلها الأعلى …
لا علاقة لحقيقة الرموز بتاريخها وسياها الذي اكتشفه البشر، لا يهم من الذي وضعها المهم أنها ومهما يكن تاريخها هي لغة الكون نفسه، حين تكون عربية… وكما أخبرتك حتى أهل إسرائيل يمكنهم فهم هذه الأمور ، وهناك عبر العالم اليوم آلاف الطلبة لعلوم التوراة، يعني لا علاقة للعرب بذلك ولا يحتاج الأمر لتعلم اللغة العربية ولكن لتعلم المعاني والرموز.
لم يتم اختراع الأبجدية بالعبث من قبل الإنسان، واللغة العربية هي لغة الأصوات نفسها - ليست لغة العرب وشعوبهم - وتكون رموزها سماوية وضمن نظام التكوين نفسه، فأنت تستطيع، أن تعرف دلالة كل حرف عربي عندما تدرك طريقة تفاعل وتيرة ذبذبته الصوتية مع البيئة الفيزيائية، وطريقة نطقه، ورسمه وهندسة شكله الرمزي، وهذه الدلالات طبيعية، وليست من صنيعة البشر.
التفاعل يحمل دلالة كونية بحسب موقعه الزمني والوجودي، فالهاء تدل على التفريغ والنشوة والحضور والغياب "توحيد الوجود"، والنون تدلك على التركيز الصوتي في النغم و التركيز الحركي في رأس اللسان، ولذلك هي حرف حيوي نابض، والباء تدل على الفتح والإغلاق وهكذا …
مثلاً الألف هي شرارة التفاعل دائماً، لذلك تسمى ألفاً لأنها تفاعل واعي وألفة … هذا معنى الحرف، ويوجد لكل حرف معنى كوني يستقل به، وبحسب تراتب الحروف في الكلمة تكون دلالتها على المعنى المركب من تفاعلات معاني الحروف … فكلمة الألف نفسها مركبة من صوت الألف "آآآ" ومن "لَف" أي صوت اللام وصوت الفاء.
كلمة "أنا" هي ألف ونون أي تفاعل وذات، لأن النون هي الذات، ولاحظ أن كلمة "أنا - الآن - أوان - أيان" كلها تتحدث عن تفاعلات يدركها الوعي الذاتي وليست غائبة عنه.
العلاقات بين الأحرف وفق ترتيب معين هي نفس علاقات الزمن، لا تحتاج إلى وضع الواضع واعتبار العُرف، ولا إلى التاريخ، أي أنك لو كنت لوحدك على هذا الكوكب، وحاولت اكتشاف لغة تتوافق مع الطبيعة نفسها فستكون اللغة العربية، وهذا هو السر في أن اللغة العربية تستخدم كلمات أعجمية، مثل الديباج ونحوها، لأن هذه الكلمات لا يتعامل معها القرآن وفق سياقها التاريخي … ولكن وفق دلالتها في نظام الكون ولغة التكوين…
فإن أحرف اللغة العربية موجودة ضمن نظام تكوين العالم وليست من وضع البشر، ودلالاتها أيضاً جوهرية في هذا النظام ولكل حرف معنى كوني … ولكل كلمة معنى داخلي حسب تركيب معاني أحرفها وخارجي حسب سياق الكلام، أما لغات العجم فتحتفظ فقط بالمعنى الخارجي، ولذلك لا يمكن للكلمة الإنجليزية أن تكون تصريفية، أي أنها لا تغير دلالتها بتغير ترتيب وتكوين أحرفها كما في العربية، وليس للكلمة محل إعراب زمني متغير لأن لغة الزمن هي اللغة العربية [ والعبرية ] أما لغات العالم الحديث فلا حقيقة تحكيها وتقصر عن أداء الوظيفة في الإشارة الدقيقة للمعنى الذاتي.
لكن الكون نغمٌ وفن أصلاً ولذلك تكون عبارات القرآن الكريم موسيقية، ليس من باب التصنع اللغوي ولكن لأن الكون كله أنغاماً إلهية ….
0 تعليقات