ما المعنى الإدراكي المتلازم مع كلمة (حقيقة مطلقة) ومن أين جاء أصلا؟ …
كيف يعلم الإنسان بمعنى حقيقة ولا حقيقة، وأن هناك حقيقة نسبية وحقيقة مطلقة ؟
جميل أنك تقولين "هل توجد حقيقة مطلقة ؟" كإقرار ضمني أن ما في هذا العالم لا يوصف ب"الحقيقة" .
لا يمكن الاعتماد على اللغة في "تعريف الكلمات" … إذا لم يختبر الوعي معنى الموضوع الذي له كلمة تعبر عنه ، فسيكون معنى الكلمة مجهولاً.
"الحقيقة المطلقة" كلمة مجهولة المعنى ، ولكن الذي يمكن معرفته عنها هو أنها "قيمة مُفتقدة في الحياة" ، هي القيمة التي تخلو منها هذه الحياة التي يتغللها الوهم والنسبية ، لذا كلمة الحقيقة المطلقة لا تعبر عن معنىً اختبرتيه بحد ذاته ، ولكنها تعبر عن اختبارك لمعنى "وجود المفقود" في الحياة.
هذا المعنى المفقود ، ليس مفقوداً في تجربة حياتية معينة ، إنه مفقود بالنسبة لكامل الحياة ، أي ليس فقط بالنسبة لك ، بل بالنسبة لك ، ولبوتين ، وللبابا ، ولراهب في التيبت ، ولكل إنسان في الأرض ، وهو مفقود بالنسبة للإنسان ، للحيوان ، للنبات ، للجن ، للكائنات الفضائة ولكل كائن يعزوه شيء من العالم الخارجي ويتطلع إلى بناء صرح زمني فيه لتعويض من يفتقده.
إذاً حالة غياب الحقيقة عن الحياة نابعة من طبيعة الحياة الأولية ، وليس من المحلقات أو الجزئيات ، تغيير الجسد أو زيادة القدرة الذهنية لن يجعل الحقيقة أقرب ، زيادة قدرات التفاعل والتحكم بالعالم الموضوعي لن يجعل الحقيقة أقرب ، لأنها ليست شيئاً "ضمن العالم" إنها وراءه … إذن ، كيف نعرف بأن هناك ذلك المُطلق المحجوب وراء كل ما نعرفه ونختبره ؟
الجواب بسيط نوعاً ما ، هذا العالم ليس مُطلقاً ، ويسمح بإمكانية أن يكون في النهاية نوعاً من الواقع الافتراضي مجهول المصدر والمنشأ ، وهذا شيء متجذر فيه ولا يمكن إزالته منه ، هناك فاصل زمني - وجودي بين ذاتك الواعية وبين حقيقة المجال الظاهري Phenomena Field الذي تعيشين ضمنه.
كل وعي يحس فطرياً بهذا الفاصل ، وبناء على إحساسه يعلم أنه لا يحيا مباشرة أمام الحقيقة.
الأمر أقرب إلى أن يكون هذا "البون" بينك وبين الحقيقة المطلقة ، هو منطقة المجال الظاهري الذي تعيشين فيه ، وإحساسك بحدود هذا المجال هو تعليل سؤالك عن الحقيقة المطلقة. والأمر أقرب إلى أن يكون سبب غياب الحقيقة المطلقة هو ذلك البون ، أو هو بالأحرى "الافتراق بين الوجود الذاتي والوجود الموضوعي" وحين يزول الافتراق بينهما ، يزول البون ، وحين يزول البون تنكشف الحقيقة.
ولكن هذا البون ، أو المجال الظاهري لحياتك مكوّن من كل ما فيها … مكوّن من أفكارك ، خيالك ، رغباتك ، معتقداتك ، مكون من جسدك ، بيئتك ، علاقاتك ، محيطك الحيوي بالكامل … وإزالة القُفل عن إدراك الحقيقية ستطلب منك التضحية بكل ذلك ، أي لا يجب أن تخافي من فقدان اي شيء على الإطلاق ، لأن أي شيء إضافي سيحجب الحقيقة عن إدراكك لها…
خضوعك لهذا الواقع ناتج أولاً وأخيراً عن وجود أمور لا يمكنك التخلي عنها من أجل الحقيقة ، حتى المتآمرون عالمياً لا يمكنهم فصل الذات عن الحقيقة ، ولكن يستغلون عدم الرغبة بالرحيل…
شاهد الآن هذه الكلمات .. ترى الآن مشاهداً حسياً يشبه شاشة عرض ملتصقة ببصرك، وترى فيها أحرفاً سوداء رقمية على صفحة بيضاء ضوئية ، لكن هل ترى معاني هذه الأحرف ضمن المشهد الحسي ؟
كيف تنتقل مباشرة من المشهد الحسي إلى المعنى ، مع أن المعنى حاضر في إدراكك ، والمشهد الحسي موضوعي الوجود ؟
لاحظ أن معاني الكلمات تتداعى من مجرد مشاهدتك لها ، وهذا يعني أنك لا تمر باللحظة التي تشاهد فيها الكلمة في وجودها الموضوعي ، فما تراه ليس فقط "المادة" ولكنه أيضاً تأويلك الشخصي لها ، ويبدو أنهما متلازمان.
قس على ذلك كل ما تراه في المشهد الحسي، الحاسوب ، الطاولة ، الغرفة ، الفراغ الذي بينك وبين الأشياء ، أنت لا ترى تقريباً أي شيء كما هو عليه موضوعياً، أنت ترى دائماً العالم من "نظارة" ذهنية لا تفارق بصرك، وبنفس الطريقة ، تسمع من "سماعات ذهنية" وتتذوق من لسان ذهني، الذهن يحاصرك تماماً، انفعالاتك ، أفكارك التلقائية ، أحكامك العامة كل ذلك ذهني..
الحقيقة الموضوعية بالكاد تتبدى في أحيان نادرة ، مثل الغروب في مساء وحيد ، أو يقظة عند الفجر حين يسمح سكون العالم بنثر عبق الشعور في دهاليز الأذهن .. ولكن الزمن المنقضي منذ لحظة مجيئك إلى العالم وإلى هذه اللحظة ضاع تقريباً في "ذهنك".
المشاكل الاجتماعية ، تحديات العصر ، ما يتم نقاشه بجدية هنا وهناك ، هو بالكامل بناء عالمي ذهني ، منفصل عن الواقع الموضوعي.
معرفتك التي تثق بها ، ما تلقيته في النظام التعليمي الحكومي، الأخلاقيات ، كل ذلك يأتي من "الخوذة الذهنية" التي تعيد تشكيل الواقع بطريقة قد تكون بعيدة جداً عنه.
ومن هذا المنطلق فإنني أدعوك إلى إعادة التبصر في عالمك مرة أخرى ، من دون أحكام مسبقة ، من دون ادعاءات ، ومن دون الثقة بسلطات معرفية … انظر إلى الأشياء وأدرك حقائقها كما تكون ..
وابدأ بالطبيعة نفسها …
لاحظ أن فكرتك عن "العالم الطبيعي" موجودة في ذهنك ، وليست في العالم الطبيعي ..
فكرتك عن أن هذا العالم مفهوم ، أو ثابت ، أو صلب ، أو حقيقي كما يتبدى بظاهره ، هي قراءتك الخاصة للعالم المرصود والمدرك ..
يقولون في الفينومينولوجيا أن معرفة الحقيقة تقتضي أولاً "عزل" ما هو ذهني عن ما هو "مُعطى واقعي" واستبصار الواقع من موقف لاأدري ، يحاول كشف غموضه وكُنه المادة ، وهذا العزل يسمى ب"الوضع بين قوسين" فأنت تضع الأحكام المسبقة التي تتبناها عن العالم والوجود والطبيعة بين قوسين ، تعلق الحكم إلى حين تتحرى الدقة الكافية لإدراك نهائي.
وابدأ بالمقالة التي أمامك …
أين يقع المعنى الذي تعتقد أن الأحرف تدل عليه ؟
صلة الوصل بين المراقب وبين الأحرف والكلمات و"الرموز" هي "المُشاهدة الحسية".
إدراك المعطيات المادية ( الأحرف والكلمات ) ضمن المشهد هو اتصال مباشر في الزمن الحاضر حسياً هنا والآن.
الإدراك يتصل مع "الصورة التي يشاهدها الوعي في زمن الآن".
التأمل في الصورة لبعض الوقت ..
هل ترى هذه الصورة ؟
أريدك أن تقول لي … من أين جاءت هذه الصورة إلى إدراكك المباشر ؟
لاحظ أن تكوّن الصورة نفسها حدث في ما وراء المشهد الذي تدركه ، ولم تشاهد العمليات التي حققت هذا التكوين ، سواء من ناحية الوجود وكيف أدى إلى هندسة كونية طبيعية تجسدت عبر الزمن في ذات المشهد المنظور ، أو من ناحية "المصور البشري" و"الناقل البشري" أو "الحاسوبي" الذين ساهموا بوصول الصورة إليك الآن.
كل هذا الزمن غائب عن حدود المشهد ، وكلما يمكن معرفته عقلياً من إطار المشهد هو "التخمين والظن" عن كيفية وصوله إليك ، لكنك لا تعلم بالتأكيد كيف حقاً وصل إليك ، إذ هناك أسئلة كثيرة عميقة تطرح نفسها ، مثلاً ، من الذي وضع قانوناً في الطبيعة أن الشجرة لها هذا الشكل بالذات ؟ أصلاً من أين تأتي الخصائص الجوهرية للأشكال والألوان والتراكيب الزمنية ؟ هذه أمور "هيكلية" ومنظمة ، وهذه الهياكل "جوهرية الوجود" أي أنها لم تتواجد عبر التاريخ ، شكل الشجرة لا يتعلق بتاريخ الكون ، بقدر ما يتعلق ب"بناء الكون" وكذلك شكل المستطيل والدائرة والخط المستقيم ، واللون الأخضر والأحمر والأزرق..
حتى إذا قلنا إن الشكل الخاص بالشجرة جاء نتيجة تطور ، فإنه لم يكن متاحاً للأشجار أن تكون بخلاف ذلك ، فحتى تحدث عملية التركيب الضوئي لابد من أوراق خفيفة نسبياً، وهذا يعني أن تكون"صغيرة" و"كثيرة" وهذا سيقودنا نحو الفروع والفروع ستقود نحو الجذع والجذع نحو الجذر، لا يمكن للشجرة أن تكون على شكل "مكعّب" ليس فقط لأن التطور أودى بها لهذا التكوين، بل لأن المكعب لا يتوافق جوهرياً مع دور الشجرة في الطبيعة.
الخصائص الجوهرية للأشكال ، وللعلاقات ، وللماهيات ، رغم أنها ملاحظة ضمن حدود المشهد ، ولكنها "جوهرية" لم يكن يسع الكون أن يحقق تصميماً مختلفاً، إلا بحالة أن يختلف نظام الكون بأسره، وهذه العلاقة العضوية بين مكونات نظام الكون هي السبب الحقيقي في أن نقول إن "الكون" مصمم ليسمح بهذا التجلي بالتحديد.
الوجود الذي يعطي للكون تصميمه ، وقوامه المادي ، وقدرته على الظهور والتفاعل والتواجد هو "الوجود الباطني"
قد يتمكن الإنسان من نكران الوجود الباطني إذا التزم حدود المشهد، ولكن هذا النكران من النوع "الساذج" من الأحكام المنطقية التي لا سبب لها سوى "عدم استبصار المشهد" ، فلو أنه أبصره فهناك عدد لا بأس به من الاسئلة لابد وتطرح نفسها عليه ، بقوة..
وهذه الأسئلة لا تتوقف على مشهد معين ، كل شيء يمكن مشاهدته سيطرح نفس الأسئلة، سواء كانت الذرة أو المجرة ، أو رقاقة إلكترونية ، أو ماكينة خياطة ، أو حتى بعض الأحجار المتناثرة … كلها ذات وجود باطني يخبر به الوجود الظاهري ، ويبدأ فهم العلاقة بين الظاهر والباطن في اللحظة التي يتم فيها الانتباه إلى أن الظاهرة المشاهدة هي "حضور" للإدراك، حدث حضورها كنتيجة لتفاعل ما بين "الإدراك وأجهزته" وما بين "الوجود الموضوعي الباطني"، لأن الحدث لا يُعلل نفسه ، هناك حتماً علة أحضرت الظاهرة الحسية بموجبها إلى المساحة المشاهدة للإدراك ، فنتج المشهد "هنا والآن" بالنسبة للإدراك، وهذا يعني ، هناك وجود ما وراء المشهد الحسي ، وهناك "زمن" أو "تفاعل" حدث في ذلك الوجود..
هذه ليست نتائج منطقية ، هذه معطيات تقتضيها الصورة المشاهدة نفسها ، عندم يتم ردها إلى "الإطار الزمني" بما هي حضور ، وبالتالي "حدث" والإدراك هو الذي يخبرك أن الحدث ينتج من تفاعل ، وأن الوجود الغير مشاهد يختلف عن الوجود المشاهد نوعياً ، أي ليس فقط في الزمان والمكان ، بل حتى في "الكيف" فهو ليس ظاهرة حسية للإدراك ، لأنه متى كان كذلك فقد الفاصل الزمني بين حدثية ظهوره وحدثية تكوينه ، فلابد أن يكون التكوين أسبق من الظهور قليلاً ، فما نعنيه بالوجود الباطني ، ليس "إكمال المشهد الحسي" بل "إكمال المشهد التكويني".
فهناك وجود باطن غير قابل للتمظهر ، وبالتالي لا يمكن رصده بأجهزة حسية كنتيجة تفاعله مع الإنسان.
هذا الوجود-الزمن الباطني ، غير محتوىً في المكان والزمان القابلان للرصد ، فليس له ثلاثة أبعاد مكانية ولا مسار أحداث زمنية .. أي وبعبارة دقيقة جداً : الزمن الباطن يخفي سره ما وراء الزمن …
ما المنطلق الذي يؤدي إلى التساؤل عن الحقيقة المطلقة ؟
أو لماذا يحس الإنسان بأنه لا يعلم الحقيقة …
الصورة المحسوسة موجودة (الآن) أمام الوعي مباشرة، حاضرة إليه في زمنه الحالي، متزامنة مع إدراكه، لا فاصل زمني أو وجودي بين الإدراك وبين "حضورية المشهد". ولكن من أين جاء هذا المشهد ؟ هذا ما لا تعلمه …ما الذي يعنيه هذا المشهد ؟ هذا ما لا تعلمه ..
ما نتناوله بالبحث الآن لن يكون "حقيقة الواقع الفيزيائي" ولكن سيكون "الاقتدار الذاتي على التفريق بين الحق والظن (المعرفة النسبية)" ولننطلق من قاعدة : الإحساس بالحق والتفريق بينه وبين الظنون يبدأ من إحساس وإدراك الاختلاف بين (المَشهد/الشهادة) و(ما وراء المشهد/الغيب)، وبين (الحالات الزمنية الحضورية) و(زمن الغياب- الغير معلوم على أي نحو) .. وإدراك هذه المعاني هو ما يسمح بالتفريق بين الحق المشاهد في (الزمن الحاضر) والحق الخفي (في باطن هذا الزمن - الغيب) واختلافهما عن الظن (التوجه إلى زمن الغياب/الافتراضي) وعلى هذا النحو ، ما نريده فعلاً هو أن نعيد السؤال عن الحقيقة المطلقة من حالته الهلامية الأدبية الشاعرية إلى منطلقه العلمي الإدراكي الذي جاء منه في بداية الأمر، أثناء التجربة الحيوية للوعي، حتى يتضح بالضبط ما الذي يتم البحث عنه في عنوان "الحقيقة المطلقة" ولماذا وكيف ...
وقبل كل شيء، إدراك الحقيقة خاصية من خاصيات "الوعي"، وهو بذلك لا يحتاج إلى أكثر من إيقاظ الوعي، لكن هذا الوعي نادراً ما يكون وعياً متيقظاً ونقياً في الوقت نفسه ( يقظة الوعي هي انتباهه للزمن الآن ، ونقاؤه هو عدم التوجه نحو موضوعات جزئية من الواقع المعاش بدوافع مادية، ولا يشغله التفكير في شيء ما من العالم المادي الظاهري ) ، الوعي في الإنسان ، غالباً يكون متيقظاً في اللحظة التي لا يكون فيها ألم ، فإذا كان هناك ألم فإنه يتشتت وينام ، والوعي النقي يعي الالم قبل اللذة ، لأنه ليس أنانياً ، وهذا ما يجعله غير قادر على اليقظة ، والطريقة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة علمياً هي الجمع بين النقاء واليقظة (الإدراك والتركيز)..
هذا المنطق الإلهي قرر أن يكون الطريق العابر نحو الحقيقة هو (التجرّد والإلتزام) تجرد الوعي من المعرفة الغير حقيقية، ومن الرغبات الغير نابعة من الحقيقة ، المشاغل .. والعواطف ، ولكنه يبقى متيقظ .. لا ينام، وهذا يجعل الطريق نحو الحقيقة عملي ، لا نظري وقيمي ، لا تقني.
المشهد الحسي المحدود هادئ .. بسيط ، سكوني ومحدد ومقتضب .. الظواهر التي تراها في حدود المشهد تبدو نتائج لأحداث سبقتها في الوقوع، هذا يعطيك القدرة على التفريق بين "ما تبدو" عليه الكائنات المحسوسة والمشاهدة، وبين "ما تكون" عليه في حقيقتها.
الصورة التي تشاهدها الحواس هي : ما "يبدو" الكائن عليه ظاهرياً بعد مرور زمن التكوين الباطني، تفاعل الوجود والمراقب الواعي أحضر هذه الصورة بالذات لإدراك هذا المراقِب بالذات، إذن هناك عاملان يؤديان لاختلاف تكوين الصورة عن ما قرره مصدرها الأصلي :
1. المراقب قطب فاعلٌ في إدراك الصورة وتكوينها، سواء من حيث اختيار الموقع في الزمكان ، أو من حيث قدراته الفردية على الرصد ، و تدخل أجهزته الإدراكية و تأويلاته الخاصة بتكوين الصورة، أو من حيث هويته الحقيقية التي تعلل نوعية الاتصال بالوجود، فتجعله اتصال إنساني - فائق - حضوري - غيابي - ذاتي - موضوعي ….
2. العلاقة بين الذات والوجود : جوهرية في تكوين الصور المرصودة ، حيث أي تأثير من الكون أو الوجود على الخط الزمني الناقل للمعلومات من مصدرها إلى الوعي الذاتي المتلقي يستطيع أن يغير هذه المعلومات بقدر قوة تأثيره ، وقد تتغير الصورة كلياً قبل حتى أن تصل المراقب، لسبب خارج حدود العلاقة بين المراقب والموضوع. وكذلك ، لا دليل يمكنه أن يثبت قطعاً أن المشهد قد حضر للراصد دون "تدخل خارجي" أو "تأثير بيئي" قام بتغييره.
كينونة الإدراك، والمسافة الفاصلة بين الوجود والمراقب الواعي هي التي تحدد "الطبيعة الظاهرية" للأشياء.
المشهد هو وجه ظاهري ل"الحقيقة النهائية" ..
الوجود رباعي التكوين كما يتجلى في مشهد بسيط :
الوجود المشاهد ، علم الشهادة : ما يظهر حسياً (وعقلياً) ضمن حدود المشهد نفسه.
الوجود الباطني ، علم الغيب : الزمن التكويني المشؤول عن تصميم وبعث المشهد الحسي.
الوجود الغائب ، الموضوعي : هو بقية الزمكان ، التي لا تختلف بشيء عن المشهد إلا أنها غير حاضرة ضمنه ، مثل مشهد ما يقع الآن في كوكب الأرض ، ولا يظهره المشهد المباشر.
الوجود "المَصدَري" ، المشهد في حالته التكوينية الأساسية ، قبل أن يتعرض لاحتمال تدخل العوامل البيئية والغريبة في تكوينه (المشهد ما قبل لحظة الرصد).
كل هذه الأنواع من الوجود يخبر بها مشهد بسيط .. ليس للذهن دور في تحديد هذه الأنواع من الوجود ، إنها علم نقي، تدركه مباشرة من دون وسيط أو حالة من الاستدلال ، ولكن يحتاج الأمر إلى "تفكّر" و"تأمل" وهذا ما يريد المنهج الإدراكي تحقيقه.
حدود المعرفة المتحصلة من المشاهد الظاهرية … أين يختفي دور الذهن في العلم والقرار ؟
إذا تأملت الآن بظاهر الكلمات الحسي أمامك من حيث هي عناصر ضمن المشهد الذي تراه ، فإن المعاني التي يقصدها المؤلف من كلماته متزامنة مع إدراكه الشخصي وموجودة في فضائه الذاتي، أما بالنسبة للقارئ المنفصل عن ذات الكاتب والذي لا يتصل مباشرة مع وعيه، فالكلمة "ظاهرة مادية حسية" لا يوجد المعنى في ذات ظهورها، ولكن حين تؤخذ كـ"رمز" يمكن للوعي أن يبحث عن معناها أو يتذكره أو يستدل عليه منها.
وجود الكلمات نفسه بالنسبة للمراقب هو وجود ضمن المشهد فهو لا الكلمات إلا لحظة مشاهدتها ويمكن القول إنها بالنسبة له موجودة فقط عندما يشاهدها، وهذا يعني أن طبيعة وجودها ما وراء المشهد قد تكون مختلفة قليلا أو كثيرا عن طبيعتها كما يعرفها القارئ والمراقب.
بعض الرؤى المسهبة في التأمل بطبيعة الإدراك تزعم أن الراصد لا يمكنه التأكد من وجود الكلمات خارج المشهد ولحظة رصده، إن هو سيعتمد فقط على ما يظهر له للإثبات، أي أن الظاهر وحده لا يكفي لإثبات أو معرفة ما يتجاوزه.
ما يحضر إلى الوعي هو ظاهر الكلمة الحسي ومعناها حسب الفهم الشخصي والذاكرة الخاصة، ولكي يعلم الوعي معنى الكلمة يستعين ب"ما يعرفه" عنها مسبقاً، وما يرتبط بالكلمة ، وقد يدرَك المعنى من سياق الكلام أو من "القراءة الحدسية"، ولكن الكلمة بحد وجودها الظاهر تبقى بالنسبة للقارئ موجودةَ في "عالمه الخاص".. ومعناها موجود في عالمه الخاص.
على هذا النحو ، العلم هو الوجود المشهود ، والمشهد هو "الزمن والوجود" الحاضر إلى وعيك، وقد يكون المشهد مادة وتكون المشاهدة حسية ، وقد يكون المشهد فكرة وتكون مشاهدة عقلية، وقد يكون غير ذلك .. لكن المهم ، أن "المعلومات محايثة للوعي والإدراك زمنياً".
إذا لم يكن الموضوع الظاهري (الرمز أو المعنى) محايثاً للإدراك فلن يكون "علماً"..
المحايث-الحاضر هو المتحد زمنياً، دون وجود "بَون" يفصل بينه وبين وعي الذات التي يحايثها.
وهكذا يمكن تعريف العلم : "حضور ذات الوجود المعلوم للذات العالِمة".
الحضور هو اتصال زمني يوحِّد بين الذات والوجود.
العلم هو "الاتصال الحيوي" مع الزمن بالمعنى الأعم :
وربما يعتري الذهن تفكير بأنه كيف يمكن للذكريات أن تكون معلومة إذن ؟ والحقيقة أن "الذكريات" تكون معلومة لحظة تذكرها ، وفي تلك اللحظة بالذات تحضر الذكريات إلى الإدراك في مشهد، ورغم أن المشهد الخاص بالذكريات غير متصل مع "الوجود الموضوعي الراهن" ولكنه حاضر في زمن الآن بالمعنى الكبير، الذي تشترك الذات في صناعته مع الوجود الموضوعي.
وربما تعتقد أن "معرفة الشيء" لا تقتضي "حضوره" كضرورة بل يمكن أن ينوب عنه موضوع آخر "الترميز" بدليل معرفة وعي فردي بموضوع غائب عنه بوساطة رموز تنوب عن الغائب، مثل معرفة إنسان بـ"الفايروس سي" رغم أنه ربما لم يشاهده على أي نحو، ولكن هل فعلاً أنت تعلم ب"الفايروس سي" أم تعلم بـ"مفهوم ذهني" يشرح ويصوّر لك ما معنى الفايروس سي ؟
ما يحضر إلى إدراكك الآن هو "المفهوم الذهني" عن الموضوع الذي يغيب عنك زمنياً، وهذا المفهوم الذهني يزعم أنه منطبق على وجود موضوعي غيابي "الفايروس سي" وهذا الزعم يمكن أن يكون صادقاً ، ويمكن أن لا يكون.
وسواء كان صادقا أو كاذبا فإنه "منفصل في الوجود" عن الموضوع الذي يرمز إليه، وهذا يعني أن معرفة مفهوم صادق لن تكون علما بالشيء بل ستكون علما ب(العلاقة) التي يختص بها ذلك الموضوع الغائب.
وكما ترى … العلم لا يكون صادقاً ولا كاذباً ، لأن ذات الموضوع تكون حاضرة للإدراك ، فهي أقرب من الأدلة والبراهين والإثباتات التي تتوسط بين الموضوع الغائب والذات العالمة.
الموضوع المعلوم أقرب للذات من مجال الشك وأدواته، فإنك تعلم "كيف تشك" وما معنى الشك بالعلم الحضوري، فالشك أصلاً يأخذ معناه من إدراك الفرق بين "العلم المباشر" والمعرفة التخمينية"، والفرق بين "ذات الموضوع" و"صورته"، بحيث أن الشك يعني بالضبط : "عدم ثبوت الحكم أو القضية أو الوجود على نحو نهائي" والثبوت يعني : نسب القضية إلى الحق" والحق تعلم أنه الحق بذاته ثم تقيس الأمور عل ميزانه، وهذا يعني أنك تدرك قيمة الحق حضورياً ولا تستدل عليها، وإلا فلا معنى لكل الأحكام ولا للشك ولا للإثبات، كل هذه المعاني تتمحور حول الحق، وما لم تعلم ما تعنيه كلمة"الحق" فلن تعلم ما تعنيه بقية الكلمات. يجب أن يكون معنى كلمة "الحق" مدركاً إدراكاً حضورياً في زمن الآن وهذا لأنه إذا لم يكن من العلم الحضوري فهو "ليس حاضراً بحقيقته بل بصورته" وحينها لن يكون لوصفه بالحق معنى.
إذن كيف تعلم بالأمور الغائبة عنك : كيف تعلم بوجود "أمريكا" إذا كنت تعيش حالياً في مدينة عربية ولم يسبق لك أن زرتها ؟
ما تعلمه بالضبط ، متوقف على ما يخبر به المشهد، وبما أن المشهد الذي تعلمه لا يوفر اتصالاً زمنياً مباشراً مع أمريكا ، فأنت "لا تعلم مشهد أمريكا" ولكنك تعلم "مشهد أفكارك وتصوراتك الشخصية عن أمريكا"، المقترنة بالصور الفوتوغرافية والأحاديث الخاصة والعامة والتي جاءت إلى زمن إدراكك الذاتي.
حتى ولو زرت أمريكا أنت تعلم ذكرياتك عن أمريكا وما شهدته وليس أمريكا نفسها خارج إدراكك ومشهادتك.
الموسوعة الخاصة بك عن "أمريكا وأوربا والصين والهند" وعن "التاريخ القديم والوسيط والحديث" وعن "الأجرام الفلكية والكواكب والمجرات والذرات" وعن "الخلايا والفايروسات والحيوانات" وعن بقية الأشخاص الذين تعلمهم ولا تعلمهم، وكذلك عن الميتافيزيقا والغيبيات والباطن ومفهومك للوجود والحياة والعالمين، هي علوم حضورية بالنسبة لإدراكك، ولكن ما تعلمه منها يقع ضمن حدود إطار المشهد، أي أن معلوماتك تكوّن قسماً من مشهدك، وليس قسماً من الواقع الحقيقي، إلا إذا انصل المشهد بالواقع الحقيقي على نحو ما …، وسواء كان هذا العلم صادقاً أو كاذباً بالنسبة للغيب فإنك لا تستطيع أن تعلم ما وراء موسوعتك وأنت موجود ضمن حدود مشهدك الخاص.
ولكي تعلم الحقيقة لابد أولاً أن تدرك أن الشهود والكشف هو الطريق الوحيد إليها … وأن مشهدك يجب أن يتحرر من حدوده وقيوده وأن "موسوعتك العلمية المحايثة لإدراكك" منفصلة زمنياً ووجودياً عن "الوجود بذاته".
علمك ب"مفهوم" الفايروس ليس بالشيء الذي يجدر الشك به، لأن المفهوم حاضر أمام الوعي مباشرة "ضمن المشهد المحايث للإدراك" لكن هل هو موجود فقط أمام الوعي؟ أم يحكي بصدق على العالم الخارجي ؟..
العلم هو اتصال حيوي ذاتي - موضوعية الكائن تمنع إمكانية العلم به :
المجال الواقع بين المعرفة المشاهدة (الذاتية) والوجود الغيابي (الموضوعي) هو مجال المعرفة الذهنية، يقوم على "الظن والافتراضات" ، وهذا ما يجعل التشكيك به ممكنا، وتطبيق مبدأ "التحقق الموضوعي" عليه مجديا، كما يمكن أن يكون صادقاً وكاذباً، ويمكن أن يكون مرجحاً أو مستبعداً، والمعرفة الموضوعية هي المعرفة الموجودة في هذا المجال الذهني (الواصل بين المشهد الحاضر والوجود الغيابي) والمنهجية العلمية يمكن الاستفادة من تطبيقها فقط ضمن حدود هذا المجال.
العلم الطبيعي هو معرفة من هذا القبيل، أي أنها مفاهيم ذهنية شخصية، وقد لا يكون بينها وبين الوجود الحق أي اتصال، ولكن يتم فحص مدى اتصالها بالوجود الحق (اتصال الصورة بالمصدر) بمبدأ "التحقق" من صحة المفهوم باختبار نتائجه ضمن "المشهَد الظاهري". فلديك المشهد الظاهري ، ولديك مفاهيم عقلية عنه، ولكي تتحقق من مدى صدقها به فإنك تختبر وجودها في المشهد الظاهر، وهذا يعني أن المعرفة الموضوعية هي "تمثيل ذهني" للمشهد الظاهري الموضوعي".
التعريف الدقيق للمعرفة الموضوعية هو "الظن الممنهج" الذي يحاول الارتقاء بالظنون إلى أقصى مستوى من المصداقية والتنقية من الأخطاء والتعقيدات والتنفيرات. ولكنه يبقى ظناً.
الحقيقة المطلقة تدرك بالحضور :
الركيزة الأساسية لأي محاولة للبحث عن الحقيقة المطلقة هي إدراك وجود ذلك الفرق الجوهري بين "المشهد الحاضر إدراكياً" وبين المصدر الذي ينبعث منه هذا المشهد.
المشهد هو ما يحضر للوعي في اتحاد زمني يجمع بينهما، المصدر الحقيقي الذي "يرسل المشهد إلى الوعي" ، أي "يخلقه" ، غير موجود ضمن حدود المشهد نفسه، وبما أن المشهد متحد بزمن الوعي فقط، لا يمكن إثبات وجود ما في المشهد خارج المشهد نفسه، أو إثبات تطابق تكوين الوجود ما وراء المشهد مع تكوين المشهد نفسه.
ربما انتهى المشهد في اللحظة التي توقف فيها الوعي عن مشاهدته..
ربما بدأ المشهد في اللحظة الاي اتصل فيها الوعي به.
ربما تكون المشهد بتفاعل معقد غير مسار العلاقة الأساسي بين الوعي والوجود.
ربما انبعث المشهد من الوعي أو من العقل وليس له وجود وراء ذلك.
ربما المشهد هو محاكاة لأنظمة عميقة.
ربما المشهد ينبعث من ذاكرة الكون، وليس من حاضره.
ربما الدلالات الحقيقية للمشهد تختلف جوهرياً عن الدلالات التي "يعتقد المراقب" أن المشهد يخبر بها.
هذه الاحتمالات عصية حتى على محض التفكير بها بالنسبة لعموم الإنسان ، ومع ذلك فهناك صفة جوهرية عن المشهد الذي تدركه تخبر بها هذه الاحتمالات : أولاً أن المشهد ليس كاملاً ، ثانياً أن المشهد ليس مستقلاً ، ثالثاً أن العلاقة بين المشهد والجوهر الذي ينبعث منه ذات طبيعة سائلة.
وهكذا هناك "قطيعة" بين المشهد في حدوده الظاهرة، وبين "الوجود" ، والحق الحاضر للإدراك هو المشهد فقط.. ولكن هناك ما وراءه، إنه "الحق الغيبي".
الطريقة الوحيدة للرحيل إلى الحقيقة دون تجاوز المشهد هي تحريره من التقييد بالعالم الهلامي الذي يعيش فيه الفرد أغلب حياته، وتحويله إلى "بوابة للحقيقة" فلا تشاهد إلا الحقيقة وتدريجياً ، تتصاعد هذه الحقيقة في التجلي والبيان.
إن كان هناك "عناصر متعالية أو طبيعة مطلقة" تتجلى عبر المشهد على نحو من الأنحاء فيمكن الوصول من خلال التركيز عليها إلى إدراك الحقيقة ما وراء المشهد نفسه، أما الظاهر وحده فلا يخبر بشيء إذا أخذ على هيئته الظاهرية.
مصدر المشهد الذي يفترض الوعي أن المشهد يتطابق معه أو على الأقل قريب منه ، يمكن أن يتصل بالمشهد بعلاقة متعالية ، أما إذا كان المصدر غائباً عن المشهد غياباً مُطلقاً وكان المشهد شيئاً آخر تماماً غير جوهره، فإن القطيعة بين المشهد والمصدر ستحول دون أي علم حقيقي يتجاوز حدود المشهد الظاهرية ، وعندها ستكون طبيعة الاتصال بينهما "سائلة" (البون الفاصل بين الجوهر وبين المشهد ذو طبيعة سائلة) تماماً كالبون الذي يفصل بين الكلمة ضمن حدودها الظاهرية والمعنى الذي يُقصد منها، وهذا يمنع تقدير حقيقة المصدر بناء على معطيات المشهد.
ردّ المشهد إلى وجوده المتبدي للذات يجعله غير قابل للتفكيك أو للتجزيء، غير قابل للتراكب مع أشياء تختلف عنه، وفي اللحظة التي يتم فيها تفكيك عناصر الصورة المشاهدة أو تركيبها مع مشهد آخر سوف يتم فقدان حضور المشهد الأصلي بحالته الأوّلية في الزمن الذي يدركه الوعي.. الوعي لا يشاهد الفواصل ولا الروابط إلا إذا توقف عن رؤية الحضور، لأنها غير موجودة في الحضور، ولكنه يشاهد "وحدات زمنية متصلة" مثل "كائنة الفنجان" أو "كائنة الورقة" ويدركها بما هي وِحدة تكوين زمني ، إذا فُككت عن بعضها تتحوّل إلى أمور مختلفة.
يمكن تقسيم "معطيات\أزمنة المشهد" الذي تراه إلى عدة مستويات كل منها له طبيعته الخاصة ، القسم الأعظم من المشهد سيكون في الغالب "مادياً" وهذا يعني أنه مكوّن من "الانطباعات الحسية"، التي تحدث كنوع من تأثير القوى المادية على أجهزة الجسم، والقسم الذي يليه في المساحة سيكون "عقلياً"، وهو الأفكار، وإذا راقبت الفكرة ضمن حدود مشهدها فستدرك على الفور أنها منفصلة عن ما تزعُم أنها تخبرك عنه وترتبط به، وأنها محايثة لك وموجودة أمام إدراكك، على عكس الموضوع الغائب الذي تتوسط بينك وبينه.. وهناك قسم من المشهد، غير حسي ولا عقلي، ولكنه "حيوي" ، يوفّر إحساساً بمعطيات ذات وجود من نوع خاص، لا يتطابق نوعه مع خصائص المحسوسات والمعقولات، وهو ما يسمى ب"القيم" مثل العلم بالمحبة والرحمة والصدق والإخلاص والجمال والروحانية.. والحق.
للفنجان عدة تجليات يمكن أن يدركها الوعي بنفس الوقت ، أولها هي وحدته ككائن منفرد "فنجان" ، ثم الطبيعة الذرية التفكيكية (مجموع الذرات والعناصر الداخلة في تكوين الفنجان) وهاتين الوحدتين الإدراكيتين يمثلان موضوعين علميين، كل منهما له وجوده الخاص وطبيعته المستقلة، فالجانب الذري التجميعي للفنجان ليس هو الفنجان نفسه، إذ يمكن أن يكوّن أشياء وأشكال أخرى، والوحدة الماهوية للفنجان غير مكوّنة من تجمّع الذرات والأجزاء فحسب، بل من طبيعة هذا التجمّع (هيكليته)، لأن طبيعة الفنجان كما يدركها الوعي تختلف عن الطبيعة الذرية، مشهد الفنجان بالنسبة للوعي يختلف عن مشهد المجموع الذري إذ هناك خاصية "التفرّد الكلاني" التي تسمى ب"الغشتالت" حيث الكُل ليس مجموع أجزائه، ولكن هو "الوجود الهيكلي الذي يتفعّل حين تتحد الأجزاء معاً في اتصال زمني محدد".
مشهد الوحدات الكلانية يعني أن الانطباع الناتج عن ترتيب الأجزاء وتفاعلها بختلف عن الانطباع الناتج عن مشهد الأجزاء نفسها، وبما أن معرفة الأجزاء نفسها هي معرفة بالانطباعات الحسية، وبما أن الانطباعات الحسية غير مميّزة عن الانطباعات الإدراكية الأخرى من حيث أن جميع الانطباعات والمعطيات هي في الأساس "حضور للوعي" بغض النظر عن طبيعتها، لا يوجد ما يجعل معرفة الأجزاء "أصلاً" ومعرفة الكليات "فرعاً" فهما متساويان من جهة المشهد والمُشاهد (الوعي)، وكل منهما يخبر بنوع خاص من العلم والوجود.
وسترى أن انطباع الماهية والمادة ضمن حدود المشهد له الرتبة نفسها.
العلم بالكليات هو علم شهودي لا عقلي :
الكليات غير محسوسة، إذ هي شيء آخر غير الأجزاء المدركة بصرياً أو سمعياً، الموسيقى المكونة من تتابع نغمات تعطي وحدة كلانية لا يمكن للسمع إدراكها، ولكن يمكن للوعي إدراكها.
تختلف الكليات عن الأفكار في هذه : أن الافكار وإن كانت غير مادية فهي غير واقعية ، ليست من ذات المشهد ، ولكنها احتمالات تسمح بها فجوات المشهد، توجد في فراغ افتراضي يعتمد على عدم اكتمال المشهد وافتقاره إلى مصدره "الغيب" ليكتمل، الأفكار هي التي تحاول سد الفجوة بين الغيب والشهادة وليس لها "حضور واقعي مباشر للإدراك" ، وجودها الخاص منفصل عن المشهد ، ويقترب من الأوهام والظنون، أما الكليات فتكون حاضرة في ذات المشهد كموضوع أمام الإدراك، له وجود واقعي في المشهد الحاضر للإدراك ، كالانطباعات المادية تماماً.
فماهية الفنجان تتجلى للوعي كـ"واقع" إذا أُخذت من حيث وجودها الكلاني ، ويمكن الإحساس بها ضمن ذات المشهد الحاضر ، وليست افتراضات عن الجانب المفقود منه .. يمكن تمييز تأثيراتها الفريدة والتي لا تتحقق في الماهيات الأخرى _ماهية الشمس والنجم والماء وماكينة الخياطة كل منها مختلف بنائياً ووظيفياً، والسر في أن الماهيات واقعية الوجود هو أنها مكوّنة "العلاقات الهيكلية بين الوحدات الذرية في المشهد" والهيكل يعطي للمشهد قوامه التكويني ويحدد وجوده.
مشهد الزمن الحيوي :
إن أعلى وأقدم وأعم مستوى للوجود ، يتجلى من المشهد المباشر ، هو "مشهد الديمومة"… الزمن الحيوي :
المشهد ذاته يرسم "وحدة كلانية متفرّدة" ، والانطباع الناتج عن إدراكه كوحدة كلانية ينقل الوعي إلى حالة إدراك "زمن الحضور" وإدراك معنى "الزمن" ولذلك يسمى "المشهد في كلانيته الوجودية" بالديمومة.
ما يتجلى في المشهد بكلانيته هو "الزمن الحيوي_الديمومة"، تحس به بنحو حميمي .. تحس فيه بذاتك وهي تراقب المشهد منفصلة عنه وكأنها تشاهد العالم من "شرفتها الداخلية" وهذا يفتح أمام الوعي الذاتي مدارك لآفاق الرؤية الذاتية، إذ أنك الآن غير مقيد بإطار يتم تلقينه لك من الخارج، ذلك بأن الخارج كله يغدو محتوىً في "زمن المشهد الحيوي" ، بما في ذلك الناس، ومعارفهم، وكلماتهم، وأحكامهم، وهذا "العزل الإدراكي" للذات عن المشهد هو ما يسمح لك بإدراك معنى الحضور من حيث هو "العلاقة بينك وبين المشهد" وإدراك معنى "الوجود" من حيث هو المشهد وما يتجاوزه، و"وحدة الوجود" من حيث أن ذاتك والمشهد وما يتجوزه متحدون في الحقيقة الجوهرية فكلكم تنتمون إلى "الوجود".
هذا يجعلك في حالة شك ويقين بنفس الوقت، فمن جهة معينة، إنك لا تدرك أي حضور خارج حدود المشهد نفسه، وعلى هذا النحو فقد لا يكون للكائنات التي تراها وجود إلا لحظة رصدك لها، وكما ترى فالمكان محتوىً ضمن المشهد، ولكن الزمان يوجد في "الاتصال بالمشهد" ولذلك يمكنك تخلي اللامكان أو معرفته، ولكن لا يمكنك تخيل "اللازمان" لأن الوجود يعني على الأقل قيمة "الحضور" وهكذا يكون الزمن وجهاً من وجوه الوجود، وعلى هذا النحو فقد يمكن عزل المعرفة المقترنة بالمكان عزلاً نهائياً لأنها محتواة في اللحظة الراهنة، تدرك أنها غير موجودة خارج المشهد نفسه، أو على الأقل حقيقتها الجوهرية (المصدر) تختلف نهائياً عن ظاهرها المُدرَك، فما تشاهده قد يكون في الحقيقة صادراً من عقلك - آلة ما - جني ما - من ذاتك الحقيقية - من أمر لا يمكن تخيله أو معرفته" وفي كل الأحوال لن تعرف أبداً حقيقة المشهد الجوهرية، إلا في اللحظة التي تحرر فيها إدراكك من الحدود المفروضة على
المشهد.
ومن الجهة الأخرى، فالمشهد في وحدته الكلانية ودون الانتقال إلى "ما وراءه" يكون يقينياً بقدر ما يمكنك الإحساس به حيوياً، وبقدر ما أنه متصل بحضورك اتصالاً مباشراً من دون وسيط، وقد يبدو ذلك العلم قليل المعطيات
في البداية، لكن عندما تتأمل في المشهد جيداً وفي تفاعلك وعلاقتك الزمنية معه، تدرك أن التركيز المكثّف على "حالة حضور المشهد" واتخاذ موقف اللاأدرية من ما وراءها يفتح الباب أمام التركيز على "المعاني الحيوية" مثل الذات والبون والوجود والزمن والإدراك والحضور والغياب ، والتي ليس لها دلالة عقلية أو مادية لأنها شمولة جداً ومتأصلة للغاية ، فهي أسبق من باقي المعاني ، وحين تتفاعل معها ستجد أنها الباب الوحيد للعبور نحو الحقيقة المطلقة ، لأنها تصل بين "الكون المحسوس ضمن المشهد" وبين "الوجود الكلاني" وتفتح أمامك أدوات ووسائل مختلفة لا تعتمد على الموضوعية.
الاغتراب هو "الجـهـل الـحيـوي" :
المشهد صورة ، والصورة مقسّمة إلى مادة (الوحدات الذرية) وعقل (الوحدات الكلانية) وروح (الديمومة - الزمن الحيوي) ، كل نوع من هذه التجليات للصورة يعطي علماً إدراكياً (حضورياً) متفرداً، ولكنها جميعاً تتسم بالحياة والاتصال الزمني مع الذات.
إن الاغتراب عن الذات هو الخروج من زمن الديمومة الحيوي إلى حالات زمنية غيابية يتم التركيز فيها على رغبات لا حياة فيها ، مثل الرغبات المتمحورة حول "الأنا" وإن الطريقة التي تجعلك تتصل مع زمن الديمومة هي أن لا يكون محور حياتك هو "الأنا" وإنما القيم … فالقيم هي أسماء الله وتجلياته وإنما عُرف الله بها {( بنا عرف الله … بنا عبد الله )ْ}.
عندما لا يكون تفاعل الإنسان موجهاً نحو القيم ، نحو تحقيقها في العالم والأنس بها في حياته ، فمن الطبيعي أن يحس بالاغتراب الوجودي، لأن كل ما يتبقى بعد دفئ القيم هو الشتاء والضباب اللانهائي للرموز المعزولة عن قيميتها ومعنائيتها.
عندما تتواصل مع القيم وزمن الآن تبدأ بإدراك أن القيم هي الحقيقة الجوهرية للأشياء والكائنات والأحداث ، ولكن عندما تُعزَل الصورة المرصودة عن الوجود الكلاني ويتم اعتبارها موضوعاً منفرداً منطوياً في ظاهرته الرمزية فستغيب الحقيقة الجوهرية ، وما أحدثك عنه الآن هو "جانب علمي" وليس شاعرياً أو وعظياً، ذ أن العلم الحقيقي هو العلم المتجلي في لحظة الصمت ، حين تظهر الحقيقة السكونية الواحدية للموجودات والوجود.
وفعلاً، العرفان يستخدم الطريق الفني والرومانسي للوصول إلى هذا العلم ، ولكن السبب الحقيقي هو أن العلم بالمستوى الحقيقي من الوجود يمحو المعالم الظاهرية المجزءأة ويبقى فط على الحياة والقيم، فالحقيقة النهئية للوجود حيوية قيمية، تتجلى من حضور الله في الزمن الأعظم، فالعلم بالحقيقة والعلم بالقيم والجمال هو علم واحد… علم الحياة القيمية ، علم الوجود الكلاني … أو العرفان الحيوي.
الهوامش
0 تعليقات