Advertisement

Main Ad

رؤية إدراكية لمنظومة العلوم : الفرق بين العلوم الذاتية والموضوعية والفرق بين الوقائع التجريدية والمادية

طالما يكون الحديث عن الموضوعية، فنحن أصلاً خرجنا من دائرة اليقينيات ودخلنا دائرة الشك ، لذلك لا توجد في المعرفة الموضوعية أو العلم الموضوعي حقيقة مطلقة.

هناك ثلاثة أنواع للزمان ضمن نطاق الكون الذي تحيا فيه، ثمة لديك الزمن الموضوعي المحلي، الذي تدرسه الفيزياء عبر التجارب والإحصاء. وهناك ذلك الزمن التجريدي التكويني، الذي تدرسه علوم أخرى غير الفيزياء، ولكن الفيزياء تساهم في إماطة اللثام عنه وكشف تأثيره على هذا الوجود وكشف معالمه، كانت تسمى العلوم التي تدارسته قديما بالفيزيقا أو فلسفة الطبيعة، وهذه العلوم منصهرة في عوالم التجريد التي تبحث فيها العلوم الفلسفية العليا "الأنطولوجيا والكوزمولوجيا" وكذلك الرياضيات والمنطقيات،وأحيانا وفي حديث عصرنا أصبحت هذه العلوم تسمى بالماجِك Magic أو الغنوص Occult أو العلوم الغامضة Mystical Science.

إن الفرق بين الزمنين المجرد والمحلي، هو أن المحليات أو كما تسمى "المواد" هي كائنات موضوعية ضمن الزمن المحلي، وقولك عن شيء أنه موضوعي بالنسبة لك يستوي مع أن تقول أن هذا الشيء "مفارق لإدراكك المباشر". أي أنك لا تدركه بحد ذاته ولكن تدرك صورته. وهذه نقطة ضعف في معرفة الشيء بالنسبة لإدراكك الذاتي، ونقطة قوة حين تقيس المعرفة بالنسبة لمجموعة مراقبين منفصلين إدراكيا وأنت واحد منهم، حيث أن ما يجمعكم ليس اليقين وإنما الاتفاق التفاعلي ضمن الواقع الذي يغيب فيه الشيء المدروس بذاتيته، وبالتالي يغيب فيه دور الإدراك بما هو إدراك بالحكم على حقيقة الشيء، لذلك يكون الواقع الموضوعي هو الذي يغيب فيه إدراك كل منكم عن الآخر، ويبقى أثر الاتفاق ... فموضوعية الشيء تهوي بالمعرفة إلى منتهى الشك، عندما يكون مرجعك في الحكم هو مدى ثبوت الشيء بالنسبة لإدراك ذاتك، وليس للآخرين.

لأنك أمام خيارين : إما أن يكون البحث العلمي موجهاً نحو الحقيقة المطلقة بأقصى ما يكون، وبالتالي يكون سعيك نحو إدراك ذوات الأمور وليس ظاهراتها، وإما أن يكون بحثك العلمي موجهاً للتكيف مع واقعك الغيابي وبالتالي للتكيف التفاعلي مع البشر، الذين يسعى كل نهم إلى مسايرة واقعه الظني وعصره، واستخدام التاريخ ولو كان مزيفاً في سبيل تحقيق ذلك.

المجتمع يتفاعل مع بعضه البعض بعلاقات، لا يمكن للفرد أن يعيش في مجتمع من البشر ويكون منعزلاً عن رؤية بقية البشر انعزالاً تاماً، وهذا يعني أنه سيحتاج إلى مهنة يقتات منها وغالباً هي وظيفة لها نظام اجتماعي متكامل، سيحتاج للزواج والجنس وبالتالي لرؤية الآخر موضوعياً والتفاهم معه بلغة موجودة موضوعياً وتعبر عن أشياء موضوعية، وسيحتاج للاقتصاد وهو موضوعي بالكامل، وللسياسة وهي نظام موضوعي بالكامل، ولأجل أن يحافظ على بقاء جسده الموضوعي وعلاقاته الموضوعية، التي تشكل وجوده الموضوعي فإنه قد ينسى ذاته تماماً وينسى الوجود وينشغل بالمواضيع الظاهرية كما تبدو عادة، ثم فجأة تقرع بابه نفحات من الفضول ليعرف من يكون، ولأنه كائن نسي نفسه وأصبح مجرد انعكاس موضوعي بسيط، عليه أن يبحث ضمن الموضوعيات نفسها، لذلك يقرر البحث في الفيزياء ولأنه غير قادر على التفرغ بسبب زمنه الموضوعي يقرر أن يقرأ آخر ما كتبته السلطات العلمية من بحوث ومقالات، وأيضاً لكي يحافظ على بنيانه المادي يذهب لطبيب يعالج بالعاقير والجراحة والأشعة، لأنه يثق تماماً بالناحية الموضوعية من وجوده ... ليس لأنها حقيقة، بل لأنها كل ما يراه ويشغله.

هكذا يغيب البعد الذاتي من المعرفة ويبقى الانعكاس الموضوعي للذاتيات، وهو شيء يشبه الظل، لا وجود له بذاته فهو مجرد ظاهرة إدراكية …

المعرفة الموضوعية الظنية مقابل المعرفة البرهانية التجريدية :

تكوينية المعرفة بالعالم المادي تنحو منحيين متوازيين:

    • الأول هو معرفتك بالمعطيات المادية.
    • والثاني هو "تشغيل عقلك وقلبك وإدراكك" للتفكر في هذه المعطيات وتعقلها وفهمها ... واكتشاف الحقيقة والقيم.

إن الحواس المادية والتجريب القائم عليها لا يعطي معرفة حقيقية، ولكنه يعطي "معطيات وانطباعات"، وحتى الإحصاءات ضمن الواقع الموضوعي هي تسجيل للمعطيات، بعد أن تغيب تلك المعطيات واقعياً، بالإضافة إلى أنه يقوم بفرزها والحكم عليها، فالإحصاء والتجريب لا يصنف ضمن المعرفة الحسية نفسها، إنما هو مركب من العقل والمادة معاً.

...............

هياكل التجريد :

إن الواقع المادي الحقيقي لا يمكن له أن يخبرك بشيء، فعندما ترى الظواهر الطبيعية تقوم تلقائياً بالربط بينها واستقراءها واستخلاص الحكم، وكذلك تدركها وتتفهمها وتقيسها رياضياً، فتنسب لها الأرقم والحسابات والمعادلات، والمفاهيم والنظريات والفرضيات، وهذه كلها أمور غير موجودة في نظام المادة المحسوس .. لا يمكنك أن تقول إن "الصدق والكذب" أو "الوجود والانعدام" موجودة موضوعياً، أنت ترى أشياء وتصفها بأنها صادقة أو كاذبة، ولكنك لا ترى الصدق والكذب كتجريدات بعينيك الفيزيائيتين.

أنت ترى الكواكب وتقول إنها كروية، لكنك لا ترى "حقيقة الكرة المجردة عن كائن يتصف بها" بمجرد استخدام نظرك المادي نحو الأمور.. أنت لا ترى المستقيم، لا ترى النقطة، لا ترى المنحني، لا ترى الرقم واحد، ولا ترى المجموعات العددية.. أنت أيضاً لا ترى "الشجرة" إنك ترى شيئاً مادياً تسميه باسم شجرة بناء على معطيات تتعلق بوظائفه، ولكن ما هي الشجرة بحد ذاتها ودون أن ترى مادة تتشكل على مثالها ؟

أنت أيضاً ، لا ترى الطاقة الفاعلة في الأشياء … الكهرباء مثلاً أنت ترى بريقها، والبرق هو فعل الرعد، ولكن الرعد هو طاقة الصاعقة الحقيقية، أما البرق فهو الأثر الناتج عن ضرب قوة الرعد من السماء.

وأنت أيضاً، لا ترى عيونك ولا آذانك، مع أنك تستخدمهم كثيراً حين تقع لك فرصة، ولكنهم لا يظهرون لك نهائياً، وحين تنظر للمرايا في غرفة المعيشة، فما تراه فعلياً هو "انعكاسك الجسدي" وليس أنت، ولا حتى جسدك.

تلك أشياء مجردة عن الفيزياء التي نعرفها وبالتالي إنك لا تراها، لأن الفزياء وإن بحثت في التجريد فهي تنطلق من العوامل الحسية الموضوعية، وحين تخبرك بوجود الطاقة فهي لا ترصدها ولا تعرف حقيقتها ولكن تعرّف لك تأثيرها على المادة ومن خلال هذا التأثير تبني نظرياتها عنها.

شجرة التجريدات :

فهذه هي هياكل التجريد … تسمى أيضاً بالمعقولات أو بالمفاهيم أو بالماهيات، وتنقسم إلى ثلاثة أجناس رئيسة :

  • المعقولات الأولى وهي الطبيعيات : سميت بذلك لأنها الأقرب تآلفاً مع إدراكك المشتت ضمن الموضوع المادي، ومنها ماهية الشجرة، ماهية الحيوان، ماهية المادة والطاقة .. وماهية المكان والزمان والمحل الموضوعي، وتلك القوى والكائنات التي تتحدث عنها قوانين الفيزياء، كالجاذبية والكهرباء والضوء والصوت، تندرج ضمن مستوى الماهيات الطبيعية. يمكن القول إن ماهيات الطبيعة هي التي تشكل كلاً من الخيال والواقع المحسوس، وبذلك تنقسم إلى هياكل الطبيعة الأولية، وهياكل الطبيعة المركبة منها، فالماء والأرض والفضاء والنجوم هي هياكل أولية بنيوية، والزمان والحرارة واليبوسة والروبة والبرودة هي هياكل أولية وظيفية، بينما الإنسان والحيوان والنبات والجماد هي هياكل تركيبية طبيعية وبنيوية، ومن الهياكل التركيبية الطبيعية الوظيفية الأصوات الخاصة بتلك الكائنات، والأفعال والسلوكيات الموضوعية التي تقوم بها، ثم تأتي ماهيات الطبيعة الصناعية، وهي ماهيات أولية كالمسمار والعجلة والسيف والرمح، وماهيات ثانوية مثل السيارة والدراجة والجوال ونحو ذلك، فهذه كلها لها مثلات كونية، لأنها كلها يسمح بها قانون الوجود.
  • المعقولات الثانية المنطقية وهي الرياضيات والمنطقيات : ونعني بالرياضيات أشياء مثل "الكم" و"الرقم" و"الأشكال الهندسية" و"الدوال" والتراكيب العددية والهندسية التخيلية وإلى ما ذلك، ولذلك تقسم الرياضيات إلى ثلاثة أنواع : الكموم المنفصلة وهي الأرقام والأعداد، والكموم المتصلة وهي الهندسيات الإقليدية، والكموم التفاعلية أو المتغيرات، وتشمل الدوال الرياضية والمعادلات التفاضلية من جهة، وكذلك الهندسة اللاإقليدية مثل فضاء هيلبيرت من جهة أخرى. ونعني بالمنطقيات … الأحكام العامة مثل الصدق والكذب والوجود والعدم والحقيقة والوهم، وكذلك نعني الهياكل التفاعلية للمجردات مع بعضها البعض، ومن ذلك التراتب والعموم والخصوص والاستنتاج والاستدلال، وماهيات مثل الكلي والجزئي والمجموعات والمصفوفات ومجموعات الاعداد والفئات والزُمر، وعناصر كل منها أيضاً لها ماهيات تنتمي لعالم المنطق، فكل ذلك كائنات غير موضوعية (بالمعنى الشائع للموضوعية وهو المعادل لأن يكون الموضوع مشروطاً بالانتماء للمادة والمحل). ولكن تلك التجريدات رغم ذلك، تحكم العالم الموضوعي وتؤسس قوانينه.
  • المعقولات الثالثة ، وتسمى بالمعقولات الثانية الفلسفية وهي الوجوديات العليا : التي لا يوجد كائن موضوعي ولا تجريدي يخرج عن حيطتها وشمولها، فلتتخيل معي أن كائناً ما موجود أو معدوم على نحو ما، ما الذي يجب أن يحققه ؟ يجب أن يكون منتمياً لدائرة عليا أو مجموعة كلانية تسمى ب"الوجود المُطلق" والذي يشمل الوجود النسبي والعدم النسبي، وهذا الوجود المطلق هو الجوهر الوحيد، الذي تشترك به سائر العوالم الموضوعية والتجريدية كلها على اختلاف "بحور ومحيطات" تفاعل التشكل اللوني للكائنات التي فيها. وهذه الهياكل تشمل العلل الأولى للزمن والوجود الموضوعي، وجواهر الأمور وبواطن الأشياء وحقائقها مثل الملائكة والمصفوفات العليا ومثل سائر عوالم السماوات العلُا.

فهذه كلها أشياء لم تدرسها في المدرسة ولا في الكلية وحتى ولو كانت كلية الفلسفة أو الرياضيات فلم تسمع بها بهذا الشكل، ولم تسمع بما معنى التجريد، ورغم ذلك فهي التي تعطي للوجود أمامك تماسكه من جهة، وتمايزه من جهة أخرى، فهي تجريدات، أي أنها ليست من المادة، وبما أنك تعيش في عالم المادة فإنك محكوم بنطاقك الزمني النسبي للأرصاد، وبالتالي فحتى تتمكن من التفاعل مع شيء على نحو مادي فيجب أولاً أن يكون مادة، وثانياً أن يدخل حيز أرصادك المادية، لذلك بالنسبة لك : هذه تجريدات.

ولا علاقة للتجريدات لا بالفيل الطائر، ولا بالفيل المجنح، ولا بالحوت الوردي ولا باليرقة الضاحكة الشريرة، تلك الأشياء مجرد ماهيات خيالية تنتمي لفضاء التجريدات، وجودها المحلي ليس محققاً في أرصادك ولذلك تبدو لك مستحيلة، وحتى لو كانت مستحيلة فتكون حينها ماهيات "وهمية" بالنسبة للزمكان المحلي، وذلك لا يعني أنها شيء يحسن أن نقول عليه "تجريد" بالمعنى المعادل للكلمة.

العلوم الموضوعية والإدراك :

لماذا الروبوت ليس بإمكانه أن يفهم المواد وقوانينها من تلقاء نفسه ؟

فهم الوجود المادي بالنسبة للذكاء الاصطناعي ، لا يتم إلا بشرط تزويده بنظام التعلم التلقائي الآلي، هو عبارة عن خوارزميات تقود رود أفعال النظام لتقوم بمهمات معقدة، وهذه المهمات الأتوماتيكية مسيرة لكي تتعامل مع البيئة من أجل مهمة معينة، لذلك تسجل تفاعلات البيئة مع سيعها الآلي لهذه المهمة ثم تعالج تسجيلات تلك التفاعلات بتراتبية معينة ونتيجة المعالجة هي أوامر برمجية الكترونية جديدة، هناك أوامر فقط، لا يوجد إدراك، ولكن يوجد توجيه، نواة التوجيه هي الأوامر الأولى التي زود بها نظام التشغيل وتسمى بلغة البرمجة البدئية.

وهذا النظام لا يفهم الوجود، بل هو مجرد آليات ربط وتخزين للبيانات ، تسجل المعلومات عن المواد التي يرصد جهاز معين قياسات أطيافها وتموجاتها، وهذا التسجيل لا يشبه ذاكرتك، إنه "حفر للأطياف على هيئة رموز من متتاليات كهربائية"، وعقل الروبوت الإلكتروني إنما يحلل هذه الأطياف إلى رموز رقمية ، ثم يعالج الرموز الرقمية بحسب تسلسلها بناء على خوارزميات اللغة البدئية للتعلم التلقائي، فيربط مثلاً بين متتالية ترميز تعبر عن اللون الأحمر في سجلات الأوامر البدئية المختزنة فيه، وبين متتالية رموز الطيف الذي يمر عبر أرصاده ويسجله الجهاز، ثم "يعكس" متحسس خاص بتحليل الطيف هذه الرموز التي رصدها ويقوم بتحويلها إلى جهاز المعالجة وهناك يعرض الجهاز تلك المتتالية الرمزية على المتتالية الرمزية المسجلة في دائرة التخزين، فإذا وافقتها يقوم النبض الكهربائي (وفق معادلة الكهرومغناطيسية الكلاسيكية) بإرسال نبضة معينة لجهاز النطق لدى (الروبوت) فيقول بصوت مختزن فيه : هذا اللون أحمر.

ربما تكون هناك أوامر برمجية أعقد من هذا للروبوتات المحدثة أو المستقبلية مثل تكوين الأصوات أو تكوين القسمات التعبيرية وكافة ردود الأفعال التي تتخيلها ولا تتخيلها، ولكنها مجرد ردود أفعال، لا تختلف عن ردة فعل البندول حينما تسحبه باتجاه معين وتفلته فيسقط نحو الاتجاه الآخر ثم يعود إلى نفس البقة التي انطلق منها، ولكن رد الفعل هذا بسيط، ورد فعل الروبوت تم تعقيده عبر إضافة منحنيات كثيرة تعبر بها ردة الفعل قبل وصولها للمستقر النهائي، فتصبح مختلفة جذرياً عما كانت عليه مسبقاً، إن الذكاء الاصطناعي هو تعبير عن تلك المنحنيات، وهذه المنحنيات يمكن تعديلها لتقوم بتخزين المعلومات، وكذلك بتكوين منحنيات جديدة حسب البيئة، وهو ما يسمى بالتعلم العميق للآلة.

كما ترى فالمسألة انعكاسية تماما، ليس هناك ذرة إحساس أو إدراك، وطبعا لن تعرف ما هو الإدراك حتى تبحث في نفسك وذاتك عن الجواب، لأنه متعلق بمعرفتك الخاصة، فهو ليس كائناً موضوعياً ولا تحدده معرفة المراقبين المنفصلين عنك في إطار المراقبة، هذا إن كنت تملك وعياً فعلياً.

يجب أن يكون الإدراك شيئاً مختلفاً تماماً عن أي فكرة أو موضوع خارجي، وإلا فلا يكون هو الإدراك أصلاً، بل مجرد امتداد للعالم الموضوعي، وبما أنك تحس بالافتراق بينك وبين الموضوعات الخارجية وزمنيتها، فأنت تدركها، لأن إدراكك ليس امتداداً لها ، فركز على منطقة الافتراق بين أحاسيسك التي تتعلق بالعالم الخارجي والتي تتعلق بمراقبتك له.

المعطيات والنماذج :

إذن، بالعودة إلى موضوعنا الأصلي:

نقول إن نموذجك المعرفي عن العالم ، شاملا بالطبع سائر العلوم عبر التاريخ ، وما أحكيه لك من نصوص حالياً، ينقسم إلى "المعطيات" و"النماذج التصورية".. ولنقل إن المعطيات تعتمد فقط على الحواس حين يكون الواقع المعطى مادي، وتصبح معتمدة على العقل في اللحظة التي تتحول فيها من معطيات إلى "نماذج علمية".

المفارقة الحقيقية تبدأ من تكوين النموذج، فهل النموذج مجرد "شيء يتعلق بالمادة" ولا حقيقة له فيما وراء المواد ؟ المذهب الحسي المادي في المعرفة دائماً يكرر هذا الجواب : المادة هي الشيء الوحيد الموجود، وأي تجريد أو إدراك فائق من أي نوع لمعقولات أو كائنات تجريدية أو روحية هو ضباب وأوهام، والمادة هي الشيء الوحيد الموجود من الأزل وإلى الأبد. وبالتالي فالنماذج العلمية لا وجود لها واقعياً، لأنها ليست "معطيات" وإنما "تأويلات ظنية" تحوم حول تلك المعطيات، ولنشأتها آليات معينة تتعلق بالدماغ، مثل تراكب الأفكار وقوانين الترابط، التي تجعل المعطيات المادية تبدو ككلية واحدة حين تشابهها واقترانها، وأن هذا الاشتباه الذي يحصل في العقل إنما مرده إلى تلافيف الدماغ وتكوينيته، التي أدت لتصرفه بتلك الآليات، وهذه التكوينية الدماغية نشأت عن عوامل المصادفة الفيزيائية في تخليقها.

طبعاً هذا ليس علماً، وإنما نوعاً من المنطق الفلسفي الديني الأصولي، الذي يشكل "مصادرة" على التفكير والبحث، فلا يعود لك مجال أن تبحث بغير هذا النطاق الذي حددته فلسفة المادية، أي أنها فلسفة مغلقة ومانعة لأي إبداع فلسفي حقيقي ، أو معرفة تخرج عن سبلها.

وهنا تكمن المشكلة التي تولد الشك في جوهرية المعرفة الموضوعية، لأنه وبالنسبة للإدراك الذاتي، أنت الآن تتعامل مع مواد، لكنها لا تخبر بأي اقتراحات أو معلومات، حقيقية أو حتى وهمية، أنت ترى ذرات متراصة وثبوتة الأرصاد فتسميها شكلاً ومضموناً وتقول هذه غرفة وتلك سيارة، لأنها مرصودة باستمرار على نفس ذلك النحو وتؤدي دائماً نفس المنعطفات ونفس الوظيفة في واقعك.

ولكن شيئاً لا يثبت لك استمرارها على هذا الحال، وشيئاً لا يثبت أنك ترصدها على عين واقعيتها، ولا شيء يمكنه أن يبرهن على أنها موجودة في ذاتها دون إدراكك بشكل موضوعي، نحن نتكلم هنا عن "المعطيات المادية" نفسها، ولا نتكلم عن الجواهر التجريدية والنماذج التصويرية للواقع المادي.

وبما أن الواقع المادي نفسه ليس له ثبوت، فعلى أي أساس ستتثبت من أي معرفة في نطاق أرصاده ؟ هذا أمر مستحيل الوقوع ضمن المنطق المادي، ولذلك كان جواب الماديين " ليس هناك حقيقة مطلقة في هذا الوجود" ليس هناك وعي أو روح، لا وجود للسماوات، ولا وجود للعقل، ولا وجود للأخلاقيات والقيم والحقائق والعدالة والمحبة، هذه كلها لا وجود حقيقي لها وهي مجرد أوهام ، وهكذا جحدوا بالحقيقة قبل أن يبحثوا عنها، وهو سبب معاداتهم لأحاديث القدس والدين، واتخذوها لهواً ولعباً وهم يعرضون.

الخيال والمادة … ما هو الفرق ؟

يشترك الخيال والمادة في كونهما مفارقان للإدراك المباشر لوقوع الحدث، لكنهما يفترقان حين تشترط على الموضوع الخارجي أن يتحقق لأكثر من مراقب، وهذا ما يؤدي إلى شرط ثاني للزمن المحلي وهو " الموضوعية لجميع المراقبين ".

الآن أنت ترى شجرة متحركة، في واقعك الحقيقي وأمامك عشرون شخصا يرونها، ويمكنك أيضا أن تتخيل أنك ترى شجرة في واقعك الحقيقي وأمامك عشرون شخصا يرونها ، لكن الخيال يذهب بعيدا حين تستيقظ منه، والحلم يذهب باليقظة، والواقع لا يذهب لا بيقظة من الخيال ولا من الحلم، وهذا هو ما يفرق بين الواقع الموضوعي وبين الحلم والخيال : الجبرية على الحواس الجسدية، أو المعرفة الحسية المنعكسة.

لولا هذه الخاصية التي تحكم إجراءات الواقع المادي لما استطعت أن تميزه عن الحلم بشيء، ولا عن الخيال، لأن الخيال يمكنك التحكم به، والحلم يذهب ويأتي، لكن الواقع يقيد جسدك، وينعكس على حواسك رغما عنك، وهذا ما يعطيه الثبات بالنسبة إلى عوالم الحلم والخيال .. الانعكاس الجبري لصور المادة على الحوس يجعلك تثق بالمادة كثيرا.

هكذا نعرف ما معنى المادة بشكل دقيق :

المادة كما مر من قبل هي الواقع المحلي، وهذا الواقع مقيد بثلاثة شروط :

  • التواجد المفارق للذات، ضمن علاقات نسبية في "هُنا والآن" في المكان التراتبي والزمان التعاقبي.
  • الإجبار والحتمية في رصدها بالنسبة للحواس الجسدية، وهذا ما يجعلك تميز بين الخيال والحلم وبين الحقيقة المادية عادة.
  • الوجود الموضوعي بالنسبة لعديد المراقبين

العالَم الفيزيائي مبدئياً هو جميع المعطيات المُفارِقة للإدراك ، والقابِلة للرصد من عدّة مراقبين آخرين "افتراضيين" وكذلك ، يختَلِفُ عن الخيال والشعور بأنّه "جَبري" بالنسبة للراصد ، ينعكسُ على حواسه رغماً عن مشيئته النفسية ، تماماً كانعكاس النور على المرايا.

كُلُّ ما لا يُحقق هذين الشَّرطين ، ليسَ عالماً فيزيائياً ، لذلك كان السؤال الأول : أيوجَد عالم غير الذي يمكن رصده رصداً مُفارقاً وينعكس جبرياً على الحواس ، من حيثُ المبدأ يعتمد ذلك على تعريف الوجود ، هل تقبلُ بالتعريف القائل "الوجودُ يسبق مرحلة التعريف اللغوي ، لأنّ جميع اللغات والتصورات تعتمِدُ عليه في أخذ معناها" ؟ أم ترى الوجود هو عين ذلك العالم الفيزيائي وأنّه محصورٌ به ، وأنّ إدراكك انبعث من ذلك العالَم وليس من شيء سواه وحينها ، سيغدو العالم الداخلي برؤيتك مختزلاً ضمن العالم الموضوعي ؟…

تحاول الوضعية وكذلك الماديون أن يفرضوا بالقوة ما أمكن الفكرة الثانية ، أنه لا يوجد ولن يوجد سوى عالَم مادي واحد ، تنبعثُ منه الأشياء الأخرى كنوعٍ من المُحاكاة.

انتبه بهدوء ... الواقع الذي أمامك ، الجبري على الحواس ، هو إدراكك للواقع الذي تسمحُ به الحواس ، وأنت لا تعلم عن الحواس شيئاً سوى أنها قيود ، إن نطاق الرصد الحسي نفسه مجرد فرضية تأتي من الحواس نفسها ، إنك تعلم قدرات حواسك عبر حواسك ، أو بالأحرى : عبرَ قيود حواسك.

العلم الموضوعي لا يمكنه صياغة مثل هذا التعريف، لأنك غير مختص في إعطاء تعريفات أنطولوجية للأشياء. فهي تحتاج إلى رد الموضوع المعرّف إلى حقيقته الوجودية كما يتبدى للإدراك، وليس كما "يظهر انعكاسه" الإحصائي الخارجي لمجموعة مراقبين.

يمكنك أن تعرف المادة موضوعياً، ومن ناحية فيزيائية خالصة وكذلك الطاقة، لكن لا يمكنك أن تنفذ إلى حقيقة وجوهر المادة والطاقة، لمجرد أنك تقدمت بصياغة تعريف فيزياء موضوعي.

المادة كواقع موضوعي محلي، لا فرق بينها وبين أن تكون مجرد أثر لتأثير الطاقة على نطاق الرصد، الفرق بين إدراك الفيزيائي وإدراك الفيلسوف، هو أن الفيلسوف يرى بنظرة ثاقبة الرؤية الكلية للموضوع المحسوس، ولذلك آينشتاين فيلسوف وليس فقط فيزيائياً، لقد جمع بين الفيزياء والفلسفة.

فستبقى الحقيقة هي الحقيقة، معاييرها ليست النقل من السلطة، ولكن أنت تدرك الحقيقة بالإدراك.

وكل ما تقدمت به يمكن اختباره بالإدراك، صحيح أنني عبرت عنه بلغة تخصصية فلسفية فيزيائية معقدة، ولكن لا قيمة للتعبير اللغوي طالما لا تحاول كقارئ عام إدراك مكنوناته إدراكاً حضورياً، أنا فقط أحاول التسهيل عليك، لكي لا أحدثك بالطلاسم واللغات القديمة جداً التي قد لا تعرفها ولا تعرف رموزها.

الفرق بين التعريف الفيزيائي الموضوعي وبين التعريف الأنطولوجي أن الفيزياء تشرح "ظاهر الموضوع" ضمن علاقاته المحلية وبعد استقراء وإحصاء هذه العلاقات "الاقترانية". فهي تأخذ الواقع المحلي، ثم تحاول صياغة تعريف له، لذلك أصلاً لا يوجد تعريف حقيقي في الفيزياء، التعريف في الفيزياء هو رسم منطقي، والتعريف الأنطولوجي هو حد منطقي.

في نهاية هذا المقال أضع لأجلك ملخصاً سريعاً لبعض القضايا الرئيسية التي تمت مناقشتها :

  • تجريدي : تؤخذ على معنيين، المعنى الحقيقي للكلمة هو العالم العلوي الغير مادي ولكنه يشكل هياكل المادة وانبعاث الطاقة، وسمي بالتجريد لأنه ليس له قيود ضمن عالمنا. والمعنى الذي يقصد بالمادية عادة هو "العدم والوهم" وشيء لا وجود له إلا بمعية المادة.
  • واقعي : لها أيضاً معنيين، المعنى الحقيقي للكلمة حسب تراتب المعرفة والوجود، وليس حسب الاصطلاح لمذهب فلسفي معين، هو المستوى الموضوعي من الوجود الذي يوجد براهين تؤكد أنه واقعي، وسواء كان هذا الواقع تجريدياً بامتياز أو مادياً بامتياز فإنه يستمد واقعيته من كونه انبعاثاً من الوجود قابل للتحقق والإثبات والبرهان ، ورده إلى أصله الحضوري والتيقن من حقيقته إدراكياً ومنطقياً. المعنى الذي ينشره الملحدون هنا هو أنه "مادة محسوسة" ! هكذا بهذه البساطة !
  • المادة تنشأ من شيئين : الهيكل أو الماهية ، والطاقة أو الفعل العلّي، يتفاعل الهيكل والطاقة معاً فنشآن عوالم المواد، وقبل ذلك كانت المادة تجريداً، والآن أصبحت موجودة كشيء "محلي" وإلا فإنها دائماً كانت موجودة ولكن في حالات مجردة عن القيود والفيزياء التي نعرفها.
  • الطاقة ليست وهماً ولا شيئئاً غير مفهوم، هي غير مفهومة لمن يكتفي بالمعرفة المحسوسة لظواهر الأمور ويعزل المادة عن أصلها وحقيقتها، هكذا إنسان مشكلته في مصدر المعرفة الذي يتخذه سبيلاً.
  • الواقع الموضوعي : هو الواقع المُفارق لإدراكك كذات، سواء كان مادياً أو عقلياً، فهو غائب عنك بذاته وحاضر إليك بصورته، وينقسم إلى معيات أولية ونماذج عن هذه المعطيات، فمعطيات الواقع المادي تختلف عن معطيات الواقع التجريدي المعقول، وتختلف في انطباعات إحساسك بها.
  • النموذج : هو "تصور نظري" للعالم المادي، وليس انطباعات عقلية حقيقية بالضرورة، حين يكون النموذج عن الواقع المادي مقترناً بالبرهان واليقين وبالتالي منطبعاً كحكم يتصل بهذا الواقع، حينها نقول عنه أنه "علم حقيقي ومؤكد"، وعندما لا يحقق هذه الشروط يبقى دائماً في مرحلة الظنون، والعلوم الموضوعية الحالية تنكر أصلاً أن تكون الكائنات المجردة قابلة للبحث والإدراك والاكتشاف، لأنها تركز بحوثها على المعرفة الموضوعية لجميع المراقبين وتثبت قدمها في مجتمعاتهم، ولذلك تبقى المعرفة مستحيلة عليهم على نحو اليقين.
في مقال قادم بإذن الله يكون الحديث عن العلوم الحضورية اليقينية والحصولية الوهمية من منطلقات البحث الحيوي الإدراكي.. سلام الله

إرسال تعليق

0 تعليقات