رؤية الحياة من المنطلق الكلاني ( الحيوي القيمي ) تريك أن الوجود هو حالات تفاعلية بين الحقيقة الجوهرية للكينونة وبين الزمن.
وكل حالة تفاعلية بين كينونة وزمن تعطي معنى جديدا، مختلفة عن تصنيفها في الهيكل الموضوعي للوجود..
وهذا يعني أن التجربة الحيوية الزمنية غير قابلة للاحتواء في نموذج زمني صوري، وما يمكن أن تختبره روح وهي تتواصل مع موضوع بسيط مثل الإبريق والشاي يكون تجربة حيوية منفردة وزمنا ذا معنى خاص لا يمكن تكراره من خلال استدعاء نفس العناصر الموضوعية، وأن شرب كأس الشاي في المساء هو زمن مطلق المعنى لا نهائي التجليات ولو كان ذا صورة موضوعية محددة شكليا، وكل ذات تتصل به تحيا تجربة زمنية خاصة ومستقلة وقد لا تتكرر أبدا.
وأن المعرفة الحقة هي معرفة الزمن الحي ، والمعرفة الموضوعية تخفي التجارب الحيوية بمستوى صناعي رمزي يعبر من خلال الأفكار والتصورات والنسقيات عن واقع أعمق منه في الوجود، والمنطق والعلم الطبيعي صناعات رمزية تعبر عن عدم قدرة الذات على الاتصال الحيوي المباشر بالزمن وتعويض ذلك بنسج مقاربات ذهنية لحضوره الغائب.
وأن كل تجلي للزمن الأعظم يحدث كتفاعل بين الجوهر الحيوي للكينونة والجوهر الحيوي للزمن الذي تتصل به ، خالقا عالما جديدا ومعنى جديدا هو الوحدة التي حصلت بين الذات والوجود، والزمن المتجلي هو امتزاج بين هوية الروح وذات الحقيقة، وكل حالة اتحاد بين الذات والزمن تؤدي إلى تجربة روحية حيوية منفردة لا تتكون من تجميع أجزائها..
https://youtu.be/idczQNF-d44?si=PpFcqX_QKZp4vJMbولنضرب مثلا فنيا ، فالموسيقى هي حالة اتحاد بين ذاتين ، ذات الفنان التي تمتزج بانتماءه الزمني وجماليات عصره وذات الزمن الموسيقي وهي المعاني المطلقة للجمل الموسيقية، فما يفعله الفنان واقعيا هو المساهمة في "تكوين زمن جديد _ دازين" يوحد تجربته الحيوية مع المعنى المطلق للموسيقى التي يتفاعل معها.
هذه الكينونة الحيوية الزمنية نفسها إذا أخرجتها من وحدتها الزمنية الحيوية في لحظة تجليها في الماضي وجعلت موسيقيا آخر يتفاعل معها فسيتفاعل معها من هويته الوجودية ومزاجه الزمني المختلف وسيعطيها أبعادا جديدة كل الجدة ويكون "زمنا حيويا جديد_ دازين جديد" وكأنك تسمع عملا آخر وتدخل في عالم آخر وتختبر معاني أخرى..
https://youtu.be/l7EH6TfdCog?si=BiS2GiyGdTU346GFالحياة هي تجلي لانهائي للأزمنة الحيوية والمعاني الوجودية والفنية، وحين تعزل الزمن الحيوي عن حالة الوحدة وتحاول فهمه كموضوع قابل للتجزيئ أو للمقارنة فإنك تفقد الاتصال بهويته الحقيقية ( الديمومة )، والحق هو الزمن الحيوي، أما التمثل المادي والعقلي فهو ترميز واستعارة للمعاني الحيوية، لا يوجد في العالم الحقيقي إلا المعاني الحيوية ووحدة الوجود هي انتماء كل التجليات الزمني للزمن الحيوي الأعظم، الهوية الحيوية القيمية للزمن هي الجوهر النهائي والوحدة الأخيرة بين المظاهر والأشياء.
العالم الظاهري هو لغة الوجود ورموزه وألغازه ، وهذه اللغة تبدو محددة جدا حين تقتطعها عن حيويتها وجوهرها الحقيقي، فيبدو أن هناك شيئا لوحده اسمه ( الشاي ) وآخر اسمه ( الأرض ) وآخر اسمه ( الوقت ) ويبدو أن كل موضوع قابل للتجزيء بنفسه فيتجزأ الشاي إلى أوراق وماء وحرارة وانحلال ، وتتجزأ الأوراق إلى خلايا وتركيبات عضوية، ويتجزأ الوقت إلى لحظات واللحظة إلى علاقات وتغيرات ومقارنات .. ولكن حين تحاول الوصول إلى المعنى ما وراء الزمن الرمزي تبدأ الرموز بالتحلل وجوديا وتفقد صلابة هويتها الموضوعية، ويبدو وكأن الرمز والكائن الموضوعي الموضوعي لا يعني أي شيء محدد ، بل يمكن أن يعني أن شيء، ويمكن للشاي أن يتحول إلى أرض وتتحول الأرض إلى وقت ، إذا استبدلت العلاقة ما بين ظاهر الشاي وباطنه بباطن الأرض، فإن الظاهر وحده لا يعني شيئا على نحو مطلق ودائم، إذ ماذا لو استبدلت كلمة الشاي بالأرض ؟ هل سيتغير معنى الأرض وتصبح قابلة للغلي في إبريق ؟ فكذلك لو حقق الشاي في مادته الظاهرة نفس ما تحققه الأرض من تأثير فيزيائي فسيصبح هو الكوكب ، حتى لو كان يبدو ظاهريا غير ذلك، فالمعنى والتأثير يختلفان عن الصورة والتأويل، وكل موضوع طبيعي بحدوده الظاهرية رمز له معنى يتجاوز حدوده الظاهرية ويستقل عنها .
يمكن جعل الأرض تبدو كقطعة سكر صغيرة دون أن تفقد قوتها التأثيرية على جسدك، لأن ما تبدو الأرض عليه هو ما تستطيع الحواس أن ترصده، فقوة الأرض الفيزيائية مستقلة عن رصدك وتأويلك لها ولحجمها ولأبعادها وطييعتها ولونها، وعلى هذا فما يكون المستوى الحسي لكوكب الأرض منفصل عن ما يعطيه معناه الحقيقي، فالأول ترميز للثاني.
المعنى الباطني للأرض لا يبدو للكفيف بنفس الطريقة بالنسبة لغير الكفيف، ولكن حضوره في التجربة الحيوية يبقى دائما، ولو وسعنا ذلك وحاولنا تفكيك الوجود الفيزيائي للأرض فسنصل لنفس النتيجة، هناك قوة جوهرية غير فيزيائية تعطي للأرض تشكلها الزمني الظاهري والباطني ( التأثير والرصد ) على حد سواء.. وحين تحضر هذه القوة الجوهرية في مظهر لا كوكبي، أو في قيمة متحققة دون أسباب موضوعية، فإنك لن تحس بوجود شيء مفقود، فإذا كنت ثابتا في الفضاء على أرضية شفافة وغير قابلة للمس فإن التأثير يبقى والصورة الحسية تزول، قوة الجذب تبقى دون حملها على موضوع محدد، وكذلك حين لا تكون ثابتا في الفضاء ولا تحس بالقدرة على التماسك الثقالي، ولكنك مع ذلك تحافظ على (قيمة التماسك ) فإن الكائن الأرضي يتجوهر ( يبقى منه معناه النهائي فقط في تجربتك الحيوية وهو التماسك في الزمكان ) ويبدو أن طبقات الوجود الفيزيائي هي طبقات للترميز
https://youtu.be/H5qxEC_ml-E?si=tD0SuVm5NGZeds6fالاتصال الدلالي ما بين الرموز والمعاني هو اتصال سائل، فيمكن للرمز أن يدل على أي معنى، وما يحدد مدلول الرمز هو المعنى الحيوي حين يتصل به، فالمعنى دائما مطلق وواحدي، والرمز دائما محدود وتعددي، ولا يمكن للمحدود أن يوصل إلى المطلق، ولكن يمكن للمطلق أن يحل في المحدود ويجعله بوابة للتجلي.
والعالم الظاهري هو لغة الوجود ورمزيته، مكون من عناصر ترميز محدودة ومتعددة ولانهاية لها، وكل رمز سيكون له معنى بحسب اتصاله بالزمن الحيوي، وهذا ما يعطي للذات قدرة على المساهمة في خلق الزمن واكتشافه ، من حيث أنها تتفاعل مع المعنى حيويا وتعيد تكوين الواقع من مستواه الأعمق على الإطلاق.. وعبور الزمن هو تكوين بوابة نحو زمن حيوي _ دازين جديد يسهم الزمن الحيوي القديم في فتحه عندما تتفاعل كينونة الذات معه بمزاجها الزمني الخاص، فحين تعبر الزمن فأنت تطلب القيمة، وهذا يجعل حالة العبور هي اتصالا بينك وبين القيم، وليس وجودا محضا للقيم دون شهادتك وذاتيتك.
https://youtu.be/2JNQcqZm4FQ?si=sqEH_nY_4eilEPE8هل تعلم ما الذي سيحدث إذا حبستَ شخصاً يائساً في غرفة انفرادية فارغة لأجل غير مسمى؟
خلال الأشهر الأولى سوف يمر بموجات هياج انفعالية، يضرب رأسه بالحائط، يؤذي جسده، وبعد ذلك سوف يبدأ بالتفريغ الانفعالي في العالم الداخلي من خلال تشكيل محاكاة ذهنية تشغله عن "القلق الوجودي"، وتبدأ الهلاوس البصرية وصناعة شخصيات وعوالم من مادة الوهم المجانية، وبعدها سيتعامل مع الوهم على أنه واقع وهنا سيتشرع وجود الوهم، وسيعتقد أن هذه الشخصيات تحب وتكره وسيعاملها بناء على ذلك.. ثم سيبدأ عالم الوهم بسرقة حضور الروح لذلك الشخص من العالم الحقيقي، فلا يعود قادراً على التواصل الحسي النقي مع الموضوعات الحقيقية، وبعد عدة سنوات، من المحتمل جداً أن يفقد هذا الشخص القدرة على "الإحساس بالعالم الحقيقي"، ويعيش طول الوقت في عالم الوهم الذي ابتدعه فكرياً، وحسياً..
ما الذي فعله هذا الشخص حسب العلم ؟ لقد جزء الواقع الجاف جداً والضئيل جداً للغرفة الصغيرة ذات الجدران البيضاء الصامتة، لأن الروح حية وطيبة، لا تحتمل قسوة تجعل عنصر التراب مطلق المشهد الذي تراه.
الإنسان يتعامل مع عالمه المادي الضحل بنفس الطريقة ، هل أنت تعتقد أن اتصال الإنسان في المجتمع هو مسألة اختيار أو "تطور" ؟ هذا المجتمع المتنوع الفسيفسائي يوفر مجالاً لتحقيق "تشظي للحياة" يجعل الوعي قادراً على التعامل مع الطبيعة ضمن التحديد المادي خارج نطاق حقيقتها المجرّدة، فيعيد بناءها في أبعاد وهمية خارج نطاق البعد الواقعي اللاتأويلي، أبعاد لا وجود لها إلا ضمن الحياة الذهنية للإنسان، من دون هذه الأبعاد سيصطدم الإنسان بواقع صلب، يشبه جهنم، مجرد صخور صامتة وتكتلات ميتة، حتى الإنسان نفسه موضوع ميت حين يحدد وجودياً ضمن واقعيته المعزولة عن التأويل، حين ترصد إنساناً في مجال إدراكك فستستطيع التعامل معه كإنسان ، لا كموضوع طبيعي ميّت، لأنك تدمج طبيعته المادية المحسوسة بصورة ذهنية غير محسوسة ، وتجعل وجوده الطبيعي الواقعي والمحدد "هيولياً" وتصوّره ككائن قادر على الوعي والتفكير والعاطفة، ولكن هل ترى فعلاً حضور هذه السمات في حدود المستوى المادي الظاهري من الكينونة الإنسانية ؟
يعيش الإنسان مقابل عالَم مادي ميّت حيوياً ، يخلو من كل معطيات قيّمة و حيوية ، وحتى لا يصطدم الإنسان بقسوة هذا العالم اصطداماً مباشراً يلجأ إلى "تشظية إدراكه للعالم المادي" وإقامة شيء يشبه "الجدار العازل" بينه وبين واقعية العالم ، ويحبس إدراكه عن التماس المباشر مع الموضوعات الطبيعية كما هي عليه في وجودها الظاهر، وهذا يجعل الموضوعات الطبيعية قابلة لإعادة التشكيل ذهنياً.
هذا ما يجعل الإنسان يعيش في ذهنه كامل حياته، جسده منفصل عن إدراكه الواعي، إدراكه متّجه نحو العالم الذهني الذي يتصوّره عن الواقع.
هل تعلم لماذا أنتقد المجتمع والحياة الاجتماعية وأحاول تعليل ذلك الجزء الصادق من الفصام فلسفياً وإعطاءه القدرة على مزيد من الحضور والتكاثر ؟
السبب هو أن النتيجة النهائية للحياة الاجتماعية هي العزلة المطلقة ما بين الوعي والعالم الحقيقي، وبالتالي ما بين الذات والذات الأخرى، إذ أن الاتصال الهيولي بين الذوات محكوم فقط بما يسمح به نظام المجتمع، مثل هذا الاتصال قائم على "التعضي الذهني" بين الشخصيات الحقيقية في واقعيتها والشخصيات الإسقاطية الموجودة في الذهن الفردي والتي تشغل حياة الفرد وتشكل المحور لحياة الذات في المجتمع، وتصنع الزمن النفسي الداخلي بكل مجرياته، وإذا استمر الأمر هكذا بالتعضي والتماهي بين الوجودات الواقعية والنماذج الذهنية فسيصل الإنسان إلى مرحلة يستبدل فيها النموذج بالشخص الواقعي استبدالاً كاملاً وهذا ما سيعرّضه لأكبر خطر ممكن في الحياة، وهو "العزلة التامة عن العالم الحقيقي" وبالتالي عن الكائنات الحقيقية، والشخصيات الحقيقية، التي لا تعتمد على ذهنه في إيجادها والتفاعل معها.
إن المجتمع يعتمد على اغتراب الذات وذوبانها في الآخر ولكن الآخر الذي نقصد الحديث عنه، ليس آخراً في الزمان الحقيقي بل في الزمان النفسي\التأويلي الداخلي.. إنه آخر مكون من رموز وتصورات. إن الآخر المجتمعي هو حالة تركيبية موجودة في الذهن الفردي وحده، وإن الذات التي تغترب عن ذاتها لن تجد فرصة للقاء آخر حقيقي، فاغتراب الذات عن ذاتيتها هو اغتراب عن الوجود أيضاً وعن المعنى، وعن كل روح ذات وجود حقيقي.
ما تفعله الحداثة وما بعد الحداثة هو تعزيز الحاجز بين الذات والوجود، وفصل الظاهر الرمزي عن معنويته، فلا يبقى إلا الرمز ووراء الرمز يكمن العدم. والمبدأ الإنساني الذي يهمل المعنى وينسى الوجود ويتمركز حول حياة الإنسان الشخصية الرمزية إنما يؤسس لحياة تشبه سحابة مظلمة من الأحرف والكلمات العشوائية ، عديمة المعنى ، منفصلة عن الحق بما هي منفصلة عن الحياة، لأن الحق حي قيم .. وفي النهاية لا يتجلى زمن وراء العلاقة مع الرمز..
زمن الحقيقة حيوي ومعنائي ومطلق، والزمن الرمزي آلي وهلامي ومحدود، والطبيعة المقيدة للترميز تمنع الانطباق بين الظاهر والحياة.
أدى الاهتمام المطلق المعاصر بالمستوى الرمزي ( الظاهر - المتعين - الذهني - النسق - العلاقات - الفيزيولوجيا - المحسوس ) إلى رفع المعنى من دائرة الإدراك البشري وجعل الشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان معرفته هو الرموز .. والتفاعل مع الرمز من دون أن يتجلى من ذلك الوصول إلى معنى سيوجه الروح إلى الدخول في مجالات و عوالم الوهم.
إن النتيجة النهائية للانتصارات المستمرة للمجتمعات على الذاتية هي التراجع المستمر لقدرة الذات على أن تكون "حرّة" في العالم، و"مدرِكة" للوجود، حيث يستبدل وجودها بالكامل ب"العلاقات والأنساق" حتى تنسى كل شيء تدريجياً وذلك سيؤدي حتماً وبلا شك، إلى انفصال الأرواح عن بعضها البعض خارج "النسق" الرابط بينها.
وهذا النسق يمهّد إلى مرحلة ما يعرف في الفلسفة باسم "العودة إلى الجنينية" ويسمى أيضاً الحلولية الكمونية (حسب تعبير عبد الوهاب المسيري) أي أن الإنسان الذي يطالب بعالم يكون فيه هو الإله والمركز بما هو إنسان مركب من عناصر مبعثرة وهلامية الترابط، لهو يطالب أيضاً بالانوجاد في عالم معزول عن العالم الحق، إنه لا ينحل في الحياة، ولكنه ينحل في ذهنه الفردي، أي في السحابة الرمزية عدمية الوجود.
النهاية المطلقة للإنسان المتجه نحو "المركزية الإنسانية" هي نسيان الوجود الحقيقي، فلا يعود قادراً على التفريق بين الحق والظاهر، وبالتالي لا يهتم هل عالمه حق أم لا لأن ما يشغله هو الظاهر حصراً.
هذا يجب أن يرعب القارئ نوعاً ما خاصة إذا علم أن حياته بعد الموت ستتشكل بناء على مكنونه النفسي، فإذا هو ارتضى مفارقة الوجود الحقيقي إلى الأبد ونسيانه فما من طريقة يمكن تصورها لإعادة روحه من حالة الجنينية والانعزال المطلق عن كافة الأرواح والحقائق، بحيث أنهقد يعيش في محاكاة وهمية بعد الموت إلى اللانهاية، هو الوحيد الذي يعيش فيها، وإذا استمر بالموقف الاستسلامي للواقع فقد يصبح الأمر أسوء، قد يصبح عاجزاً حتى عن الحياة ضمن محاكاة، غير قادر على تحسس شيء، أو على فهم شيء، أو إصدار حركة أو سكون.
https://youtu.be/W6iVn_zjTKA?si=bIuF-GftQcX819D6
0 تعليقات