Advertisement

Main Ad

علاج اليأس ... المنطلقات الوجودية لليأس في الحياة الإنسانية - ما بعد الحداثة كفلسفة لليأس والفراغ الوجودي

 الاتصال بين الذات والوجود يولد المشاعر

نموذج الذات المعرفي-الإدراكي الذي ترى منه الوجود .. هو الذي يولد نوعية اتصالها بالوجود.

إذا أردت أن تغير المشاعر التي تحسها فغير نوعية اتصالك بالحياة ، ونوعية إدراكك لها ، غير قيمك ، معتقداتك ، سلوكك وعاداتك ورغباتك …

فإذا كنت تحس باليأس من الواقع ، فإنك "تعتقد" بعدم قدرتك على تغييره ، أو أنه معتل جوهرياً ، وقد يكون ذلك صحيحاً في النهاية فإن هذه الحياة فيها خطأ معين يحسه الجميع ولا أحد يريد أن يبصره مباشرة ، ولكني أعلم أن الجميع يحسون بشيء ما خاطئ ، جوهرياً.

ولكن الواقع والحياة الدنيا ليسا ما يحدد نموذجك الإدراكي-المعرفي ، وليسا ما يحدد نوعية اتصالك بالوجود ، إنما نتيجة لمحتواك النفسي ، فالوجود مطلق ، ليس هو الحياة الدنيا وليس هو الواقع المادي، إنما نوعان منه فقط، وإذا كنت تطلب المعنى الأعمق في الحياة ، فلابد أنك لن تستطيع أن تجده فيهما ، وسبب اليأس هنا هو أنك تعتقد أنهما كل شيء.

باختصار ، اليأس يأتي من "الإطار الإدراكي المعرفي" ويزول عندما تتحرر من هذا الإطار.

فإذا غيرت المحتوى النفسي فسوف تتغير العلاقة بين الذات والوجود ، وإذا تغيرت هذه العلاقة فستتغير رؤية الذات للوجود وستتغير المشاعر والواقع بنفس الوقت.

المشاعر ليست سبباً، بل نتيجة للنموذج المعرفي الذي يتبناه عقلك عن العالم والوجود والذات.

الحياة في الأساطير اليونانية هي "روح امرأة بلا جسد" .. الوجود روح أنثوية قاطنة في الضباب الأبدي الرامز إلى السراب ، وحقيقة الضباب هي الظلام الرامز إلى العدم ..

اسمها "أخليس"...

تكوّن العالم من شواش ، تكوّن الشواش من مقاومة الحياة للضباب ، أخليس .. حسرة الوجود حين أراد الخروج من الظلمات فبث العالم من رغبته بالخروج.. وأدرك في نهاية المطاف أنه لا زال في الظلمات وأن كل ما حدث كان سراباً ، وحينها أدرك الروح أنه لا يخرج من الظلمات إلا في حيز الوجود الذهني الذي يرمز الضباب إليه. وفي النهاية كل شيء يرتد إلى الشواش والشواش يرتد إلى أخليس ، إلى حالة الروح في الضباب الأبدي.

تكوّن العالم من حالة "الهيولى المادية" التي انفجرت لسبب مجهول مكوّنة الدخان الكوني ، ومن ضباب الكون توالدت الكواكب والنجوم والمجرات ، وجاء كائن واعي قادر على رؤية هذه "الصيرورة" للضباب الكوني ، رافضاً حدوده الوجودية ، قرر الإنسان اقتحام الضباب وكشف أسرار الحياة ، فأنشأ الميتافيزيقا والعلوم المادية وفي النهاية فهم أن ما يعرفه الذهن موجود في الذهن فقط، وما يعرفه الجسم موجود في المجال المادي ، وأن محاولة الإنسانية التمرد على المجال المادي وكشف "الحقيقة" باءت بالفشل، ومحاولة الإنسان تحرير كينونته من المجال المادي لم تجد نفعاً وكانت تحقق محض ما يسمح به المجال المادي نفسه ، وكل وعود الحضارة بتجاوز الآفاق وكشف النهايات فشلت في البقاء ، حين أدرك الإنسان أن "المجال الذهني" و"المجال الواقعي المادي" منفصلان تماماً عن بعضهما ، وفي حين حاولت الحداثة أن تجعل الإنسان إلهاً على العالم ، كشفت ما بعد الحداثة أن الإنسان لن يكون إلهاً على العالم ولن يتجاوز كينونته إلا بطريقة واحدة وهي "العيش في ذهنه" وبالتالي لا يغير الواقع، وإنما "يعزل نفسه" عن الواقع… كما كشفت أخليس أنها كانت تنسج حكايا الزمن حتى تعزل نفسها عن جداره العتيد ، حيث لا شيء إلا الخلاء ، ولا بوابة للعبور..

الروح تخلق التجارب والصيرورة و(القَصص) و(الأساطير) وحكايات الزمن من أجل أن تتغلب على عدم القدرة على التواصل مع ما يتجاوز (العدم) ، والكون (بالمعنى الأوسع) هو صيرورة لابد من أن تستمر حتى لا تفهم الروح في النهاية أنها تعيش في "اللاوقت" وتقرأ رواية نسجتها بنفسها في اللازمان واللامكان، وهي الشاهد الوحيد عليها.

إذا كانت الصيرورة والحركة ستستمر إلى اللانهاية ، وكان السكون يعني اللاوجود ، فإن الوجود هو حالة تمرّد على اللاوجود ، وليس فيه أكثر من ذلك، وهذا التمر ليس من نوع "التجاوز" بل من نوع "الانشغال بسحابة وهمية" افتراضية تفصل بين الواقع الميت (العدم والظلام) وبين الروح المأسورة فيها.

من المهم أن ندرك أن أسطورة أخليس تنطوي على فهم لوجود "مثنوية أساسية" فالكيان الذي "يحس" هو الذي يرفض العدم ، ومع أن محاولاته سرابية ولكنه مع ذلك ، لديه دافع لتجاوز العدم ورمزية الواقع إلى الوجود و"الحقيقة المطلقة".

هذا التصور الميثولوجي للحياة وللعالم قديم جداً ، ولكن يبدو أن حركة التاريخ الفلسفية حاولت التعبير عنه خلال كامل مراحل الفكر الإنساني وإخراجه من حالته الهيولية اللاشعورية إلى حالة واضحة المعالم في فلسفة ما بعد الحداثة ، فما يقصده يونان أن العالم المرصود هو مجال رمزي-رقمي يحاكي رغبات الروح ومتطلباتها ولكنه لا يشتمل عىل ما هو أكثر من الرموز ، فلا يوجد حقيقة وراء الرمز والتجربة والتي يمثلها اليونان بالضباب الوجودي وسراب الأحلام ، لأن العامل المشترك بين السراب والرمز هو أنهما بذاتهما قابلان للتشكيل على نحو لانهائي، ولكن ليس هناك حالة جوهرية في كينونة كل منهما.

حققت الحداثة وما بعد الحداثة نبوة الأساطير اليونانية عن "صيرورة الروح" في العالم الطبيعي .. والعلاج الوحيد الذي تطرحه حركة ما بعد الحداثة هو أن يتقبّل الإنسان لامعانئية الحياة ولا قيميتها، وأن يتقبل غياب ذاته عن القرار والفعل والرغبة ، وأن يتقبل عزل الوجدان عن الحياة الواقعية ، وهذا ما يظهر في أفلام ما بعد الحداثة ، التي أقصت وجود "الأبطال الخارقين" أو صورتهم بشكل "هزلي" لأن اختراق الواقع بات مستحيلاً من الناحية الأنطولوجية، أي ليست قوانين الطبيعة فقط ما يمنع الإنسان من المطلق، بل ، وجودية الإنسان نفسها تتضمن العبودية والمحدودية ، وإذا تجاوز الإنسان ذلك فلن يكون إنساناً.

أدرك بطل فيلم Stranger Than Fiction أنه يعيش تحت "تحكم ذهني-زمني" ممارس من قبل "إنسان آخر "روائية" ، أن آلامه ومخاوفه وقضاياه ومشاكله وأفكاره كانت تخدم "رواية" ، حيث تم توظيف روحه ( المعنى والحقيقة ) من أجل خدمة دوره (الظاهر والرمز) …

ومن أجل كتابة رواية (وجود ذهني) ، حبست الكاتبة روح البطل في حياة نسقية وهمية مبنية على سرد أدبي استخدم مشاعر البطل وآلامه الوجدانية العميقة جداً كمادة ووقود يحترق فيه البطل يضيء السرد ، فكان السرد أكثر قيمة من الحياة نفسها ، فاحترقت الكينونة من أجل الرموز ، كما تحرق أخليس إدراكها من أجل الضباب.

قررت الروائية زمان ومكان البطل ، وظيفته ، مستواه الاجتماعي ، نفسيته ، ومن سيحب ، وما سيعاني من الألم … وخططت لقتله كخاتمة للرواية .. وهذا القتل سيحدث في اللحظة التي يعرف فيها أنه كان مجرد شخصية ليس لها وجود حتى ، ويدرك أن الروائية لا تتحكم بمجرى حياته فقط ، بل بمعنى حياته أيضاً. وحين تعطيه الروائية الحق في الاختيار بين أن يموت ويحقق المعنى ضمن السرد الروائي ، وبين أن يتحرر من الرواية ويتحكم بوجوده في زمن الصيرورة العالمي .

القرار الذي يتخذه البطل هو إكمال "الرواية" والتضحية بحياته الحرّة ، والسبب العميق في ذلك ليس إحساسه بقيمة الرواية كما يصوره الفيلم ، بل إحساسه بلا قيمية الحياة المعتمدة على الصيرورة والعلاقات ، فإنه يدرك في لحظة معينة ، أن الزمن الروائي وزمن الصيرورة في العالم المادي لا يتميّزان جوهرياً عن بعضهما وكلاهما يخلو من المعنى والقيم ، لأن صيرورة العالم الغيابي ( استمراره في الحركة التفاعلي ) تحيله فاقداً للمطلقية وهو بذلك يفقد المعنى ويحقق نموذج الضباب ، إذ أن المعنى مختلف عن الرمز في جوهرية وجوده التي لا تعتمد على "السرد" و"الشبكات التفاعلية" و"التبرير العقلي" و"الآخر" فليس هناك ما يبرر الطبيعة القيمية للمعنى من خارجه، وهو بذلك خروج عن "السرد بما هو سرد" وليس عن جزئية معينة منه أو سياق محدد.

https://www.youtube.com/watch?v=AXGmvZRig88

إذا تحرر الإنسان من كل شي ولم يتحرر من الغياب ، فلن يصل إلى المعنى …


لليأس معنى واحد ، أنّ الكائن يبحث عن معنى وقيمة يتجاوزان ما يتيحه الزمن المباشر (الواقع) ، اي أنه يريد تجاوز حالة "تماهيه مع السرد الرمزي" وتحويل الواقع من مستوى الرموز إلى مستو المعاني ، فلا يعود الواقع محض دليل على المعنى أو مقدمة له ، بل يتحد المعنى والرمز معاً.

وهذا يعني أن البحث عن المعنى هو بحث عن "الحرية من السرد" وما نقصده بالسرد هو "الوجود المعتمد على النسق والعلاقات أو ما يسمى ب"المصفوفة"" وفي هذا فلا يكون المعنى حدثية محققة موضوعياً، إذا كان تحقيقها يبقيها في نفس السرد ، وعلى سبيل المثال ، العاشق الفقير لا يريد الوصول إلى حبيبه من خلال الأسباب الواقعية ، فإذا كان الوصول للحبيب يعني "التحول من الفقر إلى الغنى" فإنه لم يصل لحبيبه ب"كينونته الحقيقية" واستبدلها بشخص آخر يتناسب مع متطلبات السرد العام ، ولذلك لا معنى للحب الحقيقي في إطار الزواج التقليدي.

ولا معنى للانتصار في الحرب من خلال مساعدة الآخرين … لأن العبودية ليست لشخص أو جهة معينة (إسرائيل) بل للحالة الكبرى (تبعية من بيده الأسباب المادية) والحرية إذن ليست حدثية معينة (الانتصار على إسرائيل) بل خروجاً عن السرد (تحقيق الانتصار من دون أسباب)..

وعندما يجد الإنسان أنه لا يمكنه الخروج عن السرد، لأن الهدف الذي يريد تحقيقه يتطلب السرد كضرورة وجودية، يحس بغياب المعنى بشكل أصيل عن الزمن والوجود، فمن يحبها العاشق هي أصلاً ذات تركيبة نفسية تقتضي التعلق بالمادة، هذه التركيبة هي التي جعتلها جذابة أو "لعوبة" أو قوية أو مغناجاً وهي المعاني التي أحبها العاشق، وحين تصبح هذه الفتاة أكثر روحانية واتصالاً بالحقيقة كما يرغب العاشق، فسوف تفقد تلك الصفات ، وهي السبب الحقيقي في جاذبيتها.

هذا يعني أن الهدف ضمن السرد يتضمن من الأساس تحقق مسار السرد نفسه كشرط لتحققه في النهاية، وإذا كان الحال كذلك فالهدف يخلو من المعنى ، والمستقبل يخلو من الأمل ، لأن المعنى والأمل لا ينبغي أن يكونا محددين بنطاقات علاقية توجدهما ، وإلا فنحن لسنا أمام معنى أصيل ، بل أمام معنى يوجده السرد ويقرره المؤلف (وعاشوا جميعاً بهناء).

ليس فقط كمراعاة لقوانين الطبيعة والمجتمع، بل لأن الهدف لم يكن كما يتخيله الساعي حقاً، عجز الساعي نتج عن "وهمية الهدف" وياللصدمة، .. أو عن أنه "لا يفهم بعد ما هي رغبته بالضبط" وليس عن قصور في كينونة الساعي بحد ذاتها.

لما يرفض الإنسان الواقع أصلاً ويعتبره سبباً للتعاسة وغياب المعنى ؟

لأن الواقع يعني أن الهدف جزء من السرد ، وأن المعنى مقترن بطبيعة السرد ، وهذا يعني ، أنه لا اختلاف ما إذا تحقق الهدف أو لم يتحقق ، فالاختلاف يكمن في السرد ، والسرد يكمن في الترميز ، والرمز منفصل عن المعنى من جهة ، وعن الذات الحقيقية من جهة ، وإذا كان كل ما يمكن تحقيقه رمزياً فسيكون الواقع خالياً من أصالة المعنى والوجود بوصفه مجرد مجموعة من الرموز والعلاقات.

صلابة الواقع تعني أن هناك "عازل وجودي" بين الكينونة والحقيقة ، وهذا العازل يحكم وجود الذات في الزمن الحاضر ، عاكساً ضعف الذات والتحدي الناتج عنه في سبيل عن الوصول إلى الحقيقة ، يتمثّل الواقع بـ"وحش بري مُبهم المعالم" وهنا توجد خصوصية عالية جداً لمفهوم "المُبهمية" سيعكس نفسه في مجالات لا حصر لها، إذ أن الواقع بالتأكيد يمثل جزءً من الحقيقة، أو من مقتضيات الوصول إلى الحقيقة، يتصل بها على نحو من الأنحاء، وإذن العالم الحسي هو "حالة هيولية" غير مفهومة "مُبهمة -بهيمية - دابّية" ومن هنا جاءت دلالة رمز "الدب" و"العملاق" في اللاشعور ، على أن هناك "سراً" و"حقيقة" مخفية في أدغال متداخلة ، ووظيفة هذه الأدغال هي حماية السر، كأن الذهب في قاع مستنقع مليء بالمفترسات..

تحمل كلمة "غابة" دلالة قريبة فالغابة هي ما يغيب الوضوح فيه.

كلمة "مُبهم" تعني غير المفهوم، و"البهيمة" كائن غامض، لا يمكن معرفة كيفية رؤيته للعالم ومشاعره ودوافعه بسبب امتناع التواصل اللغوي معه، فعلاً يبدو من جهة حياً ومن جهة أخرى ميّتاً، وكذلك الواقع المادي كوحدة كبرى هو "الإبهام" والبهائمية : اختلاط الظاهر والباطن ، فلا يعود الحق بيّناً ولا تعود الرؤية نقية، ولأن الواقع الطبيعي للوجود مُبهم فهو "يخيف الآخرين" ويمنعهم هذا من الاقتراب منه، قد يحتوي على أجمل الأشياء وقد يحتوي على أوحش الأشياء، وهذا يجعل الوجود المادي الحقيقي "وحشياً" وخطيراً، لذلك يهرب الإنسان من ( الغابة والطبيعة ) ويبني جدراناً بينه وبينها تتمثّل في الروتين ، والمجتمع ، والمدينة ، وهي محاولات لتجاوز الواقع دون الاصطدام المباشر معه.

الطبيعة المادية تكون رمزاً من جهة الوجود ، لأنها ضبابية ومتداخلة ، فالنظام الحقيقي لها باطني وغير واضح في تبديها العام ، وحقيقتها النهائية غير مُعلنة في هيكلها ومزاجها الظاهري، فالطبيعة ترميز، ولكنه ترميز للحقيقة، وفي حال لم يتمكن المرء من فك ترميزها فإنه يعرف منها ما يدركه من المستوى الظاهر فقط، والذي يعطي نتائج ليس لها تعليل، وصوراً غير مكتملة، ومعاني متراكبة ومعقدة إذا أخذت كما هي عليه فلن تخبر بشيء حقاً وسيضطر الراصد إلى إهمالها.

خوف الإنسان من الغيب والغياب جعله يصنع "الحاجز الذهني" بينه وبين الطبيعة، والذي يحاول أن يقيه شرها من دون التفريط برغبة الروح في فهم الحقيقة وتجاوز المستوى الطبيعي الظاهر من الوجود، وذلك من خلال عدم الاتصال المباشر بالواقع الطبيعي ، بل ، استبداله بتكوين صورة جديدة مركبة من الواقع كما ترصده الحواس ومن إسقاطات العقل عليه، فيعطي الواقع طبيعة رمزية إضافية، رمزية من جهة الإنسان لا من جهة الوجود، هكذا ينتقل الإنسان من "الإدراك الهيولي للطبيعة" إلى "التمثيل الذهني لها" …

نهاية هذا الارتحال عن الواقع الطبيعي هو الحسرة الوجودية : أن الإنسان سوف يحتجز نفسه عن الطبيعة بالكامل ، وبالتالي عن ما وراء الطبيعة ( عن الحقيقة ) ، وهذا ما سيفعله الذكاء الصناعي حين يريد الإنسان خلق "عالم محاكي" .. وهذا يجعل الروح أمام "جدارين وجوديين رمزيين- مستويين جوهريين للبَون الفاصل بين الذات والوجود" :

  • الأول هو الذي فرض على الإنسان من العالم الغيبي ، وهو "الطبيعة".
  • والثاني هو الذي فرضته الإنسانية على نفسها وهي تحاول تجنّب الطبيعة وحفظ البقاء، وهو "الوجود الذهني".

وحين تفقد الروح الأمل في الحرية من الجدارين (الذهني والطبيعي) ستفقد الأمل بالوصول إلى "معنى يتجاوز الحياة المعطاة" وهذا سيجعلها في موقف سالب سلبية مطلقة، فهي لن تقرر أي شيء من الآن فصاعداً ، لأن الواقع يعطي احتمالات وعيها أن تستغل المعطيات الواقعية، وإذا لم يعطي الواقع احتمالات فلا شيء ستقوم به من جهتها كذات حية، فالهوية الذاتية تبدا بالتفكك والانحلال في الإعطائية الواقعية، وتدريجياً، لا تعود الذات قادرة على فصل نفسها عن الواقع ، أو على إحياء نفسها فيه.

أرجو أن أكون وضحت ذلك جيداً … الواقع هو "ظاهر من دون تعليل أو قيم ذاتية" وهذا يجعله "رمز كوني"، ما يعرفه الإنسان عن الواقع هو "ترميز ذهني لعلاقة الإنسان بالواقع الطبيعي المحض".. وإذا كان الواقع غير قابل للعبور نحو المطلق فالرمزية الكونية غير قابلة للتجاوز نحو المعنى، وهذا يعني أن العزاء الوحيد للإنسان في حدود وجوده الواقعية سيكون في صناعة "عالم ذهني سردي" يُحاكي المعنى المطلوب …

هذا هو الدرس الذي تعلّمه ما بعد الحداثة : الأزمنة اللاحيوية (أزمنة الغياب) تفتقد المعنى لأنها تفتقد الاتصال الحيوي المتعالي على الموضوعية … واقع، وذهن كلاهما "غياب" مجرد سرد وأنساق وعلاقات ورموز ..

إذا كانت الحياة في كلا المجالين ( الواقع والذهن ) فاقدة للقيم ، وغير حقيقية بالمعنى المطلق، فهناك ميزة وياللسخرية، يتمتع بها الوجود الذهني ولا تتوفر في الوجود الواقعي ، إذ يمكن على الأقل أن تستخدم "الوهم الذهني" لخلق ومعايشة ما تريد تحقيقه (عالم محاكي) حيث تحيا التجارب التي ترغب أن تحياها والتي لا يتيح الواقع تجريبها لك، ولكن الشرط الوحيد من أجل حياة ذهنية تصدق فيها الوجود الذهني كما تصدق الوجود الواقعي هو أن "تنسى الفرق بين الواقع والذهن".

قد يكون من المنطقي اعتبار أن الواقع والعالم الذهني مستويان ، ولكن الحقيقة أن الواقع يمثّل "ما تستحقه الكينونة" ، القيود المفروضة على كينونتك الإنسانية وعلى شخصيتك الخاصة لم تأتي من العدم ، إنك فعلاً تعاني من نقص وضعف يمنعك من الوصول لحالة تتجاوز الطبيعة التي أنت فيها، والطريقة الوحيدة لتجاوز نقص كينونتك هي تغيير الأسباب المؤدية لها وهذه مسؤوليتك الذاتية التي لا يشترك فيها أي شيء معك، فإذا كنت غير قادر على "عبور الزمن واقعياً" فهذا لأن هناك جزءً من كينونتك يرتبط بالواقع الذي تحياه، وحين تحرر هذا الجزء من ارتباطه سترتقي كينونتك الحقيقية.

لكن أن تهرب من مشاكلك الواقعية باللجوء إلى مساحة ذهنية ، هذا لن يحرر كينونتك ، بل سيجعل تلك المشاكل تتفاقم أضعافاً مضاعفة، وقد يعرض الإنسان لخطر العيش في "بعد ظلامي وهمي" بسبب انسحابه المستمر من التحديات … فإنك لست لاهوتي التكوين لأنك لم تدفع الضريبة المستحقة للوصول إلى الله ، ونكران هذه الضريبة … لن يجعلك لاهوتياً.

ما بعد الحداثة تضع الوجود الرمزي والتأويل الذهني نقطة الأساس في حياة الإنسان ، هكذا ستعلّل العبودية الإنسانية للواقع والطبيعة وانسحابه نحو الذهن، وستعطيه استراتيجيات للتكيّف مع ضعفه والتأقلم مع مشاكله دون حلها، وستعلمه فن "أن يعيش بلا تحديات" أو بالأحرى "أن يعيش في اللازمن- من دون بحث عن قيمة الحياة" وهذا ما تراه ينعكس في إيجاد "الحلول الموضوعية السريعة جداً" للمشاكل دون استبصار لحقائقها، مثل إعطاء "المكملات الغذائية" عوض الغذاء الطبيعي، و"الأدوية النفسية" عوضاً عن العلاج النفسي، و"التواصل الاجتماعي" عوضاً عن التواصل الحي ، القراءة دائماً من "الكتب الرقمية" ، الهاتف ينوب عن الأجهزة الكهربائية التقليدية (الراديو والحاسبة ..) وينوب عن الأدوات القريبة من التجربة الحيوية ( الدفتر والقلم والقنديل …) ، و عن الصوت والصورة (القارئ الآلي)، بل حتى عن "الذهن نفسه" فيزود بالمعلومات والأحكام ، كما في GPT.

عدم مواجهة التحديات على نحو "مطلق" يعني عدم تجاوز نقاط الضعف، بل تجاهلها والمضي قدماً، وبالتالي عدم تجاوز المستوى الوجودي للكيان، ويعني أيضاً "خسارة الوجود الحقيقي" تدريجياً ، لصالح العالم الذهني ، ثم خسارة الوجود حتى في العالم الذهني.. كأنك تعكس عملية "النمو الطبيعي" للذات في العالم وتجعلها تنكص نحو الطفولة ثم نحو الجنينية ثم نحو العدم.

كذلك صور ما بعد الحداثة في الحياة الواقعية مطبقة في كل مكان، مثل "المعلبات الجاهزة" حتى للشاي والقهوة التي لن تحتاج لأكثر من فتح العبوة وابتلاع المحلول ، فضلاً عن استخدام الذكاء الصناعي في إنشاء محتوى جديد من بدايته إلى نهايته ، وعدم إعطاء فرصة للعقل حتى يحل أسهل المسائل الحسابية أو يبذل أقل جهد ، وكذلك للجسد ، حتى تصميم اللوحات الفنية ممكن فقط بتوجيه أوامر معينة لبرامج الذكاء الاصطناعي، وبلغت ما بعد الحداثة ذروتها في أجهزة "التصوير المحاكي- الميتا" والتي مهّدت لصناعة فضاء افتراضي وحبس الوعي في "كبسولة زمنية آلية" تربط دماغه بشبكة من الذكاء الاصطناعي التي لا يمكنه الخروج عنها لأنه أصلاً لا يمكنه أن "يعرف" و"يتذكر" أنه يعيش في محاكاة، وربما لا يهتم بذلك أصلاً.

بدأت ما بعد الحداثة في اللحظة التي أدرك الإنسان فيها أن وسائله الحداثية المثيرة للشفقة من أجل كشف أسرار الطبيعة لا تخبره بأي سر ، إنها تنظم مشهدها الظاهري فقط ، ومحاولاته في التغلب على (لامعنوية الطبيعة) وتجاوز حاجزها من خلال الاستعانة بما تتيحه العلوم والفنون كانت أساليب خاطئة من حيث المبدأ ، وأنه لن يسيطر على تفاعلات الطبيعة بهذه الطرق أبداً.. إنه يستغلها فقط، أما العلاقة الكونية بين الإنسان وبين الطبيعة لم تتغير ، والتحرر من الواقع هو ارتقاء الكينونة الزمنية الذاتية وارتفاع الاتصال بينها وبين الوجود.. وهذا ليس إنجازاً يحققه إنسان ضمن الواقع الموضوعي واعتماداً على وسائل موضوعية.

هكذا تنذر ما بعد الحداثة بالكابوس الوجودي : لا يمكن إثبات وجود اختلاف جوهري بين قيمة الحياة الافتراضية في محاكاة أو منام وبين قيمة الحياة في عالم مادي كوني اعتماداً على معيار إنساني فقط… وأقصى درجات ما بعد الحداثة هو إنكار وجود القيم أصلاً، ونهاية الاختلاف بين الضحية والجلّاد وبين القاتل والمقتول، لأن المفاهيم والوقائع مجرد رموز ثبت انه لا يمكن تجاوزها إلى معاني، والرموز الخاوية تساوي بعضها من حيث قيمة الوجود.

الحياة في نعيم لانهائي ، والعذاب في زمن لانهائي … متساويان من حيث أنهما "سرد" لا حقيقة، ولا داعي لتفضيل أحدهما على الآخر، ولا يوجد ما يشرعن طلبك في أن تكون "المؤلّف" ورفضك أن تكون "شخصية ضمن حدود الرواية".

وإذا عرّفنا الحداثة بأنها "تساوي الظاهر والباطن \\ تساوي الحقيقة والواقع" و"تقييد الحرية بالغياب والآخر" فإن ما بعد الحداثة هي "الانتقال من الظاهر والواقع إلى الوجود الذهني بعد تساوي الاثنان" وعوض تقييد الحرية فستكون أمام "إعدام للحرية".

أفضل تسمية الدرجة الضعيفة من ما بعد الحداثة "تساوي الواقع والذهن ومعيارية اللذة والألم" بـ"العبثية".

والدرجة القوية من ما بعد الحداثة "تساوي اللذة والألم وانحلال حق الذات في القرار والوجود" بـ"العدمية المطلقة".



نهاية إيفانجيليون التي لم يتسن فهمها في معظم شروح الانترنت : بعد أن تم حقن عقل شينجي ب"شيطان-محاكي وهمي" من أجل إخضاع روحه لما يطلبه المسيطرون، وبعد أن لم يستطع الانتصار في التحدي الوجودي في حياته الحقيقية، وتقبّل التعايش مع الهزيمة وفقدان السيطرة على حياته وتسليمها للكائن الذي في ذهنه ، كحل نهائي، ترك إرادياً ملكّة التفريق بين الواقع والوهم وانحل في ذهنه في حياة وحيدة عزلاء ينسج فيها حياة وشخصيات تتناسب مع متطلباته النفسية ، لأنه لم يستطع التحكم في نفسه ، ونفسه هي صلته بالوجود الحقيقي … التكيف مع بؤس الواقع … وهكذا انتقل إلى العالم العدمي و"تكسّرت" صورة الحياة الحقيقية لينشئ أحلاماً وشخصيات يمكنه من خلالها التعايش مع رغباته التي لم يحققها في حياته الحقيقية.

المشكلة التي تواجه شينجي حقاً أن هذه الخسارة لم تكن ضرورية ، كان يمكنه تفاديها دائماً ، ولكنه استسلم للإيحاء.

ولكن أين تبدأ كل هذه الفوضى ؟

كما هو العاشق الذي أدرك أن استحالة تحقيق هدفه يكمن في تكوين الهدف نفسه ، كذلك اليأس هو ، دائماً يبدأ من "وضع هدف ضمن سرد معيّن" والهدف السردي، أولاً ، يختلف عن رغبة الذات الحقيقية ، التي لا تستمد رغبتها من الاندفاع اللاشعوري أو الأفكار التلقائية، ولا ترغب بأشياء لا تتجاوز حدود الرموز ولذة التحقيق،… وثانياً، يختلف عن "قيمة الحياة الحقيقية" ، ورغم أن قيمة الحياة مُطلَق ، إلا أن المطلق هو "المتعالي على الحدود" وهذا يعني تجاوز الحدود الظاهرية من أجل القيم ، وليس "التحايل اللانهائي على تحديات الظاهر موضوعياً".

فإذا كنت تريد حرية مطلقة ، فما يمكن تحريره حقاً هو "الذات" والطريقة الوحيدة لذلك هي "الخلاص من الغياب عن الذات في العالم الموضوعي المفارق لها" وبناء رؤية ذاتية وفعل ذاتي سيحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى فهم الذات الحقيقية، وهذا لا يتم إلا بالتوقف عن التفاعل مع الخارج، والتلفت بعمق نحو الداخل.

حينها ستنكشف أسباب تقييد الذات إدراكياً وستتمكن من ملامستها وتغييرها مباشرة، عوض التفكير بطريقة للتحايل عليها.

يبدأ اليأس من "المعيار" المستخدم في تحديد "المعنى" والأمل، والفشل والنجاح، أي من النموذج المعرفي المقولب للحياة والموجود ضمن حدود أفق الذهن.

وعلاج اليأس هو التخلي عن "المعيار الافتراضي" للقيمة ، وللطريق الموصل إليها، وبشكل أعمق هو التخلي عن "القالب الذهني للمعيار" وإعادة بناءه من منطلقات ذاتية ورغبة حيوية واتصال حضوري، دون قواعد عقلانية وذهنية، أي لا تجعل فهمك الذهني للواقع شرطاً على ما ترغب به، ولكن ابحث عن ما ترغب به حقاً.

ما يعتقده الناس عموماً أن الياس يأتي من "عدم كفاية الأسباب والقوى" لتحقيق الهدف، ولكن الحقيقة هي أن الياس يأتي من "الارتباط بالواقع ذهنياً على نحو يمنع المرء من أي اتصال حر وإدراكي معه" وهذا التقويض لحيوية التفاعل وأسره في إطار ما يسمح به الذهن والقواعد ناتج عن "ضعف طبيعي وخوف عقلي" مع اعتقاد بانحسار الكينونة في حدودها المعطاة، وبالتالي استحالة تجاوز الضعف والخوف، مما يؤدي إلى الهروب (الياس) أو الهجوم (الأمل) لأن الطريقة الوحيدة للارتقاء بالكينونة بما يتجاوز حدودها المعطاة ويجعلها قادرة على الاستجابة للتحدي هي التفاعل من منطلق الروح، ولكي يحدث مثل هذا التفاعل فلابد من التخلي عن السرد، وهذا ما سيسمح بتجاوز حدود الكينونة خارج ما يسمح به نطاق السرد ، وهذا يعني أن الخروج من الياس هو خروج من "السرد" وتخلي عن "الارتباط بالدور ضمن المسرحية".

علاج اليأس ليس مزيداً من التركيب، بل مزيداً من التحليل ، على عكس ما يتوقعه الجميع …

أن تصدر رغبتك من ذاتك الحقيقية ومن الوجود الحقيقي، هو أن تستخدم "طريق معرفي" مختلف عن الخط الذي ايتخذه إنسان الحداثة والعقل الغربي بشكل عام، طريق بدأ من الذات ومن الوجود كما تراه الذات، وكأنهاوحيدة في آفاق الوجود، هذا سيجعلها في مواجهة مباشرة مع نفسها ومع الواقع المُبهم "الوحش".. وحين تتحلى الذات بالشجاعة الكافية من أجل كشف الحقيقة ، حين تكون شمساً ، تستطيع أن تعبر حاجز البون وتصل إلى حقيقة العالم ومطلق الوجود.

https://ar.quora.com/%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D9%85%D9%83%D9%86-%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D9%81%D8%B9%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AD%D8%B1-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86/answers/1477743747948885

هل اليأس ينبع من طبيعة الحياة والعالم أم ينتج عن نمط من النماذج المعرفية ؟

إذا كان للحياة معنى حق مطلق ، متجاوزاً ما يكون به الشخص سعيدا وهانئا ومرتاحا ، معنى يأتي من الوجود لا من الإنسان ,,, كيف ترى هكذا معنى بإدراكك الخاص ؟ ما الذي يجعل للحياة قيمة ؟

ربما ، ما يجعل للحياة قيمة أمر لا علاقة له بالبشرية جمعاء، ربما يكون المعنى بعيداً عن مصير البشر ، بل مختلفاً عنه، بل مضاداً له، لا يجب أن تحمل تصوراً مسبقاً عن ما يكون عليه المعنى …

السؤال من جهة مختلفة : ما هي "القيمة النهائية" التي تحيا لأجلها ؟ و تتوقف عليها كل حياتك وقراراتك و من أجلها تستمر في التفاعل مع الحياة ؟ ومن أجل تحقيقها تطلب الحياة ؟

هل هناك دافع أعلى من كل الدوافع …

إذا سألت نفسك ( لماذا أحيا - لماذا أقوم بفعل ما أو بقرار ما - لماذا لا أصمت عن الزمن ) فالذي سأؤكده لك أن هذا هو أهم سؤال على الإطلاق وطرحه على نفسك ومحاولة الإجابة عليه ( البحث العملي عن القيمة الحيوية ) هو أهم ما سنفعله بحياتك.

لاحظ أن السؤال الآن يختلف عن سؤال "ما هو المعنى في الفلسفة" أو "ما هو المعنى حسب تصور الإنسانية" أو "كيف يرى الناس - الآخرون - المعنى" ، وانتقل الإدراك من الموضوعية - الإنسانية إلى الذاتية - الوجودية ، ومن حيز الذهن إلى حيز الحياة، وكما يقول هايدغر فإن الإشكالية تكمن في "نوعية طرح السؤال" وليس في "تحديد الجواب"..

كما أن عدم طرح السؤال وعدم الاكتراث به لا يعني أنه لا يوجد مركز يوجه حياة الإنسان ، بل يعني فقط أن المركز الذي يحدد حياته لم يات من حالة وعي وقرار شعوري ورغبة حية ، فهو ليس الذات ، لأنها توقفت عن أن تكترث بالتحديد، وغالبا سيتم استلام المركز والنموذج جاهزا من المجتمع فيكون "الأنا الاجتماعي" هو المركز و"االسرد" هو النموذج..

الإنسان بعمومه ليس لديه جواب محدد على هذا السؤال، إنه يحس بحضور القيمة الحيوية في العالم، ولكنه غير قادر على الوصول إليها، لأن تحديدها عملية عزل لكل ما يزيد عن الحقيقة ، وهكذا تصبح القيمة في مكان وباقي الحياة في مكان آخر، والإنسان يخاف من هكذا إدراك قد يكلفه التخلي عن اعترافه بمشروعية الوجود كما يعرفه مسبقاً، أي كل شيء متعضي ذهنيا مع مفهومه عن القيمة وإحساسه بها.

ذلك التخلي إنما هو فصل القيمة عن "الظاهرة الرمزية" سواء البشرية ، والمجتمع ، والآخرين ، والعائلة ، والأنا ، والحبيب ، ومعظم الأشياء التي يسميها الإنسان بـ"العالم" والتي تدور حول وجوده الإنساني جاعلة الإنسان هو المركز ، والوجود هو المحيط، وكأن الإنسان لا ينتمي إلى الوجود ، ولأن الإنسان كائن محدود وناقص، فالوجود الوحيد الذي يمكن أن يشغر مركزه هو أزمنة عبثية مادية.

إن العدمية والعبثية تحاول بشراسة قدر الإمكان جعل (الماهية الإنسانية) هي مركز الحياة والوجود، مع أنها تحاول إنكار مفهوم المركزية، ولكن حين تكون الحياة قصة صغرى فهناك مركز وهذا المركز ذو مقام صغير محدود وهو المستوى الإنساني من الكائن.

كلمة "الإنسان" لا تعني الحيوان الناطق أو العاقل، ولكن تعني "الكائن الواعي المقيد في الزمكان المادي" والذي يتفاعل مع الحياة نُقطياً ( يرى الحياة ضمن حدود مشهد مقتضب هو ما يحدث هنا والآن ) وينسى ما وراءه من مستويات وأزمنة الوجود، وهو بذلك يجعل الرؤية المقتضبة مرجعاً في الحياة، وبما انها ناقصة فغنه يعتمد في إكمال المشهد على "الذهن" و"اللاشعور" فيكون الأنا والاختبار اللحظي مركز حياته، والنموذج الذهني والمجتمع هو محيطها.

الدابُّ البري نوع من الإنسان، لا يستخدم التواصل اللغوي الموضوعي، ولا يختلف عن "الإنسان البشري" إلا بذلك.

ما يجدر ملاحظته، أن حالة الإنسان ناتجة عن تفاعل محدود بين الوعي والوجود يجعل مساحة شاسعة من حياة الذات مقيدة بالأسباب الغيابية الغير مدركة، وهذه المساحة هي ما يسمى "اللاشعور" .. وإذا انتهى تسلط اللاشعور تنتهي المشكلة التي تصبح واضحة وضوح الشمس ويصبح حلها في متناول الأيدي المباشر .. اللاشعور بالمعنى الأعم ، هو ما يفصل بين الإنسان والملاك ، والخلاص من اللاشعور هو ارتحال من الأرض إلى السماء.

بما أن الوعي واللاشعور يشتركان في "اتخاذ القرارات" في السلوك والحياة الإنسانية، فإن رؤية الإنسان للحياة وطريقته في التفاعل معها ، نتاج للجدل القائم بين الوعي واللاشعور ، والذي يسمى (التفكير). في حالة أن يتفاعل الوعي الخالص مع العالم لا داعي للتفكير، وعندما يتفاعل اللاشعور البحت مع العالم لا داعي للتفكير، لكن حين يتفاعل كلاهما معاً فهناك تعارض، والنتيجة هي قرار مبني على محاولة إيجاد "أرضية مشتركة" منسوجة من الأفكار.

منطلقات الوعي حيوية، تختلف عن المتعة والبقاء ، ولا تؤثر الظروف البيئية على ماهيتها، لكن اللاشعور ينطلق من دوافع غريزية آلية، ولا يفهم معنى القيمة أو الحقيقة أو الجمال أو النور أو الإخلاص.

دوافع "الإنسان" ككائن مركب من الوعي واللاشعور تنتج عن "حالة من الذوبان الهلامي" لكلا الرؤيتين الواعية واللاشعورية، ومثل هذه الدوافع ستكون رمزية جداً، كما في الجنس (التعبيرات الدنيا) والفن (الاستجابات العليا).

الوعي لا يخطئ ، من حيث أنه يخلو من الدوافع اللاقيمية، مشكلة الإنسان الأساسية هي القيام بتحرير الوعي من الهيولى اللاشعورية للوجود المادي المتعضي معه.

تحرير الوعي من قبضة اللاشعور هو خلاص من القيود والإضافات على الكينونة ، والحرية الحقة لا تأتي من طريق الدعم والتعزيز موضوعياً، بل من طريق الخلاص من الموضوعي.

هكذا يكون ما نعرفه من طريق اللاشعور هو العالم الطبيعي بحدوده الظاهرية الذي يأتي من رصد الحواس المباشر. وما نعرفه من طريق الوعي هو "الزمن الحيوي" الذي يأتي من مكان آخر غير الذي يتبدى من طريق الحواس، وأحيانا يكون منفصلا عن المشهد الحسي.

الزمن الحيوي يتجلى عبر التفاعل مع الحقيقة الحية، والزمن الغيابي يتمظهر من محض رصد العالم الخارجي ، وبالنسبة للوعي : يبدو المشهد الحسي كعالم افتراضي ينبعث من وجود أعمق ، وأحياناً يمكن رؤية طيف من ذلك الوجود العميق، ببعض التأمل والهدوء والخشوع والتركيز.

ما يعرفه الإنسان ككائن مركب هو "علم هلامي" ينصهر فيه الزمن الإلهي الحيوي مع المعطى الطبيعي الميت ، وهذا يجعل العالم الطبيعي مركباً من الطبيعة ككائن رمزي مُبهم ومن الإشراق الإلهي فيها.

ثم يدرك الإنسان أن الطريقة الوحيدة لفهم العالم والزمن دون تفاعل مباشر معه هي التمثيل (الترميز الذهني) فتأخذ الأمور الميتة ( كالجنس ) معاني حية ( كالحب ). مع أن الحب يتسامى عن الجنس في حالته النقية، لكن الحب في حالة الإنسان يحتاج إلى الجنس، لأن الجنس ينطوي على اعتراف بالجسد والحب اتصال بين الأرواح، والإنسان ليس وعياً حُراً ولا يريد الخروج من حدوده لناسوتية، لذلك يحتاج إلى "إدناء المعاني العليا" من طبيعته الغريزية، وهكذا تمتزج المعاني الخالصة بالطبيعة الميتة وتصبح الموضوعات الطبيعية رمزاً للمعنى الحي في ذهن الإنسان، الذي يعزف عن الصعود إلى الأعلى صعوداً نهائياً والتفاعل مع الطبيعة تفاعلاً مباشراً.

يختلف الإدراك الجمالي الحيوي عن الهلامي في هذا : الإدراك الجمالي هو اتصال بما وراء الموضوع المحسوس، الذي يغدو رمزا لعالم المعنى، بينما الإدراك الهلامي هو "افتراض وهمي" لما يعنيه الموضوع المحسوس، استنادا على الذاكرة (ترابط الأفكار المسجلة مسبقا عن الموضوع).

إبريق الشاي في الإدراك الجمالي جميل من حيث بنيته الزمنية الوجودية، وجميل في الإدراك الهلامي من حيث اتصاله بالتراث.

هكذا تكون القيم والمعاني غائبة من حياة الإنسان لأنه لا يدركها مباشرة، إنه يتحسسها هلامياً وكأنها تأتي من فضاء بعيد، يسميه "السماء" ويسمي المعاني "الله" ، وذلك يجعل غياب المعنى "جوهريا" في الحياة الإنسانية، ولابد أن يبقى غائباً حتى تستمر الحياة الإنسانية، مع أنه أيضا يجب أن لا يغيب غياباً مطلقاً ويجب أن يتم الإحساس به من زمن لآخر على نحو مبهم، وإلا فلن يكون الإنسان إنساناً بل سيكون لاشعوراً خالصاً ( آلة -جماد - وحش ).

فالإنسان هو وعي مقترن باللاشعور..

وبالعودة إلى الفرق بين الإدراك الحيوي والإدراك الهلامي، فإن اليأس يعتمد بالمطلق على حالة الإدراك الهلامي، وبالتحديد على موقف مسبق من الحياة (استحالة الوصول إلى القيمة) وهذه الفكرة المسبقة تجعل الإدراك لا يحاول أن يفهم كيف يصل للقيمة أو يحرر نفسه، وكأنه مقيد ب(إطار عام) للمشهد الذي يراه، يمنع عنه الرؤية الكاشفة للحقيقة.

ما يجعل اليأس سلوكا مرضيا هو أنه فكرة هلامية مسلم بصحتها دون تحقيق، تقولب رؤية الواقع والحياة وكأنها موقف إعطائي مسبق صارم، كما هو حال المذهب الطبيعي الذي يتبنى موقفا مسبقا من الحياة أنها لابد أن تكون مادية، رغم أنفها.

ومن الملاحظ أن المواقف المسبقة دائما تكون صارمة ويؤسة، لأنها أصلا عملية تحديد للامحدود وتأطير للفضاء المطلق المسمى بالحياة.

المعنى هو ما تتخلى عن بقائك من أجله وتسلم له، وليس ما يكسبه لك تصاعد بنيانك الزمني وتعاظم قوتك، العلاقة بالمعنى جمالية وقيّمة وحية وحميمية، وقد تكون بسيطة جداً على أن يقدّرها الإنسان ، إلا أنها مع ذلك جوهرية الوجود..

{( لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ )}



إرسال تعليق

0 تعليقات