الفلسفة هي العلم الباحث في "المنطلقات الكونية للتفاعل الحيوي"، التفاعل الحيوي هو العلاقة بين الذات الواعية وبين الوجود.
ينطلق التفاعل الحيوي (العلاقة الجوهرية بين الذات والوجود) من الرغبة ( ما الذي ترغبه من الوجود ككل ) والإدراك ( ما الذي تراه عن الوجود ككل) والفعل (كيف تقدم ذاتك إلى الوجود).
الأسئلة الكبرى هي : ما الرغبة \القيمة وما العلم\الحقيقة وما الفعل\ الحيوية.
هذه المنطلقات كونية، غير قابلة للتبديل أو التحويل، ولا يوجد غيرها، وكل الحياة مهما كان نمطها وتجليها الزمني ستعتمد دائماً نفس المنطلقات، فإذا كان ثمة من الحقيقة ما لا يستطيع الشك أن يحيطه فإنه تلك المنطلقات الحيوية الأولى..
المنطلقات الكونية للتفاعل الحيوي هي المبادئ الأولى التي تكوّن التفاعل الحيوي ، ونوعية هذا التفاعل (نوعية الحياة) تحددها ماهية المنطلقات التي تم تبنيها.
هكذا تتيح الفلسفة فهم طبيعة الحياة أو حقيقتها نظرياً وفق نموذج واحد مرصوص مبني على منطلقات ثابتة ، أو (مطلقة) ، وهذا الفهم النظري هو ما يوجه ويتحكم بعلاقة الإنسان (الذات) مع كافة نواحي ومجالات الحياة التي تعرفها والتي لا تعرفها، وهذا الفهم النظري يحدث في النهاية "توحيداً" لنواحي الحياة والسلوك، التي ستستند على نفس المنطلقات.
قد يبدو الدين مجالاً مستقلاً عن العلوم الطبيعية، المستقلة عن العلوم التطبيقية (كالاقتصاد)، وقد يبدو العلم المادي مستقلاً عن العلوم الأدبية والتاريخية، وقد يبدو العلم بشكل عام مستقلاً عن الحياة المهنية، والاجتماعية والفردية والذاتية، وعن تصرفات الإنسان المتنوعة في حياته ومواقفه المختلفة، ويبدو أن كلاً من هذه الأبعاد له دافع مستقل بالنسبة لإنسان واحد.
مظهر يبدو متنوعاً ومبعثراً على نحو يستحيل توحيده، ولكن كشف الخيوط الرفيعة الممتدة من موقف الإنسان الديني إلى موقفه الاقتصادي، إلى حياته الجنسية، ذوقه الفني، تطلعاته وشخصيته وطريقة تفكيره العامة يعطي المراقب القدرة على تحديد صفات متشابهة ومكررة لمواقف ذلك الشخص بين كل هذه المجالات المتباعدة من الحياة.
إذا بحث المراقب أكثر في مكنون هذه الصفات فسيبدأ الكشف عن "نظرية موحِّدة" تصور العالم بطريقة محددة، وهذه النظرية التي قد لا يشعر الإنسان بأنه يتبناها أصلاً، هي القائد الحقيقي له، وهي التي تحدد كامل مجرى حياته وسلوكياته ومواقفه، على سبيل المثال، موقف الإنسان من تناول اللحوم، يمكن أن يعكس موقفه الحقيقي من مسألة (الوعي) و(الروح) و(القيم) وكذلك يعكس مدى قدرته على الإدراك البعيد، ومدى قدرته على الوجود الفاعل. معدل سرعة الحديث يمكن أن يكشف عن مقدار التأمل قبل الجواب، وبالتالي عن مدى الاكتراث بالموضوع، وما يعنيه هذا الموضوع أصلاً، وعمق الرؤية، واللامبالاة تعكس مستوى تطلعاته البعيدة، وهذا ما سيعكس ما الذي "يثمّنه حقاً" في الحياة، والعالم، والوجود.
إدراك وجود "النموذج المعرفي-الرؤية الكونية" ومركزيته في حياة كل إنسان يثبت أن الإنسان يتبنى فلسفة خاصة تحكم وتوجه حياته الشخصية، وأن التعامل مع الناس بمعزل عن فهم فلسفتهم هو السبب الحقيقي في "سوء الفهم"، ولكن أكثر الناس لا يحددون الفلسفة الخاصة بهم تحديداً واعياً، بل يتبنونها من المحيط العام والتربية.
كل إنسان يتفلسف حتى لو لم يدرك ذلك، وكل فعل يقوم به أي إنسان، يوجد له أساس فلسفي، ووظيفة الفلسفة كعلم، رفع الرؤية الكونية وفهم للعالم، من مستنقع وضباب اللاشعور من العقل الباطن، إلى المستوى المدرَك، إلى الشعور، حيث يعيد الإنسان تقييم رؤية حياته، وتحديد منطلقاته، وقيمه، ومعاييره، وتكون الفلسفة جوهرية أكثر من "المنظومة الدينية" والانتماء الديني، لأن المنطلقات الإدراكية والمعايير ، وهي موضوع علم الفلسفة، هي التي تجعل شخصاً ما يتدين بدين ما، وسائل ومعايير تقييم الأمور وتحديد الحقيقة، والغاية، هي التي تجعل إنساناً ينتمي أو لا ينتمي لهذا الدين، وهذه المعايير هي موضوع بحث الفلسفة.
ربما أن العلوم الطبيعية مستقلة عن الدين، وهو مستقل عن السياسة، وهي مستقلة عن الاقتصاد، وهم مستقلون عن الآداب، وهم مستقلون عن الحياة المهنية والجنسية، وهم مستقلون عن الذوق الفني، ولكن يوجد مبادئ أولية توحد كل مجالات الحياة المتباعدة، إذ تبدأ هذه المجالات دائماً من نفس المنطلقات التكوينية، الرغبة، والقيمة، والحقيقة، والمعيار، والفعل، والعلم، والوعي، والعلاقة .. هذه المعاني تسبق الحياة الإنسانية وتؤسس لها، وما يجعلك تهتم بعلم الاقتصاد هو ما يجعلك لا تهتم بعلم الفيزياء، والمعيار الذي يحدد قيمة الأديان هو الذي سيحدد قيمة الأعمال المادية، ذوقك الفني ينبع من مفهومك عن "الجمال" وهذا المفهوم سيعكس نفسه في تقييمك لكل الأمور.
الفلسفة هي "علم المنطلقات"، كمحاولة لرد الحالة الهلامية اللاشعورية للتنوع الحيوي الظاهري إلى وحدتها النهائية في مبادئها الأولية (الانطلاقية).
المنطلقات نفسها تأتي من الوجود، موقف الإنسان من المنطلقات منوط باختياره وقراره، وهذا يجعل الفلسفة مقسمة إلى مذاهب، وكل مذهب يؤسس لنمط حياة معين.
الفلسفة المادية هي الرؤية الكونية المبنية على "موقف يتنبى فهماً مادي للمنطلقات".
المبادئ الكبرى للموقف المادي ثلاثة :
أولاً : القيمة هي العمل.
ثانياً : المعيار هو القوة.
ثالثاً : الوجود هو الواقع.
القيمة هي العمل :
مدينة أفلاطون ومثالياته تكون ذات قيمة عندما يتم تحقيقها عملياً، خارج هذا الإطار ليس لكلامه قيمة، وهذا يعني أن القيمة في الموقف المادي لا تنبع من "ذات الوجود" كما يحاول أفلاطون أن يقول، فما يتحدث عنه أفلاطون هو "ما يجب أن يكون" أي هناك معيار سبق التحقق العملي، وهذا المعيار لم يحدده الإنسان، لذلك هو "فاضل"، لأن الوجود لا يهتم هل يحقق الإنسان معاييره أم لا، تحقيق المعايير مهمة يحملها الإنسان، الوجود يحدد المعايير التي (كان يجب أن يحققها الإنسان) سواء تحققت ، أم لم تتحقق على الإطلاق.
ما يريد أفلاطون والمثالية قوله أن الوجود ليس أعمى وأصم ، ليس ميتاً، ومعاييره لا تنبع من "الحالة الطبيعية" ولكنه حي، يبصر ويسمع، ومعاييره هو الذي يحددها، وحين نقول "هو" فنحن نقصد ذات الوجود، تجلي الله.
وأن الإنسان يجب أن يبحث عن معايير الوجود ثم يحققها، فهي مثاله الأعلى، فلابد أولاً من الكشف والتحديد والتعيين ثم التحقيق، وما يعرف الإنسان بالقيمة هو الكشف والتحديد والتعيين، وليس التحقيق العملي. ومن الممكن لهذا التحقيق أن يكون قيماً ومن الممكن أن يكون عدمه خيراً منه.
الوجود يعطي حقائق مطلقة، لا تعتمد على مدى اتصالها بالحياة الشخصية للإنسان، بل على ذات الوجود القدسية، وإن عدم قدرة شخص على الوصول إليها هي مشكلة الشخص، لا مشكلة الوجود أو الكون، فإذا قرر الوجود إعطاء الشمس مركزية على الأرض، فلا يهم ما الذي سيعتقده الإنسان حول ذلك، لكن من الافضل ان لا يعتقد الإنسان شيئاً وأن يبحث عن الحقيقة. وبالمثل إذا قرر الوجود أن الذاتية هي رأس الفضيلة فلا يهم هل يوافق الناس على ذلك أم لا، ولا يهم مدى اقتناع جمهور الناس بجمالية موضوع معين طالما أن الوجود قرره جميلاً (طالما أن الكشف عن الموضوع إدراكياً يبيّن الجمال فيه قبل الحكم عليه).
ولكن المادية بنيت على أن الإنسان يجب أن "يستقل عن الوجود"، أو بالأحرى أن "يعزل" نفسه عنه، ويصنع معاييره الخاصة بحسب رغباته وحياته ومعرفته النسبية، لأن غاية الإنسان إنسانية لا وجودية، غايته هي ما يريده هو، لا ما يريده الوجود، وهذا يجعل القيمة بالنسبة للإنسان تكون لما يتمكن من تحقيقه، لا لما يكون حقاً بذاته.
ولكن … لما أصلاً قد يتنبى إنسان موقفاً يعزله عن الوجود ؟
_ أولاً، لأن الإنسان يخاف، قلق، لا يثق بنتائج علاقته مع الوجود، خائف من غياهب العالم، وهذا يؤدي إلى البحث عن وسائل تتناسب مع حالة (عدم الثقة-الريبة) التي تعتري الإنسان.
_ لماذا لا يطمئن الإنسان من الوجود ؟ مع أن الوجود يحكمه على نحو مطلق ، ومع أن حياته الإنسانية نبعت من أعماق الوجود، وهو لم يخلقها ؟ السبب هو الخلل في علاقة الإنسان بالوجود، لأن الإنسان يعلم أنه مخطئ بخصوص أمر ما، أمر جوهري، وأنه إذا وقع عليه عقاب ما فإنه يستحقه بجدارة، وهذا يعني أن الإنسان كان أنانياً بمقدار جعله يفضل خصوصيته على الوجود، وفي نفس الوقت يرفض الإنسان موقف (الاعتراف)، لا يريد أن يستغفر، أو يبحث عن مكمن الخطأ، بل يريد أن يبني مساره الشخصي وعالمه الخاص دون أن يفقد أنانيته أو يترك خطيئته، وذا ما يجعله يحيا بمعزل عن الوجود ظاهرياً، متعاضداً مع بقية البشر، كانت رغبات الإنسان أنانية منذ البداية وكان تقصيره سيؤدي حتماً إلى تبني موقف اعتزالي أو (كُفري-يغلف نفسه بكَفَر) بما أنه يرفض الاعتراف بالخطأ، ويستكبر على أن يسلم أمره للوجود من جديد.
نكران الإنسان للوجود بعيد عن معنى "الحرية" الوجودي ، إذ أن الوجود هو الجوهر العميق في كينونة الإنسان، وحين يتنكر الإنسان للوجود فسيتنكر لذاته الحقيقية اللاإنسانية، ولن يبقى منه إلا الحالة الزمنية المقترنة بالقلق والعجلة والتوتر واليأس والأمل واللذة والألم وسائر الانفاعلات، تسعى عابثة إلى ان تحرر نفسها في قوقعتها الذهنية المعزولة عن الوجود الحقيقي.
لا حرية من دون الحقيقة..
الفلسفة المادية هي "فلسفة إنسانية" ، تبدأ من منطلقات رؤية (الإنسان) للوجود، ومن معايير الحياة الإنسانية والبقاء الإنساني ومن جعل الإنسان مركزياً، ولأن الإنسان هو المركز، فالمحيط المناسب له يخلو من "الحقيقة والمعنى" والوجود من حيث هو "جوهر مطلق" ويحتوي فقط على هيولى مبهمة تسمى بالعالم الطبيعي.
الفلسفة الإنسانية هي التي لا تبدأ من منطلق الوجود الأكبر ومن رؤية كونية خالصة، وعلى المرء أن يفكر ملياً حين يقول عن فلسفة إنها "إنسانية" فما يعنيه ذلك حقاً هو مصدر "المبتدأ" الذي تنطلق منه هذه الفلسفة.
عادة يقال إن الأديان هي "فلسفات إنسانية" لأنها تنطوي على وجدانيات ومعاني غير نابعة من الوجود المادي، ولا يفهمها إلا الوعي، وبالتالي الإنسان، ولكن هل الواقع الموضوعي فعلاً مادي من الأصل أم أن هذه قراءة الإنسان له ، بما يتناسب مع هوية الإنسان ونزعاته وقدراته المعرفية ؟
الأديان عموماً فكر وجودي، فلسفة أنطولوجية، لا علاقة للإنسانية بها، مبدأ الإنسانية يقتضي تصوراً للعالم يكون فيه الإنسان هو المعيار للمعرفة والمركز للقيمة، وحين تكون القيمة هي "العمل" فإن ذلك صحيح بالنسبة إلى الإنسان، لا إلى الوجود.
المعيار هو القوة …
في عالم إنساني-إنساني ، يخلو من المنطلقات المطلقة، والحقائق الوجودية، لا يمكن لكلمات مثل (أفضل - أسوء - أجمل - أقبح - أعدل - أظلم - حق - باطل ) أن تكون ذات دلالة واضحة ومعنى محدد، فكل العالم بالنسبة لإنسان هو "ظاهر مادي أجوف" لأنه يرفض التأمل في العالم والبحث فيما وراء الظاهر، والكلمات الأخلاقية السابقة تكون أقرب إلى المجاز والاستعارة أو تعبيراً عن خلجات مُبهمة ينفعل لها جهاز الإنسان السايكوفيزيائي بين الحين والآخر.
المعاني الحيوية غير موجودة في وقائع محددة موضوعياً، ثمة فرق جوهري بين نوعية الوجود الذي تنتمي إليه المعاني الحيوية وبين نوعية الوجود الذي يحتوي الوقائع الموضوعية المادية، فالوقائع الموضوعية هي محض تحديدات في الزمان والمكان والعلاقة.
المعاني الحيوية تكون جوهرية قبل كل شيء، وهذا يجعلها بلا حدود، الجمال مثلاً كمعنى يكون بلا حدود، يكون قيمة، المكان نفسه قيمة وليس كياناً متعيناً ولكن الفرق بين المكان والجمال هو أن قيمة المكان لا تتبدى في الأشياء ، وإدراك المكان كقيمة ينقل الوعي مباشرة نحو التجريد.
ولكن جميع القيم ذات وجود مطلق يمكن إدراكه حين يتم التجرد من الجزئيات والمحدوديات.
والمعاني النهائية لمفاهيم مثل "الحق والباطل الأخلاقيان" أو مثل "الصواب والخطأ" إنما تأتي من ذلك الوجود، أو من قياس الوجود الظاهري الرمزي على الوجود القيمي المعنوي، إذاً ، في الحياة الإنسانية المعزولة عن الوجود، لا يمكن لهذه المعاني أن تكون أصيلة.
هذا هو ما يجعل شخصاً مثل نيتشه يسخر من الأخلاقيات المتعارف عليها اجتماعياً، لن الصواب الاجتماعي مجرد تقييد لا معنى له، إنه محاولة للحفاظ على تعضي المجتمع، وليس يحمل من كلمة الصواب ما وراء ذلك قيد أنملة.
بل تتجلى القيم في معطيات وجودية تتجاوز المستوى الظاهري، وبما أن الإنسان عزل نفسه عن ما وراء المستوى الظاهري فعليه أن يتقبل غياب المعنى عن هذه المفاهيم، وعلى هذا الأساس، لا يمكن تحديد فعل معين على أنه "الحق"، أولاً لأن الحق غير محدد المعنى، ولا يمكن إدراكه بذاته باستقلال عن المعطيات، ثانياً لأن الأبعاد النهائية والنتائج البعيدة للأعمال غير واضحة بالاستناد على الظاهر وحده. ثالثاً ، إن أي نتيجة عملية في عالم إنساني يمكن تقييمها بقياس تأثيرها بالنسبة إلى إنسان معين، أي من حيث اللذة والألم وهذا ينفي كونية المعايير، فحتى اللذة والألم قد يختلفان بين الناس، فتكون الجريمة نسبية.
محاولة الكشف عن "التأثير-المعنى" الحقيقي لفعل معين على الآخرين، أو ما يقع في وجدانهم منه، ما يمثله هذا الفعل حقاً بالنسبة لهم، مسألة مستحيلة من منطلق ظاهري بحت، وبما أن اللغة رموز فهناك حدود معينة يستحيل على اللغة أن تتخطاها، ونقل المعنى الحقيقي بدرجة اليقين متعذر في لغة بشرية، والتعويل سيكون على "الفهم العام" للموقف بحسب "الإنسان الطبيعي-العادي" وخارج ذلك سيكون الحكم الأخلاقي أو المعياري ضرباً من العبث.
لذلك يكون المعيار الحقيقي للفعل الإنساني في فلسفة مادية هو مدى "قوة تأثيره" وليس مدى اتصاله بالوجود والقيم، فلا تمايز إنسانياً بين الأفعال في محدداتها التكوينية، ولكنها تتمايز في مدى تأثيرها.
من يريد السلام عليه أن يتحلى بالقوة اللازمة لتحقيقه، فأخذ السلام مشروعيته من القوة، ومن يريد الاستقرار عليه أن يكون قوياً أولاً، وهذا يعني أن القوة هي معيار السلام والاستقرار، فقد يريد نفس هذا الشخص السيطرة ويحققها من باب القوة، ولا أحد يمكنه لومه، لأنه إن حقق السلام الذي كان مطالباً بتحقيقه فقد حققه من نفس المرجع والمنطلقات التي سيحقق من بابا السيطرة، حيث لم يكن للسلام تعليل وجودي أو أخلاقي، فلن يكون لرفض السيطرة تبرير، فلولا القوة لما تحقق السلام، ولما كان للسلام أي قيمة حسب المبدأ الأإنساني.
الوجود هو الواقع …
ما يرده الإنسان، ما يتعامل معه الإنسان، هذا هو "الوجود بالنسبة للإنسان" وبما أن الإنسان هو معيار الأمور ومرجع الأجوبة، فلا يهم ما هو "الوجود" بل ما هو "الوجود الذي يقع بالنسبة للإنسان" وبما ن الإنسان متقوقع على كينونته ومغلف نفسه من الوجود الأكبر، فإن الوجود الواقعي بالنسبة له لا يتعدى حدود ما يحتاجه ويحياه مباشرة، بمعزل عن الحق والقيم، أو عن "كُنه المادة" و"ما وراءها".
ومع أن الشكل الظاهري للفلسفة المادية يوحي بأن (العالم الطبيعي) هو الوجود بالنسبة للإنسان، ولكن ما يحدث حقاً هو أن الواقع المتعين أمام كل فرد هو الوجود الوحيد بالنسبة له، وهناك "شبكة زمنية خفية" تربط بين كل فقاعة واقعية لفرد مع بقية فقاعات الواقع الخاصة بالأفراد الآخرين، ومن خلال علاقاتها ينشأ الوجود العالمي "الوجود بالنسبة للإنسان كله".
نبه القارئ مرة ثالثة إلى أن الفكر المادي كما تقدم شرحه متماهي مع المجتمعات البروليتارية، الغرب لا يفكر بهذه الطريقة، نعم ، هناك نوع من المادية المتطرفة في الفكر الغربي، ولكنها ليس مادية "صُلبة"، هناك دائماً أكوان متعددة، آفاق ما ورائية، لا يقين، شيء من اللاأدرية، أدب روحي، حتى ولو كانت الروح ذبذبات كهربائية، هناك سعي لفهم الزمن، أصلاً هذا التعمق في فهم العالم والبحث عن أسراره ولو على المستوى الطبيعي في الغرب ، بعيد جداً عن طريقة الفلسفات المادية الصلبة، وأي وعي يقظ كفاية سيلاحظ أن الفلسفة المادية الجدلية ضربت أوتادها في العقل العربي الجمعي، وفي إيران وتركيا والشرق، فمعظم العرب مثلاً متأثرون بطريقتها دون أن يشعروا، مفهوم الرجولة هو إسقاط لمفهوم القوة، مفهوم الاستقلال هو إسقاط مصغر لمفهوم العمل، مفهوم الأنوثة هو النقيض الجدلي للقوة، ويطلب من المرأة دائماً أن تنزع القوة منها، ويطلب من الرجل أن ينزع الإدراك منه، طريقة تفكير العرب نفعية جداً ومادية جداً إلى درجة ستصدم أي شخص أوربي متوسط الثقافة، يتوقع أن العرب مجتمع متدين إرهابي..
داعش نفسها كانت مجتمعاً شيوعياً مادياً برداء ديني.
مفاهيم الدين أصبحت "رمزيات" للمبادئ المادية، فالله بالنسبة للعرب هو "الإنسان الأكبر" والإنسان هو "غاية الوجود" ، والجنة هي موطن الشهوة والجنس والخمر، وتتشابه كثيراً مع الفكر الشيوعي بعدد من النواحي، وقد تعتقد أن هذا جاء من التاريخ القديم ، ولكني لاحظت أن الفكر الإسلامي قبل ماركس (وعلى درجة أكبر لينين) كان ينزع أكثر نحو الروحانيات ، ونحو الغيب ، والعرفان ، وهناك أحاديث كثيرة جداً كانت تدور عن العوالم الأخرى وعن الجن وعن الأبعاد المختلفة، وكانت الميتافيزيقا مزدهرة طوال فترة الدين الإسلامي، قبل ماركس.
0 تعليقات