Advertisement

Main Ad

كشف حقيقة الوحش وعدده

 

جهنّم "زمن" ، والزمن يتجلى عبر التفاعل ، والتفاعل لا يتطلب مكاناً ليحدث.

أحياناً يكون الزمن التفاعلي مجرداً من المكان (الموضوعي) .. كالأحلام.

يبدو مشهد العالم المادي للوعي الذي يراقب بحياد سحابة ممتدة مكونة من "مجموعة لانهائية من المعطيات الموضوعية Data"، كل معطى موضوعي مادي ضمن هذه السحابة يتكوّن من انطباع Impression تدركه الحواس الجسدية ، وصورة-هيكل Structure يدركه العقل الخالص .

موقف المراقب الحيادي هو الموقف المعرفي الذي لا يزال يتسم باللاأدرية تجاه كل أو أغلب الأسئلة الوجودية، من حيث أنه يطلب الحقيقة لا النظرية والتخمين، والوعي المراقب هو الوعي الذي لا يقيد رؤيته للواقع والوجود بإطارات تأويلية نظرية بل يحاول الاتصال بالتجلي المباشر كما هو عليه.

"الانطباع الحسي" هو نتيجة التفاعل بين جسد المراقب مع قوة مُفارقة له تنتمي إلى العالم الموضوعي وتؤثر عليه من هناك، والعالم المادي المكون من مجموع الانطباعات المُدرَكة هو عالم ناتج عن التفاعل بين الجسد وبين المصادر الغائبة عنه في الوجود، فلم تكن الانطباعات موجودة في لحظة سبقت التفاعل ولكنها وقعت نتيجة لحدوث التفاعل، وليس لها وجود خارج لحظة الرصد، وليس لها ماهية مستقلة عن ترجمة الجسد.

بطريقة معينة يتطلب الأمر من الباحث عن الحقيقة أن يدرك أن الانطباع الحسي هو "نتيجة معروفة حاضرة" حدثت أثناء التفاعل مع "مصدر مجهول غائب" وأن كامل حقيقة الانطباع المحسوس جسدياً موجودة ضمن حدود إطار الانطباع المكاني والزمني، فهو موجود هنا والآن فيلحظة الرصد وحدها ولا يمكن تعميمه إلى ما وراءها أو تخيل أنه يمثل كامل الوجود سواء من حيث النوع (تخيل الوجود متشابهاً مع ماهية الانطباعات المعروفة) أو الهوية (تخيل أن الحدث المرصود هو حقيقة راسخة ونهائية لا يمكن التصرف فيها).

"الصورة-التكوين-الهيكل"، وأفضل الكلمة الثالثة من حيث الدقة، هو البُعد الكوني من الموضوع المادي الذي يعكس انتماء الموضوع إلى "الكون" أي يعكس هويته الكونية ، كعنصر في وجود مطلق، وتجاوزه للانطباع المحدود زمكانياً، الهوية الكونية للموضوع هي معناه كما يقرره ويحدده "الكون" حسب نظامه و"الوجود" وفقاً لقيمه، وهذا ما يجعل التفاعل لا ينتج "هيكلاً وجودياً"، بل يكشف عن الهياكل الموجودة ويعكسها ضمن فضاء المشهد، لأن انخلاق الهيكل يحتاج إلى قاعدة وجودية تعطيه تعريفه ضمن الأفق، حيث الوجود مُطلق وهو يحكم الجسد والتفاعل والخارج معاً.

الأمر يشبه تعيين نقطة x في فضاء O بالنسبة لمراقب k ، الانطباع هو علاقة x -} k أي كما يبدو الموضوع بالنسبة لحدود رصد المراقب، الهيكل هو علاقة x -} O ، كما هي "حقيقة الموضوع" وفق معايير الوجود ونظام الكون.

هيكل الوجود الكلاني الذي يحدد هياكل الموضوعات الجزئية هو ما يسمى ب"المقولات الفلسفية" أو "الأحكام العامة للوجود" مثل الكيف والكم والزمان والمكان والذاتي والموضوعي والمطلق والمحدود، وهيكل الموضوع ، قياسه في هذه المقولات (علاقته بهيكل الوجود الكلاني) ، مثل عدد الموضوع (الكم) وجنسه ونوعه (الكيف) وموقعه النسبي (الزمن والمكان) و"وجوده المثبت أو المنفي" ، إن هذه هي الخصائص الجوهرية للموضوع ، أما انطباع الموضوع الحسي فهو وجوده أمام الراصد، وهو وجود عارض ومؤقت ويقدّم الموضوع كما للإنسان إدراكه، لا بحسب هويته في الوجود الحقيقي.

هذا ما نقصده حين نقول إن الانطباع الحسي صحيح وحقيقي وصادق، ولكن ضمن حدود وجوده كانطباع، فهو حقيقي في اللحظة الراهنة، وبالنسبة للراصد الذي رقبه، ومن خلال المقولات التي تحكمه، فهو لا يخبرك ما الحقيقة المطلقة عن الوجود، أو كيف يبدو الوجود في كل آفاقه الزمكانية وما وراءها، ولا يمكن إعطاء أحكام عامة بناء عليه.

أما هيكل الموضوع فهو أقرب للحقيقة المطلقة من الانطباع، لأنه كلاني، يعكس هوية الموضوع الكونية، كما يحددها نظام الكون ، يعكس حقيقة الموضوع في الوجود، لا في لحظة رصده أو في نقطة معينة في الزمان والمكان وفقط، لا بالنسبة للراصد وحده، ماهية الكوكب ثابتة، حتى ولو تغيرت التركيبة الذرية لكوكب مادي بعينه، ماهية الأفعى والببغاء (هويتهما الكونية) ثابتة في فضاء الوجود، ولكن "أفعى معينة" قد يمكن أن تتحول إلى تنين، أو يتحول ببغاء ما إلى عنقاء.

ما يرصده الوعي في لحظة زمكانية محددة يكون وجوده كما تم رصده حقيقياً في حدود اللحظة، فإذا انتهت فسينتهي وجوده المرصود معها، وما يدركه الوعي كشيء من "الكون" والوجود، لا من الانطباع المؤقت، هو الحقيقي الذي يبقى على امتداد الزمن.

وإذا كانت الكائنات التي يتم رصدها تتغير باستمرار فإنها ليست حقيقية، والرصد ليس مورداً للحقيقة، وهذا يجعل كل العالم المكون من الانطباعات الحسية عالماً افتراضياً، ليس بمعنى أنه "أحلام يقظة" بل بمعنى أن الانطباع نفسه حقيقة محدودة.

من أجل تمييز دقيق تأمل في هذا الجدول :

الحاسة _____ انطباع الموضوع _____ هيكل الموضوع

البصر …………… اللون ………………………… الشكل

السمع ……………. الصوت …………….……….. النغم

اللمس …………….. الكتلة ………………….……. القوام

الذوق ….………… الطعم ………………………… النكهة

الشم ……………… الرائحة …………………….. العطرية

على سبيل المثال : "طعم" الحموضة انطباع، لكن "معنى" الحموضة الكوني (تعريفها) صورة هيكلية.

معنى الحموضة هو العننصر الذي يتجاوز حدود انطباع "الطعم" المادي المباشر الناتج عن تجربة شخصية، ولكي ينتقل الشخص من انطباع الحموضة إلى "معنى الحموضة" فإنه يعلم بإمكانيته الوجودية في نظام الكون وهيكل الوجود، ما وراء وراء حدود لحظة الاختبار.

يدرك الوعي الانطباعات المادية من خلال انفعال الحواس الجسدية ، ويتعرف على الهياكل الوجودية (التكوينات) والعلاقات من خلال العقل.

كونية المعنى تفتح الباب أمام إدراك صلة الموضوع بالمعاني المطلقة ( اللامادية ) مثل "التصميم" و"الجمال" و"التناغم" وذلك يسمح بإعادة تعريف الموضوع ضمن أبعاده المتجاوزة لواقعه، وكل وعي فردي سيكشف بعض تلك الأبعاد وسيصبح موضوع ما بالنسبة له مبنياً عليها، ولكن مفتاح ذلك كله هو إدراك كونية الموضوع وتحريره من انطباعيته الحسية المباشرة.

هناك علاقة كونية، بين الفنجان والجمال والأنس والحقيقة، تتجاوز "شاعرية المعنى" بل هي علاقة تأتي من رحاب الكون وفضاء الوجود، لا من خيالات شخصية لأحد الشعراء.

ولكن تلك الإحساسات الغامضة تحتاج إلى تأمل عميق من أجل فهم مصدرها المتعالي، والشاعر قد لا يبذل جهداً مناسباً لأجل ذلك مما يجعله يعبر عنها بالاستعارات اللغوية والكناية، بينما فيلسوف الجمال يكون أكثر إدراكاً ويقظة لكونية المعنى ويستطيع أن يفهم أن هناك ما هو أكثر من العامل الشخصي و"الذكريات" و"الأماكن" و"العواطف" هو الذي كشف جماليات الموضوع .. فيتحول المعنى إلى "هيكل" وتصبح الحموضة "نهكة".

ضمن حدود الواقع المعطى، لا تعني الحموضة أكثر من الانطباع، انفعال جسدي لحدث مادي..

لكن علاقة الحموضة بالكون غير محدودة بالواقعة نفسها أو بالإطار ، وهي علاقة غامضة، إلا أن هناك هيكلاً يمكن اكتشافه بالتأمل يجعل للحموضة هوية كونية. الأمور الهيكلية عقلية، والأمور الجمالية حسية وحيوية، ولكن كشف كونية الموضوع ورده إلى وجوده العالمي هو مفتاح تخليص التركيز من حدود الواقع الظاهري الجزئي ، مما يجعل إدراك الجمال وكشف الهيكل الكوني فعلاً واحداً.

وهذا يعني أن العقل يسهم بإدراك الجمال، أو بالأحرى إن إدراك الجمال يتجاوز المحسوس إلى الكوني ثم إلى الروحي المطلق.. فيتجاوز الإدراك الحسي إلى الإدراك العقلي ثم إلى الإدراك الروحي…

البعد الكوني في الموضوعات المادية غير مادي (ليس انطباعاً) :

الانطباعات (الألوان-الأصوات-الكتل…) هي مُدركات حسية ولدت من العلاقة بين الحواس وبين واقع خارجي، أما النماذج الكونية (الأشكال الهندسية-الأنغام-الملامس…) تنتمي إلى وجود مختلف في أبعاده ونوعيته الإدراكية.

لا يمكن الإحساس مادياً بالشكل الهندسي كانطباع، الدائرة بالنسبة للإدراك هي "نظام - ترتيب" والنظام علاقة بين الانطباعات ، وهذه العلاقة يحددها الكون ، إدراك العلاقات يفتح المجال أمام رؤية وجود موضوعي كلاني (معقول).

الكليات معطيات إدراكية خالصة، تماماً كالانطباعات الحسية، وهي بالنسبة للإدراك لا تختلف عن الانطباعات من حيث (الوجود) أو (المشروعية) بل تتجاوز مشروعيتها مشروعية الانطباع، لأن الانطباع مؤقت ومحاكي للمصدر والتفاعل، أما الهيكل فدائم ومطلق ويحكم التفاعل والمصدر معاً.

الدائرة ليست (أقل وجوداً) من طعم العنب، طالما أن معيار الحققة يبدأ من الإدراك الذاتي.

القوة المسؤولة عن إدراك الكليات هي ما يسمى ب_"العقل".

ماذا سيحدث (لو) اقتصر الإدراك الإنساني على الانطباعات وأهمل الكليات ؟

إذا قطع الإنسان علاقته مع المفاهيم الكلية على نحو مطلق ووجه تركيزه فقط نحو الانطباعات الحسية المادية فسيفقد أيضاً المسافة الفاصلة بينه وبين "البهيمة"، لأن البهيمة فعلياً تركز فقط على الانطباعات المحسوسة وتغفل عن الكليات على نحو شبه كامل، ولذلك لا تستطيع توظيف معطيات بيئتها بطريقة ذكائية أو منطقية معقدة أو حكيمة وقيمة (قيم تتجاوز البقاء)، لأنها تجد صعوبة هائلة في فهم العلاقات والهياكل (الكليات).

الانطباع الحسي يكفي لحياة مادية مستقرة تعتمد على المتعة والبقاء، لكنه لا يوفر متطلبات الرغبات غير البقائية، والتي لها أصول روحية تتجاوز نظام الفيزيولوجيا. ومن الممكن نظرياً أن يصبح عيش إنسان مشابهاً لطريقة حياة البهيمة دون أن يفقد اللغة والحياة المجتمعية، إذا كانت اللغة التي يستخدمها خالية من "المعاني" و"المفاهيم" وكان المجتمع الذي يعيش فيه خالياً من "القيم" و"التحديدات".

إذا كان يقول "دائرة" ولكنه لا يدرك المعنى المقصود منها، بل يستخدم الكلمة لتوظيفها لغاية ما، فإن لغته تصبح امتداداً للسلوك البهيمي.

كلمات المجاملات المنمقة المزيفة من هذا القبيل …

إذا كان يقول "أنا صاحب حق" ولكنه لا يعي العلة في ذلك (ما الذي يجعله صاحب حق) والمسؤولية من ذلك (وما الذي "يعنيه" أن يكون صاحب حق)، فستكون هذه الجملة لغواً من الناحية المعنوية لكنها قابلة للتوظيف، فلا يشترط ارتباط رمز بمعنى أصيل من أجل توظيفه، قد يكون الرمز أجوف وقد تكون الغاية من استخدامه إجرائية.

طريقة استخدام الجمل في الحياة اليومية لإنسان عادي تدور في هذه المساحة، الجمل تؤدي وظائف معينة، لكن معانيها الحقيقية غير مدركة بالنسبة للوعي، هناك حكم منطقي يقول "أنا صاحب حق"، ولكن هل الإنسان يستحضر معنى الحق …

إذا كنت تدرك المعنى فلا حاجة للحديث عنه أصلاً، الخطاب الموجه للآخرين يحاول إثبات شيء لهم وليس للمتكلم، وهذا يعني أنه يجب أن يركز على "نقل المعنى لهم" وجملة مثل "أنا صاحب حق" هي جملة توكيدية، لا تنقل المعنى بحد ذاته بل تريد تحديد الأشياء المترتبة عليه.

لذلك، إذا كانت اللغة ذات بعد واحد وظيفي فإنها أداة للبقاء والعمل، وليس للحديث عن "معاني".

معاني اللغة الوظيفية لا تتجاوز الانطباعات الحسية. والسبب الذي يجعل لغة الإنسان جوفاء ، هو أنه يستخدمها من أجل الأهداف والأعمال، فعندما يقول أنا صاحب حق فإنما بريد الضغط على شخص ما من أجل تحقيق نتيجة معينة، فتركيزه منصب على "الإنجازية" من أجل الوصول إلى انطباع معين (راحة فيزيولوجية-ذهنية).

التركيز على الانطباعات وإهمال البعد الهيكلي للموضوعات المادية يؤدي إلى ثلاث نتائج :

_ أولاً : سيكون العالم الظاهر عبر مجال الإحساس عالماً هيولياً تنصهر فيه الأشياء كما تنصهر الأضغاث في الأحلام، لا يكاد يتميز فيه شيئاً عن شيء آخر خارج الانطباع المادي الذي يتركه.

_ ثانياً : ستنعدم القدرة على "التقييم" و"التحديد" و"الفصل"، فكل شيء يشبه بعضه، وليس هناك اخختلافات جوهرية، ليس ثمة إلا الاختلاف في الانطباعات من حيث النوع والشدة والامتداد، وهي عوامل أنانية، وسيبدو إدراك معاني مطلقة وجوهرية مثل "الحق" أو "الصواب" أو "الحُكم النهائي" أمراً مستحيلاً.

_ ثالثاً : نتيجة للتركيز المطلق على الانطباعات ونسيان الوجود الحقيقي، سيكون العالم كامناً في مجال الانطباعات المحسوسة، ربما يبقى هناك اعتقاد بوجود كون هائل أو أكوان متعددة، وحياة عظيمة، لكن من دون الإحساس بذلك، لا فائدة من الاعتقاد، فالعالم المعتمد على الانطباعات سيكون قياسه على قياس الانطباعات، وكل ما وراءها سيبدو حديثاً ترميزياً للمجهول، وستستخدم نفس هذه الانطباعات الفقيرة من أجل فهم ذلك المجهول.

إذا كان التركيز على الانطباع (علاقة الإنسان بالكائن) وليس الكائن الموضوعي بكونيته (علاقة الكائن بالوجود)، فسيكفي أن تحس بالانطباع حتى تعتقد أن الكائن موجود، وأنه موجود على النحو الذي تتصوره وتعرفه بالضبط، وفي المراحل المتقدمة سيتوقف حتى الاعتقاد. أغلب أنواع الحيوانات يعيشون حياتهم بهذه الطريقة : إنهم يركزون على الانطباعات الحسية وحدها، إلا إذا اقتضت الحاجة البقائية غير ذلك، وهذا ما يجعل الحيوان غريزياً واندفاعياًً بالطريقة التي تراها، وبالنسبة له، يبدو العالم يبدو ذائباً في حدود أفقه الإدراكي وتبدو معالم الأشياء هلامية كالأحلام، مما يمنعه من إدراك ذاته كمقابل للوجود الموضوعي، لأن خاتمة الانشغال بالانطباعات ستؤدي إلى عدم الإحساس بالفرق بين "الذات" و"الانطباع الحسي الذي ترصده"، وبالتالي بين الذات والموضوع، وسيحدث انحلال للوعي في مجال الانطباعات الشخصي.

وإذا أصبح التركيز منصباً بالكامل على الانطباع فلن يهتم هذا الإنسان بمصدر الانطباع ، أو بحقيقة العالم، والقيم الوجودية، وما وراء مجال رؤيته، فإذا كانت الانطباعات ناتجة عن عيشه في واقع حقيقي، أو في محاكاة ذهنية أو إلكترونية، فلن يكون الفرق بالنسبة له كبيراً، إلا بقدر ما هو كبير بالنسبة للبهيمة، لأنه لا يريد حق، بل يريد اختبار الانطباعات وكفى.

أحسست منذ البداية أن هناك علاقة ما ، تربط بين وحشية الحيوان وطبيعته الانفعالية، ومركزية الجنس ، والمادية الجدلية ، وعبادة الطبيعة ، ومفهوم الأرض، ومفهوم "العمل" والبعد العبثي من العالم ، ويبدو أن العبث يبدأ بالتحديد في تلك اللحظة التي يفقد فيها المرء القدرة على إدراك المستوى الكوني والتمييز بين الموضوعات المادية المحسوسة بناءً على هياكلها الكونية، ولا يرى من الأشياء إلا الانطباع الذي تتركه على حواسه.

غريزة "التركيز على الانطباع" لها علاقة برغبة الإنسان بأن "يكون" وأن "يمتلك-يسيطر-يفعل" ، لأن الانطباعات هي العالم من جهة الإنسان، فهي ما يحقق له وجوداً مستقلاً عن الوجود، بينما الوجدانيات والعلاقات والحقائق هي العالم من جهة نفسه.

هذه الغريزة ترتبط بالخوف والقلق، ولذلك ترتبط بهرمون الدوبامين. الدوبامين هكذا، عامل إثارة وتنبيه يحاول أن يجعلك تفعل طوال الوقت.. لكي تكون، لكي تثبت وجودك، الذي إذا لم تثبته تتعرض لخطر الفناء والموت.

من هذه الزاوية تأتي غريزة البقاء، كتحقيق للأنانية، ولذلك تتشابه السلوكيات التي تنطلق من رغبة الاختبار والانطباع، في أنها "جهد موجب" أنت لا ترغب بالقيام به حقاً، ولكنك إذا لم تقم به ستتعرض للقلق والتوتر والاستثارة العصبية.

العمل ذو الاتجاه الموجب سيكون بلا أي شك خالياً من الجمال ، لن الحس الجمالي لا يأتي من رغبة أنانية أو بقائية أو إنجاز شيء معين.

إذن كانت الأنانية هي السبب الحقيقي في حالة النسيان ..

والآن : إليك المفاجأة الحقيقية … أنت حالياً ، وكل بشري على هذا الكوكب في هذا الزمن ، يتم تدريبكم وترويضكم بجد كل يوم على أن تعيشوا حالة الإدراك الهلامي (التركيز على الانطباعات) :

_ محو الذوق الإدراكي-الحسي :

  • الموسيقى الصاخبة ، موسيقى الكازينوهات ، الموسيقى الشعبية ، موسيقى المهرجانات ، غالباً ، أنت مضطر لسماعها من حين لآخر طالما أنك تحيا في الطبقة الفقيرة أو الوسطى، ستلاحظ أن هذا النوع من الموسيقى موجه إلى "الانطباعات" من خلال الإيقاع القوي ، والنغمات المتكررة عديمة المعنى ، والصراخ أحياناً، ما يسمى ب"الفرفشة والترفيه".
  • أغاني الهيب هوب ، أغاني الراب ، دائماً تصور مشاهد لجموع يرقصون ويتحركون دون تركيز على "المعنى\الصورة\الهيكل" الحقيقي، يكون التركيز على حركة الرقص، والإيماءات، والانصهار البشري، وتكون هذه الإيماءات والحركات كثيرة جداً وسريعة ومتراكمة بحيث يصعب على الوعي أن يفرّق بينها.
  • طريقة عرض مواقع التواصل الاجتماعي (منشورات متتابعة تمنع التركيز على هيكلية فعل القراءة، وتحول القراءة إلى "استهلاك\التهام" معلوماتي).
  • الأخبار : تكرار نفس الكلام آلاف المرات في اليوم الواحد، بطرق كثيرة، اجترار الكلام، اللغة التوكيدية العنيفة، الانفعالات المصنعة، كثرة الثرثرة، تعقيد الأشياء البسيطة.
  • الوجبات السريعة : حشو الشطائر بالمايونيز والكتشب والبطاطس واللحم والجبن والبيض والبهار والخس والطماطم …، حتى لا يعود الوعي قادراً على "تمييز النكهة" و"تحسس البنية الهيكلية" للطعم الحسي، فيفقد ملكة الذائقة في اللسان العقلي، ويركز على ملئ البطن والإشباع والاستثارة.
  • العطور المعاصرة والتي تم وضع مادة "عرق الذكور وروائح الإناث" في أمزجتها العطرية لإطاء نكهة الخشونة والغريزة وتثبيت المستعطرين في عالم الأرض، محو جماليات العطر الحقيقي وتحويله إلى مادة انطباعية استهلاكية أرضية.
  • التمثيليات (المسلسلات) : نعم هذا صحيح، فضلاً عن ضياع الوقت فالمسلسل هو "مجتمع" ليس فيه حكاية مركزية أو قضية محورية، وهذا يعني أنه لا يعبر عن قيمة أو يوصل رسالة بطريقة مجدية حقاً، على عكس الروايات التي تغير فعلياً إدراك الجماهير، بل يعرض حكايات افتراضية صغيرة ومكررة آلاف المرات بطريقة جديدة، تذوب فيها الحكمة ويبقى الأشخاص وتفاعلاتهم المثيرة للإدرينالين، والذين سيصبحون "عمالقة" فيما بعد وسيتم متابعة شؤونهم اليومية والتأثير بآراءهم وأحياناً رفعهم فوق المستوى البشري، الشخصيات تنقلب بين الخير والشر لتروي حكاية عبثية الحياة الدنيوية ونسبية القيم، ينصهرون هنا ويتحللون هناك، يصبح المجرم الخطير بطلاً ويذوب مفهوم الإجرام، ويصبح التعاطف مع الشخصية لا البحث عن المعنى والقيمة و"الحالة الهيكلية" ويذوب مفهوم الحق والباطل، فكل شيء ينفلق عن ذاته في صيرورة مستمرة لا انقطاع لها، ليس هناك مطلق ولا حق في عالم يحكمه التغير والنسبية، مثل العالم الذي تعيشه شخصيات المسلسلات.
  • الإباحية : تشاهد مقاطع متراكمة في صفحة واحدة تمحو القدرة على التمييز والانتقاء، وتجعلك تركز على الإثارة والانطباع، ومن المهم أن تلاحظ جيداً أن الإباحيات الحديثة تبنى مبدأ أن الانطباع هو كل شيء يجب نقله للمشاهد، بحيث مثلاً، لا يتم عرض وجه الرجل، لأن وظيفته هي فقط أن ينكح، ومن المهم أن لا يتم عرض وجهه، من أجل تفهيم الناس أن الأنثى تستمتع بعملية النكاح نفسها (الانطباع) وأنها بطريقة ما تركز على "الفحولة" مما يجعلها في مقام غير متوازن مع الذكر، وفي الستوريات يتم عرض شخصية الذكر بطريقة لاواقعية على أنه "غريب يوصل طبق البيتزا" أو "يلتقي بها في النادي أو في الشارع" أو يكون "ابنها أو أخوها أو أبوها أو جارها" بالإضافة إلى اهتمام بالجنس الجماعي، والقصد من كل ذلك أنه لا يهم حقاً ما هو "الشكل والتصميم الهندسي" للعلاقة الجنسية لأنها لا تهدف إلى تحقيق قيم، بل يكفي فقط تحصيل الانطباع البهيمي.

بعد ارتفاع الوعي وافتضاح حقيقة ما يجري في مهنة الإباحية على مدار السنوات الماضية تم توظيف عملاء جدد ليلمعوا هذه الصورة المأساوية التي أثرت بقوة على معدل تقبل الإباحية عالمياًوجعلتها ترجع للوراء، تجدونهم على اليوتيوب يحاولون إعطاء الموضوع شيئاً من "المرح" و"اللمعان" و"المهنية" ، حتى يتم تطبيعه كحالة مقبولة.

_ نشر الفكر العملاني-النفعي :

  • تكرار الكلام مراراً وتكراراً عن "الإنجازات الواقعية" و"القيمة العملية" ونفي القيمة عن كل ما لا يتصل بالحياة الواقعية، مما يجعل التركيز منصباً على المتاح والظاهري. تذكر أن الواقع يتشكل بحسب التفاعل، وإذا انطلق التفاعل من نفس دائرة الواقع فكيف سيتجاوزه؟
  • الحديث عن صلابة العالم الظاهري واستحالة تجاوز قوانين الطبيعة كنوع من الحكم القبلي، رغم أن قوانين الطبيعة نفسها هي نماذج إحصائية، كما أنها غير واضحة ولا كاملة إلى الحد الذي تؤسس فيه رؤية صلبة عن العالم، حتى بحدوده المادية.
  • السخرية والاستهزاء من الموسيقى والفن، مراراً ومراراً ومراراً، حسناً ، فعلاً هناك فنانون فاسدون أو جيل فني فاسد، ولكن الفن بحد ذاته ليس "أشخاصاً" حتى يتم السخرية منه أو وصفه بعدم الفائدة، إنه تعبير وجودي وتجلي للجمال.
  • كما أن الإنسان الذي سيقصي من حياته إدراك الجمال والفن، والأفق، والخيال، وفضاءات الوجود، وشغف المعرفة، وكل ما يتجاوز واقعه الرتيب، ما الذي سيتبقى له ليعيش من أجله أكثر من الحاجات البقائية؟ ما الذي يمكنه أن يتطلع إليه أو يبعث فيه الأمل أو الرغبة أو القوة ليتجاوز مشكلاته ؟ ما يتم تسويقه على أنه "واقعية ونموذجية" إنما هو تطرف في تقدير حاجات لا معنى لها، مثل التي يمكن تحقيقها بالمال، مثل هذه الحاجات ليست واعدة بتغييرات كبرى، وأقصى ما تتطلبه هو عمل متواضع وأجر قليل وحياة فانية كأنها شريط متتابع من العبث البقائي.
  • الاستهزاء بالدين، والماورائيات، والغيب، في جميع صفحات التواصل الاجتماعي، وفي كثير من القنوات الفضائية.
  • زرع أسلوبية "المقارنة بين شخصيات-اللوم-الحسد" : انظر لهذا الشخص الذي كافح ووصل للمال! انظر لمدير الشركة الفلاني ونجاحه رغم مآسيه! إن معايير النجاح والفشل التي يحددها المجتمع قد لا تكون أصلاً مهمة بالنسبة للذات، فهذه الذات في النهاية، أنت، لم تُخلَق لتعطي المجتمع وتنفي وجودها، هي التي تقرر ما الذي تريده.. وترغبه…..
  • الاعتداد المفرط جداً بالأطباء والمهندسين والمحامين، على نحو أصبح يرى الجميع أنه مبالغ فيه، نعلم جيداً من يكون "الطبيب" ونعلم الفرق بين المهندس وبين "آينشتاين" أو بين الطبيب وبين "ابن سينا" فالنماذج المحترمة اجتماعياً ممتازة من أجل مجتمع متشابه العناصر، موحد النسق، يسير في سردية واحدة، والتركيز عليها هو تركيز على سردية المجتمع، أما آينشتاين وابن سينا فلم يلاقيا قبول واستحسان مجتمعاتهم ، بل على العكس، كانوا محط سخرية… ومن المهم أن يعلم هذا المجتمع أن المجتمعات المتقدمة لا تقوم وتزدهر عادة بكثرة الأطباء أو التخصصات الفنية، بل بوجود الإبداع في المجال، تكرار النسخ لا يجدي نفعاً من أجل "حضارة" لأن الحضارة ليست حضانة تزدهر بكثرة التلاميذ النجباء.
  • التماهي بين "التخصص والكينونة" فأنت تصبح شيئاً واحداً أنت وتخصصك، وكأنك لا شيء آخر سواه، سوى ما درسته، كانك لست إنساناً أو "وجوداً".. بل لقباً اجتماعياً، هذا يجعل تفكيرك بالكامل مقولباً وفق الإطار الذي يسمح به تخصصك، ويغلق عليك فضاء الوجود، وإذا لم تكن متخصصاً أو كنت متخصصاً بعلم أدبي (علم نفس مثلاً) فستصاب بإحباط.

وعموماً، حاول النظام العالمي الجديد نشر اليأس والقنوط والإحباط في نفوس أبناء الشرق، خاصة في المجتمع العربي، بالطبع، معظم ما ذكرناه حتى الآن موجه نحو المجتمع العربي والمجتمعات المجاورة له، أما الغرب فلا يوجد فيه مادية صلبة إلى هذا النحو، لأنهم لا يريدون قمع الإبداع والحرية في العالم الغربي.

حسناً، أعتقد، أن الصورة وضحت نوعاً ما، الوحش هو رمز للوجود أو الكائن الذي يفترس الذات الحقيقة من خلال مباغتتها بوسائل الكبت وأسباب النسيان، معنى الوحش المذكور في سفر الرؤيا وفي كتب مقدسة أخرى أكبر من التصور العام عن كائن مادي عملاق سيخرج في وقت معين، مع أن ذلك أحد وجوه التعبير عن كينونة الوحش، لكن "كُنه الوحش" أكبر من ذلك، ويمكن أن يتجلى في أي نقطة في الحياة الدنيا ولأي سبب صغير أو كبير، وعلاقة الوحش فردانية مع كل ذات على حدى، فإذا نسيت الذات من تكون وما الوجود وما الحقيقة وما القيم ومن الله، فإنها فعلياً تُفتَرس من قبل الوحش، الذي هو "مصدر الظلام والشر والعبث" في العالم.

الوحش يبدأ الهجوم على الذات من باب الأنانية، لأنها أم نقاط الضعف ، ومن الأنانية يأتي النسيان، والغفلة، الذان يمهدان نحو الخوف والضعف واليأس والانفعال والعقد النفسية وعدم الإيمان بالحرية الحقيقية، ومن يتخلص تماماً من أنانيته يتخلص أيضاً من كل هذه المشاكل، الذات التي تفقد جزءً من الحقيقة تتقيد جزئياً في سلاسل الوحش، فإذا فقدت كل الحقيقة تمكن الوحش منها وافترسها وغابت في النسيان.. وعندما تتصرف الذات بهيمياً تُفعل زمن الوحش في مجال وجودها دون أن تشعر.

إن فلسفة المبدأ البهيمي هي الجناح الوجودي-القيمي الطبيعي من الرؤية الكونية المادية .

الرؤية المادية الصلبة تتسم بـ"نزعة التوكيد" و"الوثوق" بفرضيات المادية، فهي تمثل "عقيدة"، ولم تكن نتيجة دليل أو كشف إدراك. كما لم تكن نتيجة عدم اكتراث أو عدم رغبة في الإيمان (عدم توافق نفسي) كما في المادية السائلة، الغربية، حيث لا يُتطلّب من الذات تبرير موقفها الإيماني أو رؤيتها للحياة، فقد يكون تعليل ذلك محض عدم الرغبة، لكن المادية الصلبة تقول أنها الاعتقاد المشروع الوحيد.

الرؤية المادية تقتضي رفع مبادئ المادية عن دائرة الشك والتحقيق، ولهذا هي "صُلبة" على عكس مادية الغرب التي تدعي أنها نتيجة لتحليل الواقع وفهمه والبحث المتأني فيه، وبالتالي لا تقدم نفسها كـشرط مسبق للمعرفة والحياة، كما هو حال مادية الشرق.

المادية الصلبة هي الفكر الشائع في تيارات المادية في روسيا واليونان وإيطاليا وألمانيا والعالم العربي وإيران وإسرائيل وتركيا، والمادية السائلة هي الفكر الشائع في الغرب عموماً.

المادية الصلبة هي موقف متحجر، لا يولد تقدماً علمياً حقيقياً، روسيا نفسها بدأت تتخلى عن المادية الصلبة منذ أيام ستالين الذي أدرك أنها ستمهد الطريق نحو هلاك سريع.. ولا يزال الملحدون العرب يتبنونها.

المادية الصلبة هي "موقف عنيد" ، والدفاع عنها دفاع عن عقيدة وقضية، وهذا يجعلها إمبريالية، لأنها تحاول فرض نفسها بالقوة والسلاح.

"الشيوعية المطلقة" هي امتداد المبدأ البهيمي ، كمحاولة للقضاء على الذاتية منهجياً وتأسيس عالم مركزه "الإنسان" الذي يأخذ تعريفه من الآخرين، محيطه الانطباعات الحسية الفاقدة للهيكل، والتي لا تهتم بنظام الكون الهندسي، وزمنه الغياب في التفاعل الناري اللانهائي بين الإنسان والانطباعات، حين فقدت المعاني التحديد الماهوي، وأصبحت تطل من نافذة امتداد الانطباعات الحسية، كأنها شيء من المجاز والاستعارة، وحين وظفت المشاعر في الاستهلاك.

ومن هذا المزيج نبع التيار الهِبي، تيار التلاحم الإنساني، وهذا يعكس أيضاً مفهوم "الوجود التلاحمي" Ontology of the flesh.

مراعاة الدقة الكافية، ماركس نفسه ربما لم يؤسس لفلسفة بهيمية (ذوبان الذات في الآخر ومركزية الانطباعات والطبيعة) بل كان يريد تحرير الذات من الخضوع للطبيعة، الناتج عن عدم فهمها، وهو نفسه لم يتطرق إلى مشكلة الوعي مباشرة، ولكنه حاول تأسيسمعرفة الطبيعة انطلاقاً من الطبيعة نفسها لا من النظريات العقلية عنها، وبدأ بافتراضات تعطيها الطبيعة بما هي كذلك، في لحظة التفاعل معها، وضمن حدودها المتبدية عبر الإطار الطبيعي.

تأويل العقل البروليتاري لفلسفة ماركس ثم تبني الأنظمة الشمولية ولينين لفلسفته من أجل توطيد الحكم الحديدي صبغ المادية الجدلية بصفة (الانغلاق والتصلب) وهو الذي حقق "الإمكان البهيمي" في ميتافيزيقا المادية الجدلية، لكن كان يمكن أن يتم تأويلها بطرق مختلفة أو وضعها في إطار شرح جانب معين من العالم.

وعلى كل حال، المادية الجدلية المقترنة بصيغة النظرية المغلقة على نفسها سوف تحتوي نواة المبدأ البهيمي في داخلها ، لأن المادية الجدلية هي بحث في الجانب الطبيعي الظاهري، الذي يتصرف على نحو ميّت وينغلق على نفسه فهو "حيوان مفترس أعمى" ووحدة عضوية هلامية، إنها وحدة الوجود التي تصهر كل مستويات العالم في "مجال الانطباع الحسي" وتتناسى قصدياً وحداته الهيكلية (الميتافيزيقية-الروحية).

على عكس العرفان الذي يرد العالم إلى "الحق" ويوحد بين المظهر المادي الميت وبين جوهر العالم الحي من خلال فهم أن المظهر المادي هو جزء صغير من "الوجود الأكبر" ويبدو مادياً عندما يتم عزله عن حقيقته، بينما الوجود محدد غير محدود، والله مطلق ومع ذلك يمكن إدراك الفاصل بين اللاهوت المطلق والاشياء المحدودة، ويمكن إدراك اللاهوت على أنه "الأعمق والأعم" و"الحقيقي".

وحدة الوجود البهيمية تفترض أن العالم واحدي من حيث هو هيولى لا متمايزة مغلقة على نفسها ولا وجوداً وراءها، ينصهر فيها كل شيء بكل شيء كما ينصهر العرق والجلد واللعاب والمفرزات أثناء الجنس، وهذ ما تعنيه "الوحدة العضوية" التي تعبر عن نفس المعاني المزعجة نفسياً والتي تحاول نفي الخصوصية وعزل الذات عن ذاتيتها كما هو الجنس ولكن على مستوى العالم.

ما يجعل المجتمع والطبيعة كائناً مفترساً يحارب الذاتية، وما يجعل الأديان دائماً تعلي من مقام الذات وتعتبر الرؤية الذاتية هي المرجع، والمجتمع هو الفرع لها، يقوم بقائمتها وينحدر معها.. هو أن الذاتية هي بوابة الحقيقة الوحيدة ما لم تكن هذه الحقيقة ممتزجة بشيء آخر غيرها.

ما هو الوحش ؟

إنه الكائن الناتج عن التفاعل الجدلي مع المادة الهلامية المنغلقة على نفسها والمعزولة عن "المعاني" والمعزولة عن الوجود المطلق، التي يكون المعيار الوحيد فيها هو "القوة" والحق الوحيد فيها هو "الواقع" وتكون الغلبة للمفترسات والأشراس والمعتدين والانتهازيين، الوحش هو ذلك الزمن الذي يجد فيه الروح نفسه وحيداً في مواجهة عالم كامل من الفوضى والعبث الغريب عنه، دون أن يجد الفرصة للخروج منه، مقيداً فيه عن الحقيقة والجمال ، مرغماً على الدفاع عن بقائه دون فهم عميق، فاقداً للمعنى يائساً من الحياة ينسحب عن التفاعل ببطئ بعد فتور قوته إلى ان يتلاشى وعيه ويفتر عزمه ويدخل في حالة تشبه السبات الأبدي بعد استسلامه للذوبان في غربة العالم نتيجة نسيانه لكل ما له حقيقة ومعنىً وقيم.

حالة الزمن الملتهم للوعي والحياة والذي يجعل الوجود محكوماً من قبل اللاشعور هي التي يطلق عليها اسم "الوحش" وهو يعكس مدى رعب النسيان على مراياه فيحاول الإنسان نسيان نسينه ويدخل من نوم إلى آخر ومن تقييد إلى آخر…

في تجارب علم النفس المظلم وتحديداً مشروع MK-ULTRA على الأطفال، تم التحقق من أن الجنس الجماعي (الاغتصاب الجماعي) يؤثر على روائز التمييز والتدقيق والتقييم، والإحساس بالذاتية عند المغتصبين ، وتم الوصول إلى نتائج مشابهة في تجارب التعذيب بالصعق الكهربائي.

حاول أن تتخيل كيف يتعرض طفل للاغتصاب من عدة رجال بالغين، بحيث لا يستطيع فهم أو ملاحقة ما يجري له ، وتخيل أن يتكرر ذلك حتى يصل العدد إلى خمسين رجلاً، هذا هو بالضبط ما كان يحدث في مشروع م كي الترا وهذا هو بالضبط ما يذيب الهوية الذاتية في الإطار الذهني المحاكي، وهذه هي أيضاً الطقوس الممارسة في عبادة بعل قديماً، وحديثاً في الكنائس الشيطانية.

لأن محو الهوية يعني تسليم الروح للظلام حتى يتحكم بها، لأن ما يجعل الإنسان ضعيفاً حقاً حتى أمام الأوهام، ولا يستطيع أن يقاوم تغذي الكائن الوهمي عليه هو فقدانه للقيمة والمعيار، وبصورة أعمق للإدراك الذاتي الغير معتمد على الآخرين، مع أن هذا الكائن أصلاً ليس له قوام حقيقي (الشيطان) ولكنه يمتص وجود الروح ويرتدي جسمها ونفسها،

لأن الحقيقة إذا كانت مطلقة فلا تحتاج إلى اعتراف أو معيار خارجها لإدراكها، وهذا يعني أن الطريقة الوحيدة للتواصل مع الحقائق هي الذاتية.،


علامة الوحش 666

الأرقام (حسب التأويل الباطني) هي تمثيلات تدل على معاني كونية أو زمنية (كليات) ، فالرقم 1 واحد يدل على الذات، والفدانية، والمطلقية، والوحدة، والرقم اثنان 2 يدل على الازدواجية والمثنوية والعلاقة بين كيانين، وبالتالي على الموضوعية، الوجود العميق ل"الواحد" كرقم هو مبدأ الواحدية، ولكن عندما يتم التعبير عنه في لغة رياضية يتم استخدام الرقم 1، أما القيمة نفسها (المعنى) فهو الواحدية، وعلى هذا النحو تكن سائر الأرقام.

عدد الأرقام هو 9 مع 0 ، ذلك أن المبادئ العليا للزمن والتي يتجلى من ذاتها كل شيء زمني ظاهري هي 9.

رتبة الأعداد (آحاد - عشرات -مئات - ألوف ) تدل على "تحول نوعي" للمبدأ الوجودي من مقام إلى آخر، أي أن 90 هي مقام جديد (طَور جديد) للرقم 9، و900 هي طور جديد للرقم 90، والرقم 999 يعبر عن مبدأ واحد ثلاثي الأطوار.

والرقم 666 يعبر عن مبدأ واحد ثلاثي الأطوال، أي عن مراحل تجلي المبدأ 6..

ولنتحدث أولاً عن ارتباط الأحرف بالأرقام، الرقم 1 يرتبط مثلاً بالحرف ألف، لأن كلاهما يمثل "بداية" والرقم 2 يرتبط بحرف الباء، لأن كلاهما يمثل "بينونة-علاقة بين كيانين) والرقم 6 يرتبط بحرف الواو، والواو هو "انعطاف" أو "ارتباط خارجي" أو علاقة زائدة، ويمكن تمثيلها أيضاً بالزائد والصليب+ وهذا يعني أن 666 هي ثلاثي الأرباط أو الصليب المثلث +++ ، والتي تعني تقييداً بعلاقة ثلاثية، ، فغذا كان الكيان له مستوى روحي وعقلي وجسدي، فإن 666 تعني تقييد المستويات الثلاث، الروحي، والعقلي، والجسدي..

ما نجده في أوراق التاروت هو أن البطاقة 6 تمثل فعلاً "الارتباط الروحي" واسمها بطاقة العشاق :

بينما البطاقة رقم 60 (رقم 15 حسب الكابالا) تمثل الارتباط النفسي، واسمها "الشيطان" :

وأخيراً لا يوجد بطاقة بالرقم 600، الذي يكافئ الرقم 24 في الكابالا، لأن البطاقات المتعارف عليها عالمياً تنتهي عند الرقم 21 ,هناك مجموعات غير معروفة على نطاق واسع يكون فيها بطاقات إضافية مثل مجموعة إينوخ التي ألفها جون دي :

هذه البطاقة تشرح بالضبط ما نتحدث عنه، أعتقد أن الرسم يحكي عن ذلك…

إذا كان عدد الوحش 666 فإن امعنى الحقيقي منه يقترب إلى أن يكون "زمناً" أو حالة كونية، ويقول يحيى في سفر الرؤيا إنه عدد إنسان.

حسب الكابالا فإن 666 = 45 (6+15+24) وتشير إلى كلمة "وَ سَ خ" والوسخ بالمعنى التقليدي هو شيء زائد عن الكيان ومؤذ له بنفس الوقت، وبحسب معاني الأحرف فهو الارتباط بالغياب - التقييد بالغياب - الذوبان (الاغتراب) بالغياب على التتالي (الواو - السين - الخاء).

وكلمة إنسان في حساب التوراة تساوي 45 (1+14+15+1+14) فهي أصلاً تعادل 666 رقمياً.

إن الإنسان هو السبب الحقيقي في وجود الوحش، ليس الإنسان هو (أنت-الذات) ولكنه حالة الانفصال بنيك وبني الحقيقة والوجود والتي مهدت لدخول عوالم الغياب وظلام العالمين

هنا الحكمة من له فهم فليحسب عدد الوحش فانه عدد انسان و عدده ست مئة و ستة و ستون

سلام الله.

إرسال تعليق

0 تعليقات