Advertisement

Main Ad

الزمن الحضوري … الأنس والشفاء بالإدراك

هل سمعت من قبل بمعالج يطلبُ من مريضه أن "يتوقف عن البحث عن الصحة" ؟

والبحث عن حل لمشكلاته النفسية … وعن التعرف إلى مشاكله أصلاً ؟ يبدو كعلاج بدائي أليس كذلك … يبدو غير مثير للاهتمام ، يبدو لا يجدي أي نفعٍ عملي … يبدو وكأنه "كلام ونصائح فوقية من شخص عجوز" …

"يبدو" لم تصل يوماً لحقيقة ما تصفه ، هي مجرد حكم مسبق مزعوم وضعيف...

سأضربُ لك مثالاً واضحاً على ما أقصده :


رجلان يعيشان في نفس المدينة ، أحدهما يعيش في قصرٍ هائل ، مُضاء بقناديل ذهبية تنعكس على أرضه المرمر ، لتبدو كتلألُؤ مهرجانات وشوارع باريس في بدايات القرن المنصرم … وآخر يقطن في حي قريب ، بغُرفة واحدة ، وليس لديه أكثرُ من "شمعة" يضيؤها في الظلام ، ليس يدري هل ستكون له القدرة على توفير ثمن شمعة في اليوم التالي ، أم سيقضي الليل بين الظلام ، لا يؤنسه سوى ذكر الله وعوالم الخيال ، فهو ببساطة غير مهتمٍّ بالزمن الغيابي ، بل بالحضرة الآنية.

قد يبدو لك الأول هو السعيد ، والثاني هو الحزين … لأنك لم تعش معهما ، لأن الشخص الأول في تلك الليلة بالذات ، وهو يتجول قصره وصل غرفة مُعتمة … شغلت تفكيره ، سلبت فؤاده ، حاول تحدي عمقها وظلامها ، حاول بسط سيطرته عليها ، لم يتقبل فكرة جمال الظلام ، ولم يتقبل أن يُسمح لغرفة أن تظلم في قصره المنيع … انصرف عن أهله وحاشيته ، وقضى الليل في الغرفة ، هل تعلم ما فعله ؟ لقد بحث طوال الليل ، عن شمعة في الظلام ، أو قنديل أو أي وسيلة إنارة … استمر بالبحث ساعات ، وترك القصر البراق … حتى طلع الصبح ووجد تلك الغرفة أصلاً بلا أي مصدر للضوء.

بينما كان الثاني يقضي ليلته ، وهو يتبصّر شمعته ، في كل لحظة كأنها اللحظة الأولى والوحيدة ، نظام الشمعة الجميل … أبعادها ضمن الفراغ ، ألوان ضوئها ، تآثر شعلتها مع تركيزه وأفكاره … كاد يكتُب كتاباً عن جماليات شمعته الوحيدة.

ليسَ المهم ، ما الذي توفره الظروف لك ، بل ما الذي تُدرِكُهُ من تلك الظروف … الظروف نفسها ليست سيئة ولا جيدة ، إلا بقدر ما يعطيها الإدراك تأويلاً ومعنى …

بإسقاط ذلك على علم النفس والشفاء … هل تظنّ أن الشفاء يتحقق بزوال "العُقدة النفسية\التروما" ؟ أو بتغيّر "المزاج الهرموني" ؟ صيحات العصر مثيرة وجذابة حتى في مجال الصحة والمرض ، وتجعلُ المرء يظن أن الأحدث هو الأفضل والأرقى ، وينسى أن الاحدث هو "الأربح".

إن نبش اللاشعور وذكريات الطفولة ، كالبحث عن مصدر ضوءٍ في الظلمات … من الممكن أن تعرف مصدر المرض كحدثٍ تاريخي ، كفكرة عابرة ، تماماً كعلمك بوجود مصدر ضوئي في الغرفة المظلمة دون أن تستطيع إشعاله … مجرد فكرة ، لا تشفي ولا تغيّر شيئاً بل على العكس … كُلّما ازداد التوغل فيها والتركيز عليها وهي غائبة فقدتَ قدرتك على "الحضور في الآن" وصرت "مُحضَراً للفكرة مسلوب الإرادة والتركيز".

لا تسأل "لماذا التاريخية" ، بل اسأل "كيف التغيير" ، ولا تسأل كيف تغيّر المشكلة في المستقبل أو بالنسبة للذاكرة أو وفق خرائط الأحكام والمعارف المُسبقة ، وإنما اسأل "كيف أغيرها الآن" … ليس مُهماً ما الذي حدث في الماضي "غُرفة الظلام" لأنه لا قيمة له إلا بسلبه لوعيك وإرادتك الحرة ، عندما لا تُرَكّز على الحاضر … من يرى الحضور في الآن ، بصلاة مستمرة ، لا يحتاجُ أصلاً للبحث عن حل لمشكلته ، لأنها غير موجودة سوى في "الزمن النفسي الوهمي".

وكذلك ارتك طلبك لحاضرٍ مشروط بشروط معينة لتكون قادراً على الخروج من زنزانة الزمن النفسي الوهمي ، وإنما كُلّ ما تحتاجُه "لحظة التفات وجداني" للحضور الآني ، بما هو نعمة الحضور ، وستخرج تلقائياً من مقارنات الزمن … استمرارُ الشروط على الزمن الذي يمكن أن يسمح لك بعيش الحضرة هو استمرار بتقييد انتباهك بالأغلال الوهمية ، التي ليس لها وجودٌ واقعي.

الحضور يزيل المشكلة النفسية ، بما هي مشكلة ، دون الانشغال بالبحث بتفاصيلها … إنها مشكلة فقط بالنسبة لإدراكك كيف يدركها وكيف يتعاملُ معها ، مشكلتك النفسية لن تحس بها أريكتك ، ولن يحس بها جوالك وحاسوبك ، ولن تكترث لها القطط في الشوارع … ليس لأن تلك الأشياء بلا أحاسيس ، ولكن إحساسك بمشكلتك يعتمدُ على ذاتك وحضورك للمشكلة، وحضور المشكلة إلى إدراكك ، وحين تنساها وأياً ما كانت ، تزول كما يزول الزبد والسراب … الواقع الذي تُدرِكُه هو ما يعطي القيمة لحياتك ويحدد معناها وضمنيتها ، لحظة تركيزك التام على لحن جميل سيفنى الوجود وتفنى مشاكلك في صفوة اللحن ، ولحظة انشغالك بالبحث عن مخرج في لعبة الكترونية محدودة ، لن تحسّ بجمال الحديقة ، والمتحف القريب ، وأشعة الشمس اللطيفة ، ونسائم الهواء الناعمة ، ووهج القنديل ورائحة العطر ، ولن تحس بيدك ورجلك وقدراتك الجسدية ، ولا قدراتك النفسية ، ولا حتى الأشخاص الذين يهتمون بك … لأنك غارقٌ في الحُلُم … غارقٌ في اللعبة السخيفة.

https://youtu.be/nKWRnJ8uM4E

إرسال تعليق

0 تعليقات