ما هو العقل – مقدمة
دائماً سيبدأ الجواب الحقيقي الصادق
والمنهجي، الذي يسعى للإفادة والوصول، من بحث معاني مفردات السؤال وصلاحيتها الوجودية وطبيعة
العلاقات بينها.
ما الذي يطرحه السؤال أصلاً ؟
أولاً ... ما هو العقل ؟ ومن هو الإنسان ؟ وكيف يتم التحكم بتفاعل الذات والحياة ؟
فإذا وضحت تلك الأور انكشفت
الإجابة لوحدها … فدعنا نبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم :
إن كلمة العقل هي نوع من المشترك اللفظي، أي لفظ يشير إلى عدة معاني لا علاقة لها ببعض.
عندما تقول "يجب تقديم النقل على العقل" فهذه
عبارة يقصد قائلها أن العقل هو محض الرأي المظنون ولا سبيل للمرء من برهان على
الحق في مسألة دون نقل. وعندما تقول "العقل يقع في الجمجمة" فقائلها
يقصد العقل كأسباب مؤثرة تمارس وجودها على الجسد لا كمحاولة لفهم حقيقة هذه التأثيرات ، بل ويتعدى حدود ذلك ليقول لك ، أن ليس فقط هو يقصد ذلك بل
العقل لا يوجد إلا على هذا النحو.
كل تلك التعريفات عن العقل هي
نماذج مسبقة مصممة لخدمة عقائد وراديكاليات معينة ، ولا تنتمي للبحث الحيوي الصادق
والموضوعي.
المشكلة التي تعاني منها البشرية دائماً، أن أغلب التعريفات تسير من
اللفظ نحو العنى وهذا يجعلها وضعية بنسبة كبيرة ، تماماً كما لو كنت تعرف معنى
الشمس من خلال اللفظ لا من خلال الشمس نفسها التي تراها وتحس بحرارتها ، بل من
خلال إدراكك للنسق اللغوي الخاص باستخدام لفظ الشمس، إدراكك لوصف الكتب المدرسية والجامعية لها، أو للمفهوم الاجتماعي عنها وليس لحقيقتها الوجودية واختبار حضورها وحضور فعلها المباشر إليك ذاتياً !
وكذلك العقل ، البشر يفترضون معنىً
نسقياً مسبقاً لهذه الكلمة ولا يقبلون التحقيق فيه ، وهذا حقهم فهو أصلاً ما
يبحثون عنه ، ولذلك اشتراك الباحثين والمحاورين في الالفاظ المستخدمة لا يعبر
بالضرورة عن اشتراكهم لزوماً في معاني وطريقة استخدام هذه الألفاظ ، هم يشتركون في
الاسم الجامع فقط !
لذا فالأَوْلى بالباحث المنصف أن
يدرك العقل بنفسه أو بالأحرى يدرك "الحياة" بنفسه ويصنف خبراته المباشرة
لتفاصيلها ولفئاتها وماهياتها العليا بأفضل لفظ ممكن استخدامه لكل ماهية، فكان
علم النفس التحليلي من حيث هو بحثاً عن الماهية الخاصة بتكوين وإصدار السلوك، يدرك
هذه الماهية أولاً ثم يصنفها تحت عنوان لفظي ، في حالة العقل كان هو "العقل Mind"
وهو ليس "المنطق Logic"، وأيضاً هو غير الدماغ Brain"،
وكذلك غير "الرأي والتوجه والأفكار Think"
فما يقصده من يقول بتقديم النقل على العقل هو المعنى الرابع ، وما يقصده المادي
حسب فلسفته وعقيدته التي تختزل العقل إلى وظيفة مادية هو المعنى الثالث … وأما
البحث الفلسفي والفكري فغالباً ما يقصد منه بالعقل أي "نموذج المنطق ونظرية
المعرفة" لدى الإنسانية جمعاء أو جزء منها.
هذه أربعة تعريفات للعقل، كل منها يقوم بتعريفه من رؤية إدراكية مختلفة، الرؤية الماهوية ، التي تبحث في البنية الوجودية الحقيقية للعقل ضمن الكون والوجود، والرؤية الوظيفية للعقل في الوجود الموضوعي، والعقل في الرؤية الوظيفية للوجود الذاتي المتفاعل مع الخارج الموضوعي، وهو العقل من وجهة نظر الذات واختبارها له كملكة تمكنها من معالجة معطيات الموضوعات الخارجية وتخزين معلوماتها، وأخيراً، العقل في الرؤية الوظيفية للوجود الواصل بين الذات والموضوع من زاوية الوجود الموضوعي نفسه، أي من زاوية الجسد.
نود التنبيه إلى أنّ جميع التعريفات السابقة تستلزم افتراض مفارقة العقل للإدراك. على نَحوٍ مباشرٍ كمُسلَّمة لأي تعريف، وأنه موضوع مفارق خارجي، سواء من حيث وجوده وماهيته، أو من حيث وظيفته ودوره ضمن التفاعل الخارجي بين الموجودات المفارقة للذات، وكيفية تأثيره على تلك الموجودات. وسواء أكان دوره وتأثيره المبحوث عنه هو وظيفته المتجلية عبر الجسد ومراكز التأثير فيه (الدماغ وعلم الأعصاب)، أو هو وظيفته الموضوعية المُدرَكة عبر الوعي والإدراك بكلّانيتها (فيغدو العقل هو السلوكية - الموارد البشرية - القدرة على تعقل التجريدات المنطقية والرياضية والفلسفية)، وسواء أكانت هذه الوظيفة معيارية (لها قواعد وجودية تنظم عملها وهي المنطق) أو غير معيارية (وهي جميع أعمال العقل وتفاعلاته ضمن الموضوع وبالتالي هي الأفكار والأوامر والتصورات).
ما هو العقل حقاً ؟ يعتمد الجواب
على ما الذي تقصده من بحثك وما الغايات وما المنطلقات … لأن اثنين من الناس ليس
يشتركون في فهم موحد لمعنى العقل ولتصميمه.
من الممكن أن نقول : العقل هو جهاز
وجودي تفاعلي، يقوم بدور الوسيط بين الوعي وبين العالم الخارجي، وهذا الجهاز له
وظيفتين يبقهما على ما يتلقاه من وقائع ومعطيات خارجية : وظيفة المعالجة والنمذجة (الموجبة) ، ووظيفة التخزين والاستذكار (السالبة).
أنت تدرك المجردات كخبرات حقيقية
تماماً كاختبارك للمحسوسات ، صحيح أنك لا تدركها على هيئة مادية صلبة ومحددة
النطاق ضمن "هنا والآن المحليان" ولا يمكنك لفت انتباه الآخرين لما تدركه بالضبط، ولكنك تدركها كمعطيات حاضرة إليك حتى
وإن كانت مجردة لطيفة الوجود وذات نطاق لامحلي. ومثال ذلك، إدراكك لمعاني الأرقام
والأعداد ، والقضايا المنطقية والعلاقات ، فليس هنالك علاقة وتفاعل موجود موضوعياً
محلياً مادياً ، ليس هناك علاقة سبب ونتيجة ضمن المحل ، هناك حامل مادي لهذه
العلاقة هو السبب و\أو النتيجة ، ولكن العلاقة نفسها غير موجودة على نحو محلي مقيد
… رغم ذلك ، كم هو مجحف وتعصبي ذلك القول لبعض الناس : إن هذه الكيانات المجردة لا وجود لها
ولا أنت تدركها ، قُل : بلى تدركها، لأنك تدركها، كما تدرك المحسوسات تماماً من جهة الإدراك وحده ، ويقع
التمايز في الموضوع ومادته وليس في إدراك الموضوع نفسه، فمادة التجريدات معقولة ومادة المحليات محسوسة بطرق جسدية ومادية، ولذلك ، أن تقول إن المادة
موجودة حقاً أو واقعياً يستدعي منك لنفس العلة أن تقول إن المجردات موجودة حقاً
وواقعياً.. لأن الإدرك للمواد هو نفسه الإدراك للمجردات.
ومثل ما أن الملكة التي تنقل
المحسوسات إلى الوعي تسمى بأجهزة حس ، وحواس مادية خمسة ، فكذلك هو العقل ما ينقل
المعطيات التجريدية نحو الإدراك ، فيكون بذلك وجوده وجوداً موازياً للواقع المحلي
بالنسبة للإرداك وليسا ينتميان لخبرة واحدة، حتى يتم اختزال أحدهما في الآخر إدراكياً وكشف الوجود العميق ما وراءهما ، ولكن
كلاهما ينتمي لجامع أكبر هو كونهما ككل المعطيات ونواقلها، حضور للإدراك، يأخذ
قيمته الوجودية من حضوره نحو الذاتي لا من معزله الموضوعي.
فالعقل : "هو صلة الوصل بين الوعي
وبين عالم التجريد، ويمكنك القول هو : جسد الوعي في عالم التجريد ، كما هو الحال
بالنسبة للجسد المادي في عالم التقييد والمواد."
وفي علم النفس التحليلي يشار بكلمة
العقل : "لأداة الاتصال بين الوعي وبين تجريدات العالم الخارجي.. ويكوّن العقل من تلك
التجريدات نماذج المعرفة والذاكرة، ومجموعة أدوات بناء العلوم ، فالعقل هو صلة الوصل بين
الوعي والإدراك من جهة، وبين المعرفة التجريدية والعالم اللامحلي من جهة ثانية."
العقل أيضاً هو : "الجهاز، الذي يقوم
بمعالجة واقعة العالم الخارجي من حيث علاقاتها ومعانيها، ومعالجة المعطيات الحسية
وتصنيفها، والتصورات والقضايا وبناء نموذج تصويري يخبر عن العالم الحقيقي بدلالة
ما حلله من معطيات."
يقع السؤال الأساسي عن العقل في
أنه "ما هو تأثير العقل على حياة الوعي ضمن الواقع الموضوعي ؟"
هل هو تفاعل سالب من جهة العقل
وموجب من جهة الواقع، بحيث لا يؤثر العقل على الواقع ولكن ينمذجه فقط ! وأن العقل إنما يتحكم
بنموذج ذاكرة النفس وماهية التأويل لهذا الواقع وليس بالواقع نفسه، إلا حين يوجه الجسد
وما يعقب ذلك التوجيه من منعكسات بيئية وأفعال- أي يستخدم أدوات يمده الواقع الموضوعي نفسه بها-. وهذه نظرية الواقعية في توصيف العقل
وجودياً وتعريف إجراءاته.
أم هو تفاعل يتشارك فيه العقل
والواقع الموضوعي أيضاً فيؤثر العقل على تكوين مادة الواقع وليس فقط على تأويلها ؟
ومن هنا تدرك لماذا مثلاً تؤثر الحلة النفسية على فيزيولويججيا الجسد بوضوح، ولما
أصلاً وكيف ، تستطيع التحكم بجسدك رغم أنه واقع موضوعي ! وهذه هي النظرية المثالية
في توصيف وجود العقل وإجراءاته.
ولنقل أن المثالية ترد العقل إلى الوعي، والواقع المادي إلى العقل، فالكون المادي ما هو إلا ظاهر لقوة العقل الكوني الخلّاق، وليس في الحقيقة للمادة وجود بحد ذاتها ولذلك يُستصعب تعريف المادة من وجهة نظر موضوعية خالصة، لأنها كمنظومة من الظواهر لا تخبر بأكثر من الوقائع المادية نفسها كما تتبدى إدراكياً لوعي الذات، ولكن ما الحقيقة وراء هذا التبدي ؟ الحقيقة أنه مجرد أثر ظاهر لعلّة باطنة، وقوانين الفيزياء التي يتم البحث عنها تدرسها من الخارج لا من الباطن، فهي تخمّنها بناءً على الإحصاءات والظواهر لا على الحقائق. ولأن العالم المعقول في اتصال ووحدة وجود، فمن الطبيعي لعقلك أن يغير هيكلة الواقع المادي في إطار القوانين الفيزيائية العقلية - التي تسمى بالخيمياء -.
وهناك سؤال آخر يُطرح وهو "ما
تأثير الوعي على العقل المفارق له ؟"
هل الوعي يتلقى نماذج العقل عن الواقع بشكل سلبي أم يتمثلها بإرادته ؟
وهذا الطرح يجعل من العقل قسمين أولهما
واعي والآخر لاواعي وباطن ، والقصد ليس أن هنالك عقلين أو أن العقل نفسه منقسم
ذاتياً ، ولكن القصد أن وظيفة العقل تتعلق بعامل الوعي بشكل جوهري ، فإذا وقع
العقل تحت إشراف الوعي في عمله سمي عقل واعياً أو "عقل الوعي" أو الشعور
، بينما ما لا يقع في أعماله تحت إشراف الوعي المباشر يسمى بـ"العقل
الباطن" أو اللاشعور.
ففي حالة قوامة العقل بحد ذاته على
الوعي، فيكون مجال إدراك الوعي عنصراً مستقبلاً وسالباً لاقتراحات هذا العقل، وفي حالة قوامة الوعي
على العقل يكون مجال اللاشعور إما منتهياً (حين يتم الوعي بمضمونه مباشرة) وإما خاضعاً لسيطرة الوعي (حين يتم توجيهه وإرشاده بالمقترحات والقرارات والتوكيدات والإيحاءات) وهكذا يكون العقل واعياً أو بالأحرى "يتم
الوعي به" في حالة كشف مضمونه للإدراك، ويكون "لاشعورياً" أو لا يتم وعيه حين احتجابه عن الكشف، وهذا يعني أن الوعي أمر آخر غير العقل، فهو القوة التي تكشف حقيقة العقل وتدركها وتتخذ القرارات وتتحسس المشاعر وتتذوقها، أما العقل، فهو بناء هندسي ومنطقي صلب، ليس فيه مشاعر بحد ذاته وبمعزل عن الوعي الخالص، ولكن باتحادهما يكون للمعقول معنىً كما باتحاد وحدتهما مع وحدة الجسد والوجود الخارجي، يكون للوجود قيمة ومعنى وجماليات.
وإذا كان أصل الوجود الموضوعي هو الوجود العقلي وكان أصل الوجود العقلي هو الوجود الروحي الذي يقع فيه عالم الوعي، فإنه هو المحرك الأساسي للوجود وكل موجودات موضوعية لا تقوى على التواجد إلا بما حملته من طاقة الوعي ومن اهتمامه، وهذا يعني أن الوعي أساس الوجود، وقوة الوعي أساس كل قوى الزمن الموضوعي.
كيف يعمل العقل بما هو عقل ؟
بدلالة تلك المعطيات المعرفية
المباشرة والأولية ( وهي بداهات العقل وماهيات المواد ) يمكن للعقل أن يفهم
التصميم العام للعالم من حوله، ثم يحتكمَ العقل إلى هذا التصميم في تكوين القرارات
السريعة التلقائية وردود الفعل الانعكاسية مثل المهارات المختلفة. إن قيادة
السيارات هي معالجة العقل لعلاقات مجردة ضمن معطيات حسية تتعلق بهيئة السيارة
وأقسامها ومعانيها من جهة، وعلاقات أخرى لمعطيات عقلية تجريدية تتعلق بفعل القيادة وما
يستتبعه من أحكام ومعقولات كالسببية وضرورة رفع التناقض وتماسك الواقع الزمني من
جهة أخرى ، وتفاعل هذين العاملين ( المعقولات من بداهات العقل التجريدي أو ماهيات الوجود، والمعقولات من
معطيات الحس المحلي أو ماهيات الطبيعة ) يتكرر بصورة استقرائية مع دوام التدريب، ليولد في النهاية نموذجاً تصويرياً عن حالة القيادة،
ويلتزم العقل بهذا النموذج مع التكرار والترسيخ … ولذلك مثلاً لا يمكنك بتعلم
قيادة سيارات من جيل السبعينات أن تقود سيارة الروبوت الحديثة ، لأن الواقع ليس
النموذج ، فالنموذج الذي عالج موضوعاً محدداً أصبح يعممه ويسميه قيادة السيارة
بينما هو في الحقيقة أقل عومية من ذلك الموضوع ( المتعلق بماهية طبيعية معينة وهي سيارة السبعينات ولا يتعلق بماهية قيادة المركبات نفسها والتي تنطبق على كافة المركبات في الوجود، لأن الأولى جزء من مفهوم القيادة العام، وبالتالي فهو متخصص بمصاديق أقل منه، لذلك مفهوم القيادة أقرب للوجودية والكلانية، ومفهوم قيادة سيارة السبعينات أقرب للمادية وهذا يجعل الواقع متعدد النماذج بنفس الوقت، مما يتطلب التكرار والترسيخ لنموذج محدد من أجل وظيفة محددة).
العقل هو الجهاز المسؤول ، عن تعلم
المهارات واكتساب المعارف وبناء النماذج ، ولكن النموذج المعرفي عن العالم بأسره
يقع في بضعة مستويات ( الله - الذات - الزمن - الآخر - التفاعل والتعبير -
الموازنات والموازين - العلاقات والتعلقات - الفاعلية والتحقيق - الواقعية والتحقق .......... ) وهذا النموذج الكلاني هو المسؤول عن بناء النماذج الفرعية ، مثل نموذج قيادة السيارات ،
ونموذج استراتيجيات التعلم واكتساب المهارات ، وحقيقة مخاوفك التي تمنعك من أفضل
أداء، وحقيقة انتباهك لواقعتك التي تحاول كسب السيطرة عليها … كل ذلك يعود
للنموذج المعرفي عن العالم ، وذلك النموذج يحدد طبيعة شخصيتك ومؤهلاتك الأساسية
ككائن حي للتعامل مع الزمن والوجود.
المعتقدات العميقة والمتوسطة تولد
الأفكار التلقائية ، الأفكار التلقائية تركز انتباهك على موضوعات معينة دون غيرها
وتثير مشاعرك تجاهها، فموضوع مثل "فتاة دعاية للأفلام الإباحية" يثير
في تفكيرك فكرة تلقائية سريعة، وهذه الفكرة هي "جسد مثير وفضول لاستكشاف
!" وهذه هي السبب في تحفيز هرموناتك وإشاراتك العصبية التي تجعل أجهزتك
التناسلية تعمل بعد رقود … ولو خطرت ببالك فكرة أخرى مثل "كم هي مظلومة هذه
الفتاة المسكينة ! يالهم من وحوش" فإن فيزيولوجيا الجسم تعمل على الاتجاه
المعاكس تماماً وتحول الموضوع من إثارة للشهوة إلى عذاب للضمير ورغبة في التحرير (
تحرير الآخر الزمني ).
من أين تأتي الأفكار التلقائية
ولماذا تختلف بين كل إنسان وإنسان ؟ إن هذا الجواب اعتمد على منهجية بحث استبطانية
في أساسها ولكنها قابلة للتجريب من جميع خلق الله ، ومنهم أنت نفسك ، تسمى بتقنية
"السهم الصاعد أو الهابط" حيث تركز على موضوع معين وتدرك فكرتك السريعة
دون التفات لما يترتب عليه من نتائج لتلك الفكرة، وإنما تركز كامل انتباهك واهتمامك للفكرة نفسها ، وتسأل نفسك بعض الأسئلة
عنها مثل "ما الذي أفكر فيه الآن وأنا أرى هذه الفكرة أمامي ؟ ما هي مشاعري ؟
ما هي الذكريات التي تتعلق بها ؟ ماذا أرغب حقاً وأنا أرصد هذه الفكرة وما الذي
يدفعني لهذه الرغبة ....."
من خلال تلك الأسئلة يتبين لك وجود
"طبقات من المعتقدات" التي توجه أفكارك التلقائية ومشاعرك الانعكاسية
حول أي موضوع ترصده في حياتك اليومية، وجميع هذه الطبقات تنطوي على المعقولات والتجريد الذي لا يدرك بالحواس، بدأً من جارك الذي يزعجك بتحريك سيارته كل
صباح، ومفهوم الجار والإزعاج وتشخص جارك بهما، وانتهاءً بخوفك من أسوء كوابيسك ورغبتك بأسمى ما تتحسسه من وراء حجب الزمن …
إذن … الغريزة غير موجودة بذاتها
دون العقل ، فإذا لم يكن هنالك إلا محض الوعي الخالص ومحض الوجود الذي يعيه ، فما
من سبب لهذا الوعي في أن يُنشئ الغريزة، لأنه لن يكون هنالك مجهول ليكتشفه ولا
بقاء ليحفظه، ولا سائر المعارف الغيابية والأحكام الظنية المبنية عن الواقع
والمؤسسة للنموذج ، لن يكون هناك إلا الحق الصافي والنور التام فحسب وعندها تزول
الصراعات والشرور وتبقى السكينة الأبدية ، سكينة لا تعني نهاية الحركة والزمن
والتجديد والارتقاء ، بل تعني نهاية الصراع والبحث عن الغائب والتجديد بسبب الملل
لأنه لن يعود هناك ملل لأنه لن يكون هناك مفقود أصلاً من مشاعر السعادة والحماسة
واليقظة والجمال والخشوع، سواء في الذات أو في الموضوع … ولن يقوم المنطق بتصريفها بمعيته والفصل بينها وبين
الارتقاء والتوسع المطلق والتجديد.
فالعبرة في جوهر القيمة التي يتم إدراكها لا في الزي الزمني الذي يصوره لك الخارج والآخر الزمني، ويأوّله لك العقل والنموذج … ولكن أكثر الناس لا يتحكمون بعقولهم فهم لا يعقلون ، فتأتيهم الأفكار التلقائية من كل جانب ويتقبلونها عن المواضيع دون أية محاولة جدية للمحاكمة المنطقية لهذه الأفكار أو للبحث عن جذورها في المعتقدات العميقة لدى اللاشعور ، وكذلك الغريزة من حيث هي نموذج أولي للعقل عن التفاعل الأنسب مع العالم الخارجي الموضوعي وزمن الغياب … هي مجرد فعل عقلي ولكن من اللاشعور …
إن اللاشعور يحكم قبضته على
البشرية ويمتص طاقتها ويوجهها في دروب الضياع وزمن الغياب باستمرار. وهذا هو الفرق
بين الإنسان العابد للتاريخ وزمن الغياب والموضوعية المفارقة لذاته بكل ما حواه هذا الزمن الغيابي من معارف وعلوم ، وبين الكيان
الحي الحر من زمنه ومن إنسانيته ومن كل قيد ممكن الوجود …
0 تعليقات