Advertisement

Main Ad

الحقيقة المطلقة لا تشبه ما في هذا الكون ... الفرق بين المجهول وبين ما لا يمكن معرفته

 التفريق الإدراكي بين "المجهول" Unknown و "ما لا يمكن معرفته" Unknowable وضع البشر على مفترق طرق صعب وفاصل …. وغيّر مسار التاريخ

لنقل إن العالم يبدو بالنسبة لك تقريباً مكاناً مجهولَ المَعالم، وإنك تعرف فقط ما سمحت به حياتك القصيرة حتى الآن التي استثمرت خلالها قدراتك الجسدية والعقلية من خلال اختياراتك.

بما أنك إنسان ، لم تكن لتعرف أشياء تخرج متطلبات الوصول إليها عن هذه الحدود ( زمن حياتك * قواك الجسدية والنفسية التي تقيد إدراكك ) ولعل مثلاً يكشف لك لذلك … أن كثيراً من المعلومات والبيانات والفرضيات المكدسة في الكتب المليونية التي سجلتها البشرية في مختلف المجالات لم يتح لك بَعد أن تطالع فحواها أو حتى تعرف "عناوين موضوعاتها" ، وربما غابت عنك حسياً أغلب الظواهر الطبيعية الموجودة في بيئات بعيدة عن موقعك وقارات أخرى، فضلاً عن تجارب مختبرات التي لم تشاهدها، كل تلك الأمور لم تعرفها بحواسك ولا بعقلك ، وهذا كله موجود فقط على "كوكب الأرض" ، ولكن ماذا عن المجرات والكواكب في الفضاء ؟…. بلا شك ، فيها عطاء معرفي يتجاوز حدود الخيال.

هناك مليون نوع من أنواع الأحياء المصنفة ، ويقال أن الأنواع غير المصنفة يصل إلى تريليون ، وأنت ربما لا تعرف حتى الآن بوجود السلاحف العملاقة والقطط الباشقة والحلزونات المفترسة.

عدد دول العالم قارب المئتي دولة ، كل دولة منها لها أساليبها المنفردة للحياة ، والبناء ، والطبخ ، والفن .. ولكل منها معالم وتضاريس وبيئات وآثار وثقافات لم يتح لك حتى أن تراها بالكامل على التلفاز وحاسوبك، مجرد رؤيتها على الشبكة ستحتاج إلى سنوات …

هذه الأمور مجهولة لك حالياً ، ولكن يمكنك أن تعرفها في وقت ما في المستقبل إذا قصدتُ ذلك ، كلما تحتاجه هو الأسباب المادية ، بعض البحث على الانترنت ، أو بعض الوقت والمال، أو الاستفادة من فرص معينة ، لكنها جميعاً قابلة للمعرفة بالنسبة لقدراتك البشرية.

ليس هناك تجارب أو أشياء في هذا الكون أو الأكوان المادية لا يمكنك خوضها ضمن قوامك البشري، ولا يوجد معرفة خاصة بالكون وما فيه لا يمكنك الوصول إليها لمجرد أنك إنسان.

كل شيء يتسم بكونه مادي أو ذهني يمكنك أن تعرفه إذا كانت لديك الأداة المناسبة والوقت المناسب، وقصدتَ حقاً الوصول إليه.

المشكلة الوحيدة التي تقوض معرفتكبكل الأشياء، هي أن الحياة قصيرة جداً على قضائها في تجريب ومعرفة كل شيء نوعاً نوعاً، ومهما كانت طويلة ، لا يمكنك حتى أن تعرف مقداراً محترماً يُذكر من مجموعة تلك "المجاهيل" الطبيعية المترامية ، في كوكب الأرض وأنحاء الكون … حتى ولو عشت ألف سنة ، معرفة كل شيء بالتجريب والتركيب تستحيل على من لم يعش أضعاف عمر الكون.

هذه أمور مجهولة بالنسبة لك رغم وجودها حالياً في عالمك ، في الزمن الحاضر وهناك أمور مجهولة بالنسبة لك ولا توجد في الحاضر ، مثل ما حدث في تاريخ الكون القديم ، وما سيحدث في المستقبل ، وكل أولائك الأشخاص والكائنات الذين طافت أرواحهم في رحاب هذا الوجود ، وكل ما اختبروه وعرفوه لا يزال بعيداً عنك ، ولا يمكنك أن تعرفه بالطرق التقليدية.

تلك الأكوام من المعارف التي وصلت إليك والتي لم تصل إليك بعد ، لها خاصية مشتركة بينها جميعاً وهي أنها قابلة للمعرفة لأنها تنتمي لنفس العالم وتُحكم بنفس تصاميمه، وذلك يعني أنه يمكن أن يعرفها الإنسان، وأن ما يجعل بعضها مجهولاً له هو قصور قدرة القياس والرصد ، أو تطلب الحصول عليها لوقت كبير ، لا يتناسب مع دورها الهامشي بالنسبة لحياة الإنسان ومقاصده ، ولكنها جميعاً قابلة للمعرفة الإنسانية، عندما يتحقق المزيد من التقدم التقني ، أو عند قصدها والتفرغ لها.

والخاصية التي توحد بين كل هذه الظواهر الكونية القابلة لأن تُعرَف هو اعتماد العلم بها على الهيكل التصميمي لبناء الإنسان من الناحية الجسدية والعقلية ، وذلك يعني أن المعطيات الحسية الموضوعية هي مادة المعرفة الوحيدة بالنسبة للإنسان ضمن وجوده الموضوعي، والمعارف الذهنية تعتمد على إطلاق أحكام تصف هذه المعطيات وتربط بينها ، لتتحصل في ذاكرة الإنسان شبكة معقدة تكون النموذج المعرفي الفردي.

إذا كانت هذه المعطيات الحسية آتية من مصدر خارجي ( خارج كينونة الإنسان ) فإن الإنسان لا يمكنه أن يعرف المصدر بذاته ، ولكن يمكنه أن يعرف الظاهرة كما تتبدى له ويحاول التفكر بمصدرها ، والظاهرة من رؤية الإنسان محددة حسياً بقدراته الجسدية ، ومحددة عقلياً بالهندسة التي تَحكُم الذهن ، والمعطى الحسي بحد ذاته ليس فيه تصورات أو أفكار أو مفاهيم مثل ( السببية ) أو ( التلازم ) أو ( النفي والإثبات ) أو ( السبق واللحوق والتعاقب ) أو ( العلاقات المكانية ) ، فمن أين تأتي هذه العوامل ؟

إن بناء المعرفة البشرية معتمد بالكامل على تقبلها كأدوات ابتدائية لأي معرفة ممكنة …

بما أن المعقولات غير موجودة في مادة الشيء ، وبما أنها تتحكم برؤية الإنسان لمادة الشيء كما يتحكم القالب بالماء ، وبما أن للإنسان يستطيع أن يتعامل مع المعقولات كمُعطيات إدراكية لها طبيعتها المستقلة عن مادة الشيء وتأويل الإنسان الشخصي ، فإن هذه العوامل موجودة في مساحة خاصة تحول بين الشيء بحقيقته وبين الإدراك الخالص له ، وهذه المساحة ، هي "الذهن الخالص" … أي الذي لا يتعلق باختيارات الإنسان ، بل هو وجود يفرض نفسه على كينونة الإنسان ، بقدر ما يفرض العالم المادي نفسه عليه.

وبهذا يكون الذهن الخالص ، كالواقع المادي ، كائناً مستقل التكوين عن اختيارات الإنسان ، مع أنه جبري وحتمي ، والكشف عنه يتطلب التركيز والتأمل فقط …

الذهن يجعل الإنسان يرى العالم بمعالم محددة مسبقاً ، لا يمكن للإنسان تجاوزها إلا إذا تجاوز الذهن نفسه … وهذا ما يعني أن مفاهيمك عن الزمان والمكان والكائنات غير موجودة باستقلال عن الذهن ، ولا يتوقف ذلك على الفروق الفردية بين شخص وآخر ، إنه ينطلق من نقطة التكوين للكائن البشري بما يكون بشرياً، ويشمل بذلك كل أفراد النوع البشري ، بل كل أفراد النوع الحيوي في الكون.

https://youtu.be/4Vuri-ZaS_4

وهذا يعني أن ما تدركه وتعرفه موجود ضمن "العالم * الذهن" ، أما المصدر النهائي أو ( الحقيقة المطلقة ) للوجود ، كما كان يسميها كانط "الشيء في ذاته" غائبة عنك .

فإذا سلّمت بذلك مع إدراكك ، فأين ستكون هذه الحقيقة النهائية المتجاوزة لحدود الإدراك البشري مادياً وعقلياً ؟ إنها ستكون ما لا يمكن معرفته …

إنه ليس هناك شيء مماثل لذلك المُطلق الأعلى ضمن محتوى التجربة البشرية المعرفية.

وهذا يعني أن أي محاولة فلسفية أو علمية لفهم ذلك المُطلق الأعلى ستنوء بالفشل ، ليس لأن الإنسانلميستطع الوصول للأدوات المناسبة أو للنظرية المثالية ، ولكن لأن ذلك الحق يتجاوز حد قدرة الإنسان على الفهم ، من حيث أن هذه القدرة مقيدة بقواعد مسبقة منذ البداية كالسببية والتعاقبية والترابطية والإثبات والنفي والوحدة والكثرة والوجود والعدم.

فإن ما لا يمكن معرفته ، لا يمكن للإنسان بما هو إنسان معرفته ، أما المجاهيل فيمكن لإنسان أن يعرفها مع التقدم بالعلم ، أو مع التطور بيولوجياً.

من حيث التاريخ ، انقسمت الفلسفة بعد كانط بين طائفتين لم تخرج منهما حتى اليوم ، الأولى تقول : إنه لا داعي لافتراض وجود هذا الشيء في ذاته أو الحقيقة النهائية ، والثانية : تحاول التعتيم على الموضوع.

لأن القضية الأساسية أصلاً أن هناك "علة" لوجود الظاهرة التي يمكن رصدها وفهمها بشرياً ، وهذه العلة صَدرت منها هذه الظاهرة كما تصدر أشعة الشمس من الشمس فيلتقطها الراصد بحسب قدرته ومكانه وزمانه وبيئته ، وأن تلك العلة الجوهرية مختلفة عن الطبيعة اختلافاً نهائياً ، لأن الظاهرة صُممت بالتوافق مع قدرة الإنسان على الرصد والفهم ، وبما أن"الوجود في ذاته علة خفية للظاهرة المرصودة" فهذا يدل على أن ذلك الوجود بذاته، يمكن تصوره ، وبالتالي يمكن معرفته ذهنياً وتصور أنه موجود ، وأنه علة لغيره ، وحينها ستنطبق عليه نفس المقولات التصورية المنطبقة على الظاهرة ، أي أنه لا يتميز عنها إلا بمقدار خفائه، وليس شيئاً لا يمكن وصفه حسب رؤيتهم.

هذا يعني أن الهندسة الذهنية ( المقولات التي تحكم مظاهر العالم ) إما أنها ستكون من صلب الطبيعة نفسها ، ليست موجودة في الذهن بل الذهن يعكسها من هيكل العالم نفسه وهي مجرد ما يمكن ويجب أن تكون عليه المواد دائماً.

 وإما أن تكون الطبيعة نفسها ذهنية ، ولا تختلف عن المقولات التي تحكمها، وبالتالي فإن المواد تصدر من ذهن الذات الحية التي تفكر وتتصور كنوع من تجسّد الفكر الذهني الصرف.

فإذا لم يكن هناك وجود في ذاته يتعالى على الوجود الظاهر المرصود إنسانياً فإن المستوى الذهني والمستوى المادي للعالم سيكونان متحدين معاً وسيكونان كل شيء: فإما أن يكونا موجودان معاً في الكون الموضوعي ( وهذه رؤية المادية المطلقة ) ، وإما أن يكونا متحدين بالذهن نفسه ( وهذه رؤية المثالية المطلقة )، وكلا المذهبين محقق على شرط عدم وجود الحقيقة العُظمى أو المصدر النهائي خارج حدود ( الظاهر الذهني-المادي ).

كلا الرؤيتان تتساوى في البرهان ، والأمر يتوقف على قبولك أو عدم قبولك أن الظاهرة المرصودة عن وجودك الشخصي.

ومع ذلك يجدر الانتباه بقوة : المصدر ، الوجود في ذاته ، ليس من نسيج المقولات الذهنية ، وهو ليس موجوداً بنفس معنى الوجود بالنسبة للأشياء الظاهرة، التي تنبث عن أشعته.

بحث "معنى الوجود" في العرفان الإسلامي  يوضح ذلك ، رغم أن العرفاني يسير في مسار مختلف عن المسار الذي ذهب عبره كانط لكنه يفهم ما يقصده ( على الأقل يفترض ذلك )، وقد التفتوا لهذا الموضوع جيداً وكان بحث "معنى الوجود" هو العنوان الحقيقي لعلم العرفان النظري ، الوجود كلمة تدل على عن عدة معاني مختلفة ، والمعنى الذي يعبر عن الله عز وجل ، "مُطلق الوجود" أي المُطلق عن أحكام الوجود بما فيها حُكم الوجود نفسه … 

{(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)}…

تحياتي وسلام الله


إرسال تعليق

0 تعليقات