Advertisement

Main Ad

الرؤية الكونية في العرفان النظري

 

الرؤية الكونية في العرفان النظري :

إن الإنسان وبعد مجيئه إلى هذا العالم وبلوغه إلى حد التفكير، فأوّل ما يرى نفسه ثم العالم حوله، ويحصل من هذه المشاهد مفهوماً عاماً يعبَّر عنه بالوجود، فأول ما يعرض له من الأسئلة السؤال عن الوجود: ما هو ؟

ويظن في بدء الأمر أنه سؤال سهلٌ ساذج ولكن كلما أمعن وتأمل في الجواب ظهرت له صعوبة الإجابة عنه أكثر، فأكثر! وبالسعي في الإجابة، حصل على معلومات حول أجزاء معينة من العالم الموجود والأشياء الموجودة، ظهرت بها علوم مختلفة يستهدف كلٌّ منها الجواب عن قسمٍ من المسائل المطروحة، التي اشتغل بها جمعٌ من المحققين، الذين تمكنوا بمجاهداتهم وتفحصاتهم من اكتشاف غوامض كثيرة من أسرار هذا العالم.

ولكن رغم هذا الجهد الكبير والعمل المكثف فالسؤال باق على حاله ولم يتضح بعد، ولم يتبين : ما هو الوجود ؟

وجاء الأنبياء وأخبروا عن وجود عوالم أخرى غير محسوسة، وموجودات مثلها لها السيطرة على العالم المرئي وحاكمة عليه، فتوسع السؤال الأول وصار أكثر غموضاً وإشكالاً.

ولأجل الفحص عن الحقيقة والوصول إلى الصواب، اشتغل أناس بالتفكير وتحليل المعلومات والوصول بها إلى المجهولات، تسموا بالفلاسفة وأهل النظر.

وآخرون اعتقدوا أن الوصول إلى الحق لا يكون بالنظر الصرف بل الطريق إلى ذلك هو الاشتغال بالمجاهدات والرياضات حتى يتقوى الإنسان ويتمكن من معرفة نفسه أولاً، ثم باتساع نفسه وإحاطتها في ظل هذا التوسع على العالم حوله يتمكن من معرفة هذا العالم بقدر ما يحيط به ويشاهده عين نفسه. وأهل هذه الطريقة تسموا باسم العرفاء، وطريقتهم العرفان العملي.

وبعد ذلك عرض عدة منهم مكاشفاتهم ... ولم تكن هذه المطالبات قابلة للعرض في المجتمع العلمي بصورة مقبولة، وإنما هي مجرد ادعاءات قابلة للرد والإثبات فتصدى جمعٌ آخر لتبيينها البرهاني القابل للعرض على مستوى البحث العلمي.

ويعد علم العرفان من المذاهب الفكرية المتعالية والعميقة، فهو يسعى إلى معرفة الحق تبارك وتعالى ومعرفة حقائق الأمور، وأسرار العلوم، وطريقته ليست على وفق منهج الفلاسفة والحكماء – أهل النظر – بل هي طريقة اتباع منهج الإشراق والكشف والشهود.

فالعارف الذي حقق تقدماً في سيره العرفاني، ينظر إلى عالم الوجود على أنه مظاهر لنور الباري جلّ وعلا، وكأن كل ظاهرة من ظواهر العالم هي مرآة تعكس الجمال الأحدي، وهو لا يرى وجوداً استقلالياً لأي موجود، ما عدى الذات الإلهية المقدسة.

وهذا اللون من المعرفة لا يحدث إلا في ظل العمل المخلص بأحكام الدين، وفي الواقع فإنه الثمرة الرفيعة والنهائية للدين الحقيقي، وهذا هو النور المعنوي الذي يفيضه الله سبحانه على قلوب أحبائه.

علم العرفان النظري أعم العلوم مطلقاً :

لما تقرر بحكم الحصر العقلي: أنه ليس من المفهومات – الحقيقية – إلا وهو مندرج تحت موضوع أحد العلوم الثلاثة ( إما أن يكون مندرجاً في علم الطبيعة، أو علم ما بعد الطبيعة، أو علم ما بينهما ، أي أن الموضوع يكون إما من الطبيعيات أو الرياضيات أو الإلهيات ) تماماً كـاندراج ما هو الأعلى من تلك العلوم تحت موضوع هذا العلم ، ظهر وجوب عموم موضوع العرفان بالنسبة إلى سائر الموضوعات مُطلقاً، لاندراج الجميع تحته ( أي أن الظواهر العلمية المفردة والتحقيقات الخاصة بها تندرج في موضوع علمي جامع لها مثل اندراج الظواهر البيولوجية في موضوع علم البيولوجيا وهو الجسم الحي، وهذا التوزيع الهرمي مماثل لاندراج موضوعات سائر العلوم ضمن موضوع الفلسفة الجامع لها الأعم منها جميعا وهو الوجود بما هو وجود ، وكذلك يندرج موضوع الفلسفةالمسمى بالوجود تحت لواء موضوع العرفان النظري وهو مُطلق الوجود، وهو أعم الموضوعات إطلاقا )، وظهر كذلك وجوب كونه أبين الموضوعات معنىً وأقدمها تصوراً أيضاً، ضرورة أنه لو كان بين المفهومات ما هو أبين منه يلزم أن يكون هو أعم المفهومات مُطلقاً، وإلا يزمُ أن يكون الخاص أبين من العام، وذلك محال.

( أي لو كان موضوع البيولوجيا مثلاً أعم من موضوع العرفان النظري لكان أيضاً أعم الموضوعات الممكنة ، ولاندرجت كل العلوم تحته ، ولكنه أخص "أكثر محدودية" من أن يكون ذلك الموضوع الأعم على الإطلاق ، فهو حالة محددة من موضوع أعم منه وهو الوجود المادي الذي هو موضوع علم الطبيعة، والوجود المادي حالة محددة من الوجود العام وهو موضوع الفلسفة ، والوجود العام حالة محددة من "مُطلق الوجود" )

وعليه فإن العرفان النظري أعم العلوم ومسائله أعم المسائل ومبادئه أعم المبادئ.

فالتعبير لما يصلح أن يكون موضوعاً لهذا العلم – من المعنى المحيط والمفهوم الشامل الذي لا يشذ عنه شيء ولا يقابله شيء – عسير جداً، ليس من بين الألفاظ المتداولة هنا شيء أحق من لفظ الوجود بذلك، إذ معناه – أي الوجود – أعم المفهومات حيطة وشمولاً، وأبينها تصوراً وأقدمها تعقلاً وحصولاً. فكون الشيء بيناً أو غير بين راجع إلى احتياجه في الاتصاف بأحد الحصولين أو الوجودين إلى وساطة وإلى احتياجه إليها.

( يقصد بالحصولين : أي الصورتين الحصوليتين للموضوع في ذهن الراصد، صورة مادته الحسية وصورة ماهيته العقلية التي تعطيه تصنيفه وهويته وعلاقاته ضمن الكون، وكلاهما يحصل وجوده ضمن حدود الذهن وما يسمح به.

ويقصد بالوجودين : أي البعدين الواقعيين للموضوع بحد ذاته لا بحسب الصورة، بعده الواقع في العالم الموضوعي الخارجي، وبعده التكويني في نظام الكون ، ولأن البعد التكويني "الماهوي" للموضوع غير مادي ، فإنه يقع ضمن عالم الذهن ويسمى بالوجود الذهني ولذلك يسمى وجود الموضوع الفعلي بالوجود الواقعي.

والفرق بين وجود الشيء الذهني وبين صورته المتحصلة في الذهن أن الصورة تنقل الموضوع وتنوب عنه ، وتخبر عنه لكنها ليست هي الموضوع نفسه، وليست وجودا حقيقياً له بل انعكاسا لوجوده الحقيقي، أما الوجود الذهني فهو نفس الموضوع من حيث هويته الكونية وعلاقاته الوجودية في نظام التكوين للعالم ، لا من حيث مادته المحسوسة فقط.

ولأن هذه الهوية والعلاقات غير مادية بل منظّمة للمادة وتشكل البرامج بينما المادة تشكل العتاد الصُلب ، وتتضمن خصائص غير محسوسة في تحديد معالمها "مثل علة وجود هذا الموضوع، ودوره في الكون، وتأثيره على الموضوعات الأخرى، وترتيبه بينها، ومحدداته الكمية والكيفية" فإن هذه الهوية البرمجية الكونية تسمى ب"الوجود الذهني" للموضوع ، لأن كشفها يتم بوساطة اتصالها بالذهن مما يعني أنها ذهنية الوجود ، لا أنها صورة تحصل في الذهن فقط، فيكون الموضوع بحد ذاته ذا وجود ذهني ومكونات ذهنية، وهذا يختلف عن الصورة الحصولية التي تنقله.

والتفريق بين الوجود الذهني والصورة الحصولية دقيق نوعاً ما ويصعب حتى على الفلاسفة ، ولكن القصد أن وجود الموضوع ذهنياً هو وجود له طبيعته ونكهته الإدراكية الخاصة والتي تختلف عن نكهة إدراك الماديات … وأن هذه الطبيعة الذهنية للشيء ، مثل هندسته في المكان وموقعه في الزمان ، والمفاهيم التي تحدد شكله ولونه وسلوكه ، ذات وجود حقيقي يمكن إدراكه ، والطبيعة الموحدة لجميع الموجودات الذهنية تسمى بالوجود الذهني ، وهذه الطبيعة تماماً كالطبيعة المادية ، ينتمي إليها الكائن ويتماهى معها ويأخذ موقعاً منها فهي تتقدم عليه في وصولها للإدراك ، فمن لا يمكنه الاتصال بعالم الذهن لا يمكنه كشف الهوية الذهنية للأشياء.

عالم الذهن وعالم المادة ، هما الوجودين ، أما صورة الشيء بحد ذاته هي مجرد نقل له يستخدم الوجودين كوساطة للانتقال والحلول ، ولذلك تكون الصور حصولات ، أما وجود الشيء بالنسبة للإدراك هو بالتحديد : انتماؤه لأحد نوعي الوجود أو لكليهما.

على سبيل المثال : صورة الشجرة الحسية هي صورة ناقلة نائبة تحكي عن شيء حقيقي وهو ما نسميه الشجرة، واقعه خارج الذهن ولو أن الصورة نفسها بأبعادها الحسية موجودة في الذهن ، ومفهوم الشجرة الطبيعي البيولوجي هو أيضاً صورة ذهنية للشجرة لكن تحكي عن نوع آخر من طبيعتها وهو : ماهيتها في نظام الكون "ما هي الشجرة بالضبط" ، أي أن صورة الشجرة تكون معقولة ومحسوسة كما تدركها ، و كلاهما حصولين في الذهن منفصلان عن حقيقة الشجرة ناقلان لخبرها.

وأما حقيقة الشجرة الكونية والمادية فكلتاهما وجودين ، لا صورتين، أحدهما يوجد في العالم الموضوعي ، والآخر يوجد في نظام تكوين العالم الموضوعي، والذي يوجد في العالم الموضوعي هو الشجرة بحد ذاتها ويسمى وجودا واقعيا وأما الذي يوجد في نظام تكوين العالم هو تصميم الشجرة الهندسي الكوني بحد ذاتها ويسمى وجودا ذهنيا.

صورة الشجرة الحسية هي انطباعها وفق ما استطاعت حواس الجسد رصده وما استطاع الإدراك كشفه ، أما صورة الشجرة العقلية فهي التعريف العلمي لها مثل القول ( شجرة الكرز طولها كذا وعمرها كذا وتنبت في كذا وتتمي بكذا … ) ، لكن وجود الشجرة المادي الواقعي هو حقيقتها الفعلية في عالم الطبيعة ، الغير مقيدة باستطاعة الحواس وكشف الإدراك، ووجود الشجرة العقلي الذهني هو موقعها الكامن في نظام الكون ، خارج الصورة العقلية المقيدة بما يستطيعه العقل الفردي.

والاتصال بكلا الوجودين يكون بالإدراك المباشر للموضوع المتسم بالوضوح والتخلي عن الأحكام والتأويلات المسبقة، ورغم أن الموضوع تتوسط بينه وبين الإدراك صورة ، إلا أن إدراك هذه الصورة بحد ذاتهادون أحكام وتأويل يجعل الموضوع واضحاً بمقدار مجال اتصاله بالإدراك ، متحرراً من الفهم الشخصي للصورة الناجمة عن اتصاله فيكون في أوضح وابين ما يمكن تحقيقه ، وربما لا يخبر إدراك الصورة الخالص بالكثير ، ولكنه لا يخبر بأية أوهام أو ظنون.

ففي إطار الرؤية الشخصية المبنية على الذاكرة، قد تكون الصورة أو التعريف فاقدين لعنصري "الوضوح" و"الاتصال المباشر بالموضوع" ، لأن ما يتم الالتفات نحوه هو علاقة الصورة بالأفكار المسبقة وليس علاقتها بالكائن الذي تنوب عنه بحد ذاته ، ومن هنا يختلف الناس على تعريف الأشياء مع أن حقائقها لا تتغير، لأنهم يركزون أكثر على التصورات عن الشيء وسد الفجوات المعرفية عنه ولو بافتراض.

وكافة الأحكام والتأويلات الملتصقة بالصور الذهنية بحد ذاتها دون مراعاة دورها في النقل ، تكون على نحو العلم الحصولي والظن التام ، لأن الحقيقة تعلن عن نفسها مباشرة ولا تنتظر أحكامك عليها ...

أما وجود الشجرة أو الشيء وجوداً ذهنيا فهو حقيقته التكوينية كما يكشفها الإدراك المباشر، خارج الصورة النائبة عنها.

ولكي يكون للشيء مثل هذا الوجود ، يجب أن ينتمي إليه أولاً ويتسم بطبيعته ، فيكون هذا الوجود ، سواء ذهني أو مادي ، أسبق من الشيء ذاته في التحقق ، وأقرب منه إلى إدراك المدرك له.. أي أنك تُدرك عالم الذهن أو عالم المادة أولاً ، وطبيعة خامته وتتعامل معه كمُعطى خالص وموضوع بحد ذاته، ثم يتحقق لك إدراك الكائنات المنتسبة إليه والتي لا توجد باستقلال عنه رغم استقلاله عنها، فهو الوسيط الناقل لها إليك والأقرب إليك منها والمبتدأ في تكوينها ودونه لا يمكن أن تتصل بتلك الكائنات ولا يمكنها حتى الوجود.

فهذا النوع من الإدراك ، هو أن تُدرك الوجود قبل الموجودات ، فتجده أقرب إليك منها ، فإذا تحقق لك ذلك بدأت ترى أن الوجود الأقرب إليك هو الأعم والأشمل والأبين والأقدم ، وهو الذي نسميه "مُطلق الوجود" وهو بوابة العارف إلى الله والتي لا تُفتَح إلا بالصمت عما سواه والتحرر من التقيد بالجزئيات، وتأويل قول الله عز وجل {( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد )}.

فمعرفة الله تحدث أثناء تصفية الرؤية من ما سواه من موضوعات العالم وأجزائه حتى لا يبقى إلا اليقين والحق المبين…

والقصد من كل هذا أن الموجودات في تلك الأنماط الأربعة تكون أقرب للبيان والظهور كلما قل حجم الوساطة بينها وبين الإدراك ، فالحصولين عن الشجرة – صورتها كمادة وكمفهوم – أبعد ما يكونان عن خاصية البيان ولذلك يمكن إلصاق أي تأويل أو تخيل بهما ، أما الوجود الحقيقي للشجرة ماديا وعقليا فهو المنقول إليك عبر الصورة المتحصلة في الذهن ، مع أنه ليس الصورة نفسها ، إذ أن الحقيقة الوجودية للشجرة غائبة بذاتها عنك ، لكن نفس هذه الصورة التي لديك عن الشجرة عندما تزداد صفاء من الأحكام والتأويل تزداد وضوحا وتميل لتكون أقرب ما يمكن أن يحققه الإدراك الخالص للموضوع، والسر في ذلك أن الصورة ضمن محتواها الخالص من التأويل ، تكون غير مقيدة إلا بالوجود نفسه ( الذهني والواقعي ) فتكون هي الأقرب إليك علميا والأكثر بياناً ووضوحاً ، لأنك لا تعرف عن الشجرة أكثر من ما تسمح الصورة به، ولكي تقترب من الحقيقة عليك أن تدرك الصورة مباشرة دون أية تدخلات وحينها سترى أن الصورة محايثة للإدراك، وأن الموضوع خارج الصورة يكشف عن نفسه ضمن شرائطها، ولذلك لابد لعلم العرفان النظري الذي يبحث عن المطلق الأعلى أن يكون موضوعه أقرب وأوضح من جميع تلك السنوخ "الأنماط" الوجودية لأنه أشملُ منها جميعاً بل و-يشكل الوساطة بينها وبين وجودها وإدراكك لها ).

وبناء على هذه الضباطة نجد أن مفهوم الوجود ( الخالص ) لا يحتاج إلى وساطة تبينه وتوضحه للعقل، فإن العقل يدركه من دون أي دخالة من قبل مفهوم آخر ، بينما تجد بقية المفاهيم بحاجة إلى وساطة تبينها وتوضحها للعقل ... وليست هذه الوساطة إلا أحد الوجودين ( الواقعي أو الذهني ) مثل مفهوم الشجر، لا يتعقله الذهن إلا إذا توسط الوجود الذهني، وبدون هذه الوساطة لا يتعقل هذا المفهوم.

( أي : مفهوم الشجر الحصولي موجود ذهنيا، ولذلك يحتاج أولا أن يوجد في ضمن العالم الذهني وتنطبق عليه مقولاته ويتخذ هوية ذهنية التكوين قبل أن ينتمي إلى عالم الذهن ، وهذا يعني أن الطبيعة الذهنية أو الوجود الذهني كمعطى إدراكي هو الحقيقة وراء صورة الشجرة الذهنية ، وأن نسبة هذه الصورة إلى الوجود الذهني كنسبة أوراق الشجر وزهورها إلى الشجر نفسه , فيكون وجود الشجرة الذهني سابقا على صورة الشجرة ويكون الوسيط لتحقق وجودها ولإدراكها )

إذ لا يحضر مفهوم الشجر إلى الذهن إلا بعد توسط الوجود الذهني ( أي تحقيق الشجر للحضور نحو الإدراك ، وهذا الحضور حالة وجدانية معرفية فائقة يمكن إدراكها مباشرة وباختبار ذاتي صريح ... إن حالة "الحضور" هذه ، كقيمة يدركها الإدراك ، يعبر عنها في العرفان النظري بـ "الوجود" – أو مُطلَق الوجود – فهي تتوسط بين أي شيء وبين كونه موجوداً ، لأن إدراك وجود ذات الشيء ما هو إلا إدراك نسبتها نحو قيمة الحضور وحلول هذه القيمة المُطلقة فيها ، لذلك يكون الوجود أو مطلق الوجود ، بمعنى الحضور ، هو أعلى موضوع على الإطلاق ، خارجاً من كل الأنساق ومهيمناً عليها، فلا نسق يقيد حضرته، ورغم ذلك فجميع الأنساق وحتى الصور والموجودات الواقعية لا تأخذ صبغتها ووجودها وهويتها إلا به مباشرة، وهذه الحالة الإدراكية الفريدة تأتي كإشعاع جمالي للإنسان في أحوال معينة يرغب فيها بالتحرر من قيد العالم والخلاص ، أو حتى يرغب فيها بالانسجام المُطلَق مع هذا العالم وإدراكه لجماله الفائق للأوصاف ، ولكن العرفان النظري يريد أن يتخذ هذه الحالة بوابة نحو المعرفة الحقة وهي العرفان بجميل الله بالرغبة إليه دون سواه محققة بالسعي الدؤوب نحو معرفته، ويبني العرفان لأجلها منهجاً نظرياً وعملياً ويصف النظام الوجودي المكتشف من خلالها ويوحده مع البرهان والعقلانية وحتى التجريب ، توحيد الأعم مع الأخص والكلي مع الجزئي لكن بطبيعة الحال، يكون هنا الوجودُ مُطلق الكلية والعموم ).


من كتاب "دروس عرفانية في تحرير تمهيد القواعد" للسيد كمال الحيدري يحفظه الله..

الكلام بين قوسين شرح إضافي لأن الكتاب للذين تجاوزوا مراحل معينة في العرفان النظري والفلسفة.

إرسال تعليق

0 تعليقات