Advertisement

Main Ad

المثالية والإدراك كمنهج لمعرفة العالم - كيف تصل إلى شمس الحقيقة

نريد نحن الذوات الواعية التي ترى العالم المحيط بها فهمه ... وفهم موقعها من الوجود، رغبة تتعالى على مجرد التحصيل المعرفي، لتشمل أكثر من ذلك، لتشم أحكام الأخلاق ، وتوجهات ومسالك الحياة، واختيار طريق ... واختيار صديق ، وبيئة، والتعرف إلى الوجود يعرفك قواك فيه، ويجيبك عن سؤالك الأهم : "لماذا أنا موجود على هذه الأرض؟ لماذا أنا موجود في هذا العالم؟"
الإنسان الحي يرفض الأجوبة المتساهلة جداً والكسولة، ويأبى ضميره إلا أن يكدح كدحاً إلى الوصول إلى معرفة حقيقية بما يجري دون أدنى خوف أو ضعف ... ولما الخوف وأنت تطلب وجه الحق ...

عادة يكون المثاليون والماديون كلاهما منطلقين من "المعرفة الموضوعية للعالم" أي أن معاني الأشياء وتعريفاتها تأخذ مواقعها في الذاكرة والعلم عندهم من "الوجود النظري للأشياء" فالتفاحة هي نوع من النبات، والنبات نوع من الأحياء، والأحياء التي نعرفها نوع من المخلوقات الأرضية والمخلوقات الأرضية نوع من كائنات الكون التي لا تنتهي. وأما لون التفاح، رائحته، شكله، طعمه، والأصوات التي تصدر عن تحريك كتلته فهذه كلها غير معبرة عن حقيقة التفاح من حيث هو نبات حي كوني الوجود. إنها أعراض خاصة ويقال إن التفاح يمكن تصوره باختلاف تلك الخصائص دون مشكلة، ترى تفاحة بلون أحمر أو أزرق أو حتى برتقالي، ستبقى تفاحة، وكذلك حين تراها بلون أخضر، وسواء كانت رائحتها جميلة ومفعمة كما نعرفها أو كانت تشبه رائحة البانزين أو الخشب، ستبقى تفاحة، وحتى ولو اختلف طعمها أو ملمسها فستبقى كذلك.

ذلك ما يدعونه ب"الوجود المادي الجوهري" للتفاحة أو للكائن المرصود، بحيث أن الشيء المُدرك موجود بهذا الشكل المرصود وبهذه الخصائص المادية على نحو مستقل عن صفاته الحسية الثانوية "اللون والطعم والرائحة والذوق والشكل والملمس والمحددات الزمكانية النسبية". 

بحسب ما يورده الماديون لا مشكلة في تغير الأعراض، التفاح هو مجموع الأعراض معاً تلك التي تخص التفاحة دون غيرها.
بحسب المثالية فهناك خصائص جوهرية تميز التفاح عن الموز والحيوانات، فهو في النهاية نبات، يخرج من الأرض، ثم يكون ثمر شجرة، وهذا يميزه عن النباتات الأخرى، ثم لهذه الثمار وظائف معينة تمارسها لا يمكن للثمار الأخرى أن تمارسها، بمعنى معين فهناك "ماهية للتفاح" مستقلة عن التمايز الحسي، وبمجرد انتفاء هذه الشروط التي تتعلق بماهية التفاح دون غيرها من الماهيات، فإن التفاح لا يعود تفاحاً بعد ذلك.




كلا الرؤيتين المادية والعقلية هما رؤيتين تصفان المحسوسات من حيث "علاقاتها الافتراضية" لا من حيث "وجودها الحسي نفسه".. سواء وصفوا هذه العلاقات بأنها "وجود داخلي قائم بذاته والمادة مظهر له "المثاليين" أو أنها وجود اعتباري يعرُض على المواد دون أن يكون له استقلال بذاته "المذهب المادي".

مثالية بيركلي "المثالية التفاعلية المدركة" :

"أن تكون الأشياء التي أراها بعيني أو ألمسها بيدي موجودة حقاً فذلك ما لن أشك فيه، وهذا أقل الأمور، إنما أنكر ما يسميه الفلاسفة جوهراً مادياً أو جسمانياً".
"وجود الشيء هو أن يكونَ مُدرَكاً أو مدرِكاً ...".



كان بيركلي سابقاً للزمن الذي عرفناه فيه، وكانت رؤيته غريبة ولها شعور حميمي للوعي حين يدركها ... ففكرة الوجود المادي المستقل بذاته والذي لا يعتمد إلا على عنصره المادي، وهي المبدأ الذي يسمى ب"الجوهر المادي" كانت فكرة تفتقر إلى الدليل من حيث المبدأ أصلاً...

فلا يمكن إثبات الوجود المادي معرفياً على نحو أنه مستقل وذاتي الوجود.

يعتمد العلم التجريبي المعاصر في نهاية المطاف على مبادئ حسية بسيطة في رؤيته، ولكنه يبني عليها نظريات هائلة ، ويتعامل معها على نحو راسخ جداً، وتنتشر الرؤية المعاصرة للعلوم على أنها توفر معرفة صادقة على نحو شبه مطلق عن الواقع، وأنها المصدر الوحيد للتعرف على الوجود.

الصدق في رؤية العلوم التجريبية رهين لكون القضية تخبر عن واقعة محددة يكن التحقق منها، وهذا التحقق هو تحقق حسي مشروط بالتكرار والموضوعية ، بمعنى أن وجود الشيء هو "أن يدركه جميع الراصدين" والصدق هو تحقق هذا الشرط، وهذا يعني أن المعرفة العلمية التجريبية هي نوع خاص ومشروط للمعرفة الأعم والمعرفة الحسية ، بمعنى أن وجود المادة متوقف على "عنصر الإدراك مع موافقة جميع المدركين على نفس نتائجهم" وليس يمكن التعرف على المادة وراء ذلك الشرط، وبالتالي لا يمكن التحقق من وجودها دون إدراك هذا الوجود.
هذا يجعل المادة في علاقة تعاكسية معرفياً بين الإدراك وبين الموضوع المدرَك، إذ كيف يمكن التحقق منها وأنت لا ترى ولا تسمع ولا تشم ولا تلمس ولا تتذوق ؟ فهل عرفت المادة بذاتها أم عرفت المادة بإدراكك؟ وهل ما عرفته نتيج الشيء الغائب الذي تسميه بالمادة أم نتيج إدراكك ووجودك الذاتي ؟ 

من المؤكد أن ما ترصده رهين وجودك، لأنك تستخدم حواسك في الرصد .. أي أن وجودك عنصر فاعل في الرصد، وبالتالي في تكوين العالم الذي تعرفه، ولكن هل أنت حقاً ترصد العالم كنوع من التفاعل السلبي من جهتك والإيجابي من جهته ؟ أي أنه غير تابع لقوتك وإرادتك واختيارك ؟ أم أنك ترصد فاعليتك بالنسبة للعالم ، أم ماذا بالضبط ؟

هذه أسئلة تنتمي لفئة "الأسئلة الكُبرى" الوجودية، التي يمرون عليها مرور الكرام في هذا العصر، الذي غلبته المادة والخدمات والسعي إلى الرفاه المادي ونسيان البحث عن المعنى والقصد من الوجود...

لكن هناك شجعان في كل زمن، يخرجون ليصرحوا ببيانات تدوي في الأرض كدوي عاصفة من الرعد، وهذا الأمر يخيف الناس والسلطات الحاكمة على حد سواء، وكان باركلي واحداً من أولئك الشجعان ...

إن الجوهر المادي بحسب شروح بيركلي، ما هو إلا نوع من التنظير العقلي لشيء غير موجود، أو هو نوع من الوهم ... ذلك بأن التفاح نفسه حين لا يكون بينك وبينه أي رصد حسي، فحين تفقد قدرتك على رؤيته أو على سماع صوت حركته ، ثم على تذوقه وشمه ولمسه، فإن التفاح يغدو بالنسبة لك غير موجود، فهذه المشاعر المادية تجاهه لم تكن مجرد وصول لأعراضه، بل كانت صلة الوصل الوحيدة بينك وبينه، أي أن حقيقة المادة إنما هي تلك المشاعر وكل ما تعتقده عنها بني على هذه الحقيقة...

فحين تفقد الصلة بينك وبين التفاح "الوجود المادي" فإنك لا تقرر هل أنت الذي فقدت اتصالك أم هو الذي لم يعد موجوداً، بمعنى آخر : أنت والتفاح بينكما صلة وصل تفاعلية، وما تسميه ب"التفاح" هو مجرد صلة الوصل، وأنت لا تعرف شيئاً عن حقيقة العالم الذي ينبعث منه تلك الصور.

لذلك فإن الأشياء التي لا تشاهدها حسياً ولكنها مادية وموجودة حسب اعتقادك ستعتمد على مشاهدة الآخرين ثم إخبارهم لك، أي أنك ستحتاج إلى سلطة معرفية تمارس عليك لكي تتصل بالمعاني، وهذا يجعل المعاني مجرد رموز ونظريات، تماماً كالإلكترون والبروتون والخلية الحية وكافة الكائنات الآخرى التي لا يمكنك الإحساس بها دون توسيط، وكذلك هو الحال مع معرفتك بالدول والشعوب الأخرى وحتى ببلادك التي لا ترصدها "هنا والآن" وحتى بمنزلك حين لا ترصده "هنا والآن" وحتى بالآخرين المجاورين لك، أو الأحداث التي تسمع عنها حسياً، كلها أنت لا ترصدها "هنا والآن" وإنما تُنقَل إليك نقلاً عبر سلطات أو أشخاص أو مصادر تثق بها.

وهذا يعني أن المعرفة البشرية المعاصرة لك حالياً عن العالم ، تجعلك تفكر كما لو كنت أنت العالم نفسه وتتماهى مع الأحداث التي تسمع بها وتتخيل عواطف من يعيشونها أو تتخيل ما يرونه وتتخيل ما يحدث حالياً في العالم وكل هذا إنما يجول في ذهنك، لأن العالم الحقيقي معزول عنك بقصر بسبب ضعف الحواس وتحددها بمجال رصدي معين زمنياً ومكانياً، وإنما تنطلق من هذا المجال الضيق، الذي لا يعدو بضع إنشات شاشة الإدراك مع مركزين جانبيين لتلقي الصوت، لتبني عليها عالماً كاملاً لا حدود له أفقاً واتساعاً.

هل تم غسيل دماغك وبرمجة معتقداتك لتفكر بهذه الطريقة النظرية جداً واللاواقعية ؟ هذا احتمال وارد، ولكن الأكيد أنك اخترت ذلك ولم تُرغَم عليه على نحو تام ...

إن التفاحة بالنسبة لك هي معرفتك الحسية عنها، فهي الانطباعات نفسها التي ترصدها، وليس هناك وراء ذلك تفاح، أي أن الانطباع نفسه هو الوجود المادي الذي تعرفه ... أي أن "رؤيتك للصورة" هي معرفتك بها، أي أن الوجود بالنسبة لك هو العالم الذي يغدو معروفاً، هو المعرفة نفسها وليس شيئاً آخر، لكن هذه المعرفة تكون مرة مباشرة على شكل انطباعات ومرة غير ذلك تكون نظرية جداً ومغرقة في التفكير.

ما يسمى بالكائن المادي، هو معادل معنوياً تماماً للانطباعات بما هي كذلك، وما يقع وراء الانطباعات يبقى غيباً بالنسبة لك ، ويبقى اتباع الظن هو سبيل البشر الوحيد لمعرفته، والنموذج العلمي لتعريف الأشياء ما هو إلا شرح وتحليل لتركيبة العلاقات بين الانطباعات، وليس لحقيقتها.

إذن الجوهر المادي وفق بيركلي، يستحيل إلى مجموعة الاتصالات الحسية، فهو موجود كنوع من المعرفة وليس كنوع من "الحقيقة ذاتية الوجود" وصحيح أن المواد تؤثر على الجسد والعقل ولكن ذلك التأثير رهين تلك الاتصالات أيضاً، فالمعرفة أصلاً هي تفاعل وليست تحصيلاً، والتحصيل النظري مجرد نوع مقصوص من المعرفة على نحوها الفعلي.


يجدر الانتباه إلى أن الدماغ نفسه ليس استثناءً من هذه القاعدة التي تتحكم بالمعرفة بأسرها، فأنت تعرف دماغك من خلال الإخباريات وفي أحسن الأحوال تعرف الدماغ البشري حين ترى الجثث وهي تتشرح أو ترى عملية جراحية لشخص في دماغه، وبناء على التشريح والوصف العلمي المعاصر تفهم أن الدماغ كعضو مادي يؤثر على عملية إدراكك، إلا أن معرفتك بهذا العضو المادي هي معرفة بصورة إدراكية عن الدماغ، ولكن ما هو الدماغ "خارج الصورة المدركة"؟ 

لا أحد يعلم على وجه اليقين، وإذا علم أحد فلن يسعه نقل الحقيقة إليك مباشرة ... لأنك إذا رغبت بمعرفة الحقيقة، عليك أن تتفاعل وتتصل مع الحقيقة لا مع الأخبار التي تتحدث عنها عنها.

فكر بطريقة مجدية لذلك ...

المادة هي نوع من تفاعلات تحدث بين الذات المدرِكة والوجود المدرَك ...

الأشياء المادية هي انطباعات تتراكب في علاقات في وجود ناظم لهيكلها.

انتظرونا في تدوينة جديدة للسير نحو فهم أعمق ... تحياتي وسلام الله.

إرسال تعليق

0 تعليقات