إن كلاً من ميكانيك الكم والديجافو أو الاتصال الحدسي الفائق ، يقترنان ببعضهما في أكثر من مقام وظاهرة ، ولكي تدرك يا قارئي العزيز هذا الموضوع على حقيقته ودون التباس وتلاعب بالمصطلحات، ستمر معي في رحلة صعبة قليلاً بين حقائق ميكانيك الكموم، لكي يتحرر إدراكك وتكشف الأمر بصورة كاملة ثم تحكم دون تتبع آراء أشخاص آخرين …
كمقدمة وتمهيد لما تخبر به ميكانيك الكموم حول حقيقة الواقع، يجب أن تعلم بصفتك تبحث عن الصورة الكبرى والكلية، أنه ما من شيء جاءت به نظرية الكموم لا يستطيع العقل إدراكه واستنتاجه دون معونة من الأجهزة والتجريب، ولكن عملية الخيال تتطلب تركيزاً عالياً جداً وبحثاً طويلاً ومضنياً وهي أمور لا يقوى عليها أغلب الناس، مع أن كافة مقدمات ونتائج ميكانيكا الكم "من الناحية الكلية وليس التفاصيل الفنية" موجودة في عمق فلسفة الطبيعة الهيلينية (فيزياء اليونان).
وستدرك الآن ما أخبرك به … لكن يجب أن نكون منصفين ونقول إن لهذا الموضوع ناحيتين إجابيتين، الأولى أن ميكانيك الكم لم تعد ، ولم تكن، مجرد تصورات عن الواقع لا دليل عليها إلا استقراءات العينات، أي هي ليست نظرية، إنها هيكل علمي، وثبوته ليس معتمداً بالكامل على التجريب.
الناحية الإجابية الثانية، أن نتائج التجريب في عوالم الكموم وفرت قاعدة بيانات معلوماتية كُبرى للباحثين عن الحقيقة.
كيف يتشكل الزمن المحلي : التركيب والتعقيد … يبدأ من تفاعلات الكموم :
تشرح ميكانيك الكم كيف يتكون العالم والزمن من أحداث كمومية أبسطية تتعاقب وتتراكب لنشأة الواقع المحلي الموضوعي المعقد، وتلك الأحداث الكمومية في جوهرها لا تخضع لأسباب وعوامل فيزيائية تحتم عليها السير في سلوكيات معينة، أي أن لحظة انخلاق الجسيم من الموجة الكمومية هي لحظة ليس لها سبب فيزيائي محلي، وإنما سببتها موجة كمومية أخرى، وأما تفاعلات الموجات الكمومية بينها وبين بعضها البعض، فتبدو للإنسان المادي "عديمة الاسباب" وهذا سر شهرة وانتشار مبدأ الفوضى الأصيل (أصالة الارتياب في تفاعلات الوجود) وأنها تحدث هكذا دون عوامل مؤدية للتراكبات على نحو معين وفي زمن محدد. بينما تبدو هذه التفاعلات لمن يدرك الأمور على حقيقتها الجوهرية، قد نشأت من نظام سببيات أعلى من الفيزياء نفسها وهو نظام تجريدي عن الواقع، أي، ليس له بعد مادي وقيم فيزيائية معروفة ، وهكذا نظام مجرد، يشكل العلل العالية لانخلاق الزمن الموضوعي، ماذا يكون ؟ يجيب علم الكينياء، كما أجاب قبله علم الأنطولوجيا وعلم فيزيقا الطبيعيات، هذه العلل التي تحدث هذا السلوك الموجي المؤدي لانخلاق الزمن الموضوعي، يتم فهمها بالإدراك وحده ولا يمكن إدراكها بالأجهزة والراصدات أو بالتفكر والمعادلات، لأن تلك الأدوات تقتصر على فهم الواقع المخلوق من عوامل التجريد، لكن المجردات ليس لها وجود فيزيائي بحد ذاتها، وهذا ما تخبره الكموم … إن إدراك العلل العالية للوجود الفيزيائي يشرح تماماً أن هذا الوجود الموضوعي، هو في الحقيقة تفاعل لأربعة علل وجودية غير مادية ، وهي العلة الفاعلة أو "الطاقة Energy Cuasition" والعلة الهيكلية أو "الماهية Morphic cuasition" والعلة التفاعلية التي تجمع بين الطاقة المجردة والماهيات المجردة وهي ما يسمى بالموجة الإرشادية، وأخيراً، يوجد العلة وراء التفاعل نفسه وهي "الحيوية" … قوة الحياة تدفع بالطاقة للتوجه في قوالب ماهوية معينة، وهذا يحدث في عوالم التجريد، بعد ذلك تتوجه الطاقة للتكاثف أو بالأدق "التقييد والتموضع المحلي" أكثر فأكثر إلى أن تنشأ عوالم الزمن المحلي ومنها الكون الذي تعيش به. وبما أنك ذات حية فيها وعي ووجود خلاق، يمكنك أن تتحكم بأطراف هذه المعادلة لتنشئ الزمن من جديد.
وكما يذكر السيد باسل الطائي في أحد إصداراته، ميكانيك الكم تعني أن الواقع في جوهره لا حتمي الوقوع، وأن معرفة المستقبل تخضع لعوامل إحصائية بحتة، فهناك شيء محتمل جداً، بنسبة 99% مثلاً، وهناك شيء احتماله يقارب الصفر، مثلاً عندما تحرق فتيل شمعة بقداحة، من المعروف أنك لا تشك باحتراق الفتيل وإضاءة الشمعة في ظروف الغرفة المعيشية العادية، ولكن ميكانيك الكم يخبرك أن هذا الاحتراق غير حتمي الوقوع من جهتين : من جهة البيئة التآثرية التي تتراكب فيها عناصر التفعيل، ومن جهة فاعلية العناصر نفسها، أي أنك لا تضمن عاملين للاحتراق :
- عامل ثبوت بيئة غرفة المعيشة وعدم وجود عوامل دخيلة على التفاعل، تنبعث مثلاً ن الفضاء الكمومي بينك وبين الفتيل، فهذا الأمر غير محقق على نحو اليقين، وكذلك ثبوت مكونات الشمعة وشعاع تفاعلها مع الطاقة الحارقة للفتيل، ثبوت تراتب ذريرات الفتيل، ثبوت فاعلية والنار نفسها وتراتبها الزمني، كل ذلك يستحيل إقامة البرهان عليه ولذلك يخضع لمبدأ الاحتمالات.
- عامل تكوينية التفاعلات نفسها، فالالكترون مثلاً لا يُطلَب منه أن يتصرف وفق سلوك معين هكذا على مر العصور، وليس من الضروري أن تكون تفاعلاته الكمومية ثبوتة، أي ليس هناك ما يحدد على نحو اليقين كتلته أو فضاء انتشاره أو حتى الطاقة التي يحملها.
نحن نقول إن الالكترون أو أي جسيم كمومي، يخضع لأربعة مستويات من محددات نطاقات التفاعل الاحتمالي، خارج هذه المستويات لا وجود له ككائن تفاعلي، وإنما محض التجريد، وداخلها يمكنه التصرف بكافة الاشكال الممكنة، وليس من الممكن التنبؤ بمصيره أو فعله، ولأشرح ذلك بشكل مفصل ، تابع معي :
يوجد لدينا أربعة معايير ركائزية لتعريف معنى وموقع الكائن الفيزيائي ضمن الزمن المحلي، هذه المعايير تحدد علاقة الكائن بالكون، فالكائن الزمني البسيط (كالإلكترون وجسيمات الكم) وهو في حالته الموضوعية ،وكذلك عندما يكون في حالته الكمومية سيتصرف تبعاً لهكذا معايير، ولكن ستختلف طريقة تعبيرات تلك المعايير للإلكترون عن نفسه بالنسبة للكون بين حالته الكمومية ( حين يكون موجة ) وحالته المادية ( بعد أن تنهار الموجة ) بحيث أنك ستكون أمام عالمين منفصلين تاماً، واحد مجرد، والآخر مادي مقيد :
1.. دالة الموجة : مبدئياً ، ليس هناك جسم بعينه له تعريف فيزيائي موضوعي إذا تتبعت وجوده العميق في عالم الكموم، ولكن له تعريف تجريدي مقيد ببعض القيود، وتجريدي هنا تساوي مصطلح "موجة" في ميكانيك الكم، فالموجة الكمومية تجريد ليس له وجود مادي حقيقي، لأن المادة تحتاج إلى بعض الثبات والقيود، وأهم شيء هو أنها "محلية".
فمن حيث الكائنات الأولية : ليس هناك إلكترون بحالة الموجة، يمكن إيجاده في مكان محدد وزمان محدد، فالموجة تنتشر في "نطاق" وليس في "موضع محلي" .. أي أنه لا وجود للمحلية بالنسبة للالكترون، ويمكن القول إنه شيء "معدوم فيزيائياً وموضوعياً" وموجود على نحو خفي وباطني، وكل ما نعرفه به عنه هو أن له قيماً رقمية تحدد بعض معالمه التفاعلية مع حيز الوجود الموضوعي، فكل ما يمكن الاستدلال به على شيء خفي يسمى الإلكترون، هو تأثيراته على الكائنات الموضوعية الأخرى، وهذه التأثيرات هي التي تجعله يمتلك تعريفاً محدداً يفصله عن بقية الإلكترونات والجسيمات، وبعبارة أدق : دون وجود كائنات موضوعية، وبوجود الكترون وحيد في فضاء أعزل، ليس هناك أي قيمة فيزيائية سيتخذها هذا الالكترون، فهو أشبه بالهيولى المادية، أو أنه فعلياً لا يخضع لمنطق هذا العالم وإنما لمنطق عوالم أعلى وأكثر عزة وتجريداً.
وكذلك الموضوع بالنسبة للكائنات التركيبية : حيث أنك وبمحاولتك تعريف طاولة أو صحن فضائي تعريفاً كمومياً، سترده إلى عناصره الكمومية وعلاقاتها، وهي أيضاً مثل ذلك الإلكترون، ليست كائنات موضوعية، ولكنها تؤثر موضوعياً بشكل مقيد بنطاق بيئي له حدود، وهذا التقييد البيئي الممارس على تأثير الكموم والمنعكس في موضوع ما، يسمح لنا بمعاملتها وكأنها هي هذا الموضوع نفسه، فالجسيمات الكمية المكونة للطاولة التي أمامك، هي في حقيقة الأمر منعزلة عنها، إنها كائنات بسيطة جداً وليس عليها أية قيود، ولكن تأثيرها على نطاق أرصادك يتم توجيهه بطريقة ما ليتراكب مع بعضه بشكل تفاعلي، ثم يتراكب مع بيئتك التفاعلية وينشئ ما تسميه "طاولة" وهذا الكيان البيئي الجديد، يتفاعل مع أجهزة الرصد خاصتك ونتيجة لذلك ترى الطاولة ثابتة وصلبة صلدة قاسية.. أما في حقيقة الأمر، الطاولة هي موجات تفاعلية ليس لها وجود محلي ثابت، لكن "تأثيرها" على موجات أخرى وتضارب هذين التأثيرين، ينشئ ما تراه من كائن محلي ثابت وله تعريف فيزيائي مستقر وتسميه بالطاولة، وقبل ذلك ((قبل تداخل الأمواج التعاكسي)) لا وجود لل"هنا والآن" للطاولة التي تراها في عالم المحل.
أي أن الزمن ينشأ فعلياً بعد حادثة التفاعل بين طاقات الأمواج وليس قبلها، قبلها لا يوجد زمن كالذي تعرفه وتتعامل معه، فكافة الأحداث متساوية في وقوعها بنفس القدر دون تعاقب في الزمان ودون تراتب في المكان … فالزمان الكمومي ليس محلياً وإنما منطقياً تجريدياً وأشبه بالمصفوفات وإذن ، يؤخذ تعريف الدالة الموجية للإالكترون بمعرفة "النطاق الذي سيؤثر به على نحو خاص"، ويؤخذ تعريف الكيان الفيزيائي المركب من الكموم بمعرفة "البيئة التي يتفاعل معها من جهة ، ومقارعتها بتعريفات الكموم الداخلة في تركيب كيانه من جهة أخرى".
فإذا عرفتَ النطاق الممكن للتفاعلات، تعرف دالة الموجة للجسيم بقياسها إلى ذلك النطاق، وإذا عرفت دالة الجسيم ضمن بيئة ما تستطيع احتساب دوال الجسيمات المكونة لنفس الكيان الذي ينتمي له هذا الجسيم ضمن هذه البيئة فتمتلك تعريفاً لشيء مثل الطاولة أو الكرسي أو حبة المسك … ليس هناك قيمة فيزيائية موضوعية للأشياء في مستوى وجودها العميق ما وراء الأثر المرصود.
وإن هذا ليجعلك تدرك على الفور أن سببية الأحداث في عالم الكموم، لا يمكن أصلاً أن تكون سببية حتمية محلية، وهنا تكمن القضية، مبدأ اللاتحديد لتوزيعات احتمالات التفاعلات الكمومية، هو مبدأ لا يمكن أصلاً إلا أن يكون المبدأ الحاكم الوحيد للمستوى دون الذري، لأن الكموم هي كائنات شديدة البساطة، وتقع في موقع ليس يسبقها فيه كائنات أخرى، لنقل، إن للعالَم المحلي أسباباً في انوجاده، وهذه الأسباب هي من ضمن عالم الكموم، ولكن عالم الكموم بهذا يخرج عن كونه محلياً، وبنفس الوقت فهو يتحرك وبالتالي يحتاج إلى محركات وعلل في انبعاث حركته على هذا النحو، وبما أنك دخلت في نطاق غير فيزيائي وغير مادي، إذن لن تجدي معادلات الفيزياء المحلية نفعاً في فهم ذلك السلوك من ناحيتين : من ناحية سبب الحركة الزمنية الكمومية ومن ناحية طبيعتها اللامحلية والتجريدية …
فسبب حركة الكموم ليس محلياً، لأن المحليات تنخلق بعد تراكب الكموم، فالكائنات المحلية في حقيقتها أكثر تقييداً من الكائنات الكمومية ولذلك تحتاج إلى الكموم لتنوجد في واقعنا، وطبيعة حركة الكموم كذلك لا محلية، لأن الكموم غير منتشرة بشكل تعاقبي، ففي عالم الكموم، لا معنى للقول : هذا الالكترون، وذاك البروتون، وهذه البوزيترونات، لأنها جميعاً متحدة معاً في كيان لا تمايز فيه ولا تركيب، لأنه ليس له أجزاء، وتحدث التكسرات في عالمنا فقط ولسبب مجهود، يتكسر الكائن الموحد ويتبعثر إلى أجزاء لا نهائية ومنها تأخذ الأجسام معانيها، كأنك بها مرايا لذاك الكيان، تحطمت بفعل فاعل وأصبح شعاع الكيان المنطلق نحوها يعكس صورة زيفية متكسرة لحقيقته، ولسبب ما نحن وأنت نرصد هذه الصورة التكسرية ولا ننفذ إلى الحقيقة مباشرة.
2. نطاق احتمالات الموجة :
لديك الآن جسيم أولي، الجسيم X، له دالة موجية محددة بتعريف، ووضعته في بيئة اختبار، ولتكن مصادماً مثلاً، حين يعبر هذا الجسيم بيئة المصادم، لا يمكنك أن تحدد طريق النفق الذي سيعبره بدقة نهائية، ولا أن تحدد مكان عبوره في زمن معين بدقة نهائية، ولكنك تستطيع تحديد معالم هذا العبور فقط. ينطبق الأمر على كل شيء في تفاعلات الكموم مع عالمنا الحالي، هذه التفاعلات تأتي من عوالم مجردة عن المادة، ولذلك قوتها لا تتحدد بنقاط معينة في عالمنا وإنما ب"نطاقات".
مثلاً ، تعرف أن الإلكترون يوجد حول نواة الذرة في نطاقات معينة، ولا ينتقل من نطاق إلى آخر بشكل لا حتمي، ويجب عليه لو أراد الانتقال، أن يحقق شروط تلك النطاقات التي سيشغرها، فإن كان في النطاق الأول بعد النواة، سيتحتم عليه أن "يحرر" طاقة من مكنونته الداخلية سواء بالحرارة أو الضياء حتى يدخل في نطاق يسمح بالابتعاد أكثر عن النواة، لأنها تجذب مقاطعة هذا النطاق بقوة أدنى من النطاق السابق، فهذا النطاق له عدد كمومي رئيس يسمى بالرمز N ، وهو يعبر عن حتمية لا يتغير سلوك الالكترون ضمنها في الظروف القياسية، وهناك ثلاثة أعداد كمومية أخرى تعبر عن هذه النطاقات التي تأسر حركة الإلكترون التفاعلية ضمنها وتعطي استقراراً للعالم نوعاً ما، وفي هذه الصورة توضيح لذلك :
فما تراه الآن، هو تعبير إقليدي عن نطاقات التفاعل الكمومي للإلكترون ضمن الذرة، وهذا الذي تراه من دواوير ودوامات ومغازل، ليس شيئاً يتحرك عبره الإلكترون، إنه الإلكترون نفسه ! وهو أيضاً ليس شيئاً يمكن فهمه تماماً بالهندسة الإقليدية، لكن هذا للتبسيط فقط، فهذه أشبه ب"رموز السحر وتفاعلات الكموم مجردة وجنّية تماماً كالتي تشير إليها تلك الرموز".
في نطاقات تفاعلات الموجة الكمومية المقترنة بذرة ما، فإنها يجب أن تأخذ تعريفاً محدد المعالم بشكل عمومي، فالموجة مثلاً منتشرة عبر نطاق مدار الإلكرتون، فهي "محتملة" الرصد في كل نقطة من هذا النطاق بنفس الوقت، ولنفس الراصدين، ولكنها مستحيلة الرصد في خارج أعداد الكموم في الظروف القياسية، في نفس الوقت الذي تتحدد فيه تلك الأعداد، وبالنسبة لنفس الراصدين. وطبعاً ، لم يحدث أن قامت تجربة قياس لحقيقة ما يجري في نطاقات الفضاء الذري للذرة الواحدة، ولكن اكتشاف ذلك سهل نسبياً، ولأن الإلكترون والكموم يتصرف بحتمية ضمن نطاقات في التفاعلات فوق الذرية فقد أمكن أن تشتق هذه الأعداد ودلالاتها المعنوية من ملاحظة السلوكيات التي تصف تفاعل الكموم مع البيئة القابلة للقياس والرصد.
على سبيل المثال، حينما يتم بعث حزمة من الإلكترونات من جهاز تسليط معين إلى لوح له عدة ثقوب أو شقوق { تجربة شقي يونغ }، ووراء اللوح ثمة أجهزة إسقاط وقياس، فإنه وحسب الميكانيكا الكلاسيكية فتسليط طاقة كمومية عبر أحد الثقوب لا يجب أن يسفر عنه وجود الكترونات في المناطق المناظرة لثقوب أخرى ، ويجب أن يصل الإلكترون من منطلقه إلى مستقره بشكل مفهوم محلياً، دون أن يقطع المكان دون المرور فيه (وبالتالي لابد من سبب محلي لكل حركة من حركات الإلكترون)، وهذا وفقاً لمعادلات الحركة المحلية، التي تسببها طاقته الحركية أثناء تفاعلها مع البيئة المستهدفة. ولكن هذا ليس هو الحال، لأنك لحظة قياس تلك المناطق المختلفة التي لم تسلط عليها اللإلكترون، تجد بأنه موجود فيها تماماً كوجوده في المنطقة المناظرة للثقب الذي عبره، مع أن كمية الإلكترونات لم تزد شيئاً والبيئة فقط معزولة عن الخارج، فليس هناك مؤثرات خارجية حرّفت حركة سيل الإلكترونات.
ولكن لحظة القياس تلك كانت كفيلة بإعادة ترتيب مواقع الأثر الناتج عن التآثر بين الموجة الكمومية وبين البيئة التفاعلية، أي أن الموجة ليس لها خط تفاعلي موضوعي ومحلي، فهي قادرة على الانبعاث في أي مكان والتأثير في أي شيء بغض النظر عن مواطن الانطلاق وعن البيئة التي تعبرها، بعبارة أكثر تحرياً للدقّة : لا سبب يدعو إلى تخيل أن الموجة أصلاً عبرت بالطريق الذي كانت ستعبره الكائنات الفيزيائية التي تتعامل معها عادة، إنها أصلاً وبشكل ما، تعالت على الزمن الموضوعي واتخذت سبيلاً آخر للتأثير. ولكن لماذا لا تقوم هذه الموجة بإحداث فوضى في العالم المرصود خارج نطاق التجريب، لماذا كل شيء هنا يحدث بالتعاقب ويوجد مسافات تفصل الأحداث ؟ لما لا نرى الخوارق للمكان وللتعاقب الزمني ؟
من الناحية الوظيفية والموضوعية، يخبرنا سلوك الموجات أن التفاعلات الكمومية، رغم كونها تجريدية ، إلا أنها مقيدة بنطاق البيئة التي تتفاعل معها، لذلك تسير بمسارات محددة، فمثلاً :
الموجة في تجربة شقوق يونغ كان من الممكن أن تتصرف على نحو لاحتمي في فضاء التفاعل نفسه، لكنها لن تقوم بالتأثير في الحرب العالمية الثانية لمجرد أنها لا حتمية بالنسبة لبيئة الاختبار في تجربة الشقين، والحقيقة أن سلوكها تم تقييده ليكون حراً ضمن نطاق بيئتها التفاعلية فقط، بمعنىً آخر، إن منطلق تأثير الموجة الكمومية في الموضع المحلي الذي شغرته من البيئة، يعطيها فضاء احتمالات معين للسلوك، وهي حرة ضمن فضاء هذا النطاق الاحتمالي فقط.
هذا النطاق الاحتمالي تكون فيه الموجة فعلياً لا حتمية، ورصدها يعطي نتائج ارتيابية وغير قابلة للتأكيد، لماذا ؟ لأنه لا يوجد سبب فيزيائي يمكن أن يجعل الموجة الكمومية التي تحتمل عدة تحققات، (آلاف أو ملايين التحققات) ، أن تسلك تحققاً معيناً منها فقط، ذلك بأن الموجة كائن أكثر تجريداً من الفيزياء، والفيزياء أكثر تقييداً من الكموم، والموجة مجردة عن أن تكون متموضعة ومحددة الوجود، وفي اللحظة التي يتحدد فيها وجودها فإنها تصبح "أثراً" ولا تعود تأثيراً وعلّة، لأن التحديد للأرصاد الموضوعية يعني أن الكائن المرصود موضوعي مثلها، وعالم الموضوعيات والمحليات هو عالم الآثار والناتئج المادية لتأثيرات العوالم والمجردات العليا، والكموم هي التي تنشئ الفيزياء وبالتالي لا ينبغي عليك أن تتخيل أن الفيزياء تأثر في عالم الكموم، لأن الحقيقة أن هذا العالم الكمي هو ما ينشئ عالمك الفيزيائي وإن سلوكه بشكل معين ليس له سبب ضمن نطاق المحليات، ولكن تحديد هذا السلوك يعود إلى تعاونه وتفاعله مع الكموم الأخرى التي تقيد حركته.
3. مستويات الاحتمالات :
ورغم أن الموجة حرة في التصرف ضمن نطاق احتمالات معين في بيئة معينة، إلا أن هناك درجات من الاحتمال لكل نوع من أنواع التفعيل والتحقق الزمني، فليست كافة الأحداث للموجة X والتي يمكن أن تعبر عنها ب …. x,y,,z,s,a,b هي متساوية في الوقوع، لأنك تلاحظ مثلاً وقوع حدث معين بنسبة 80% من مرات التكرار، وأحياناً 99% ، مقابل حدث آخر، ليس معدوماً ولكنه لا يحدث بكثرة، وكذلك حين انبعاث موجة كمومية تراكبية (حزمة من الكموم) ينشأ عنها عدة أحداث معاً ، بحيث تتوزع تركيبتها على نحو لا محلي لتشغر محليات لا علاقة لها ببعضها البعض موضوعياً، فتجدها موزعة بين مجالات البيئة التي تستهدفها في عدة مراكز تفاعلية، والمعبر عنها مثلاً ب 1,2,3,4,5 … ولكنها تشغر بعض الواطن بنسبة 99% فتملؤها بالتفاعل وسيالة الإلكترونات، وبعضها يكون التفاعل معه بنسبة أقل من 1% … الغريب أنها لابد أن تشغر كافة مواطن البيئة التي تفاعلت معها، أي ليس هناك منطقة خالية من الكموم التي انطلقت بنسبة فراغ 100% من تأثير تلك الموجة، والأغرب ، أن نقطة ارتكاز القياس والرصد تعطي دائماً الاحتماليات الأعلى في تحقيق النتائج، فإذا ركزت ذهنك على أن موجة حزمة الإلكترونات ستصل للنقطة 2 وتحقق فيها القدر الأعلى من الوقوع، أو ستحقق الهدف z مثلاً، ستجد ما تخيلته يحدث فعلياً، ستجدها تصل لتلك النقطة بقدر أعلى .. وخاصة إذا كنت لم ترصد مباشرة الأحداث التي حدثت هناك وأرجأتَ رصدها واكتفيت بنقطة الرصد التي اخترتها ، دون سبب واقعي.
بمعنىً أوضح، لديك الآن قلنسوة ، تضع يدك فيها 1000 مرة لكي تخرج منها أرنباً ولكن لا تستفيد شيئاً، فيزيائياً ، إخراج أرنب من القلنسوة ليس مستحيلاً على الإطلاق، ميكانيكا الكم تسمح بذلك، ولكن هذا الاحتمال ضعيف، وركز أنه ضعيف وليس معدوماً، والسؤال الحقيقي ليس عن إمكانية إخراج أرنب أبيض من قلنسوة سوداء مظلمة، وإنما عن سبب "ضعف" هذا الاحتمال، و"قوة" احتمال أن تعود خاوي الأيدي مرة ، أخرى المرة تلو المرة …
أحد هذه الأسباب من وجهة نظر فيزيائية بحتة، أن الراصد وبشكل ما، يلعب دوراً في التفاعل والتحقيق، لأنه لحظة الرصد يسهم في تركيز التآثر لصالح حدث معين، وبما أن الناس لا يتوقعون عادة أن يخرج الأرنب الأبيض من قلنسوة سوداء، فهم لا يعطون تحفيزاً قوياً لوقوع ذلك الحدث في واقعهم الزمني.
4. القياس الموضوعي :
في النهاية سيوجد في واقعك المحلي حدث واحد من الأحداث محتملة الوقوع ، سيقع فعلياً لراصد واحد وفي ميقات محلي واحد، للتبسيط، يوجد لديك عشرات الاحتمالات للعبة معينة، لكنك ستحقق في النهاية احتمالاً واحداً فقط … أين ذهبت بقية الاحتمالات ؟
من وجهة نظر الكائن المحلي، هذه الاحتمالات معدومة الآن، لقد تحقق ما يجب تحقيقه وتلك تلاشت مع العدم، ولكن من وجهة نظر كائن تجريدي أو كمومي فهذا ليس العدم الحقيقي وإنما هو عدم بالنسبة لك فقط، أنت الذي تم أسرك برصد حدث واحد فقط من محاميل الأحداث، ولو أنك تحرر نفسك قليلاً لترصدن أحداثاً أخرى حدثت ، ولكن يصعب عليك الاتفاق معها والاحتكاك المباشر بها.
إذن ما النتيجة ؟…
النتيجة أن عالم الفيزياء الذي ترصده وتحسبه واقعياً، ليس واقعياً على الإطلاق، أنت أمام زمن محلي صح، ولكنه ليس واقعياً ولا جبرياً، إنه نوع من المصفوفات، لعبة فيها نطاقات احتمالات لا نهائية، وهذه النطاقات لما يمكن أن يحدث تشكل مسارات زمنية ممكنة الوقوع، من الناحية الكمية لا يمكن التنبؤ بمسار زمني بعينه استناداً فقط على البيئة الموضوعية، لأن البيئة محايدة تماماً في عالم الكموم الصرف، ولأن علل انخلاق البيئة والزمن المحلي ، ليست من ضمن الفيزياء الكلاسيكية، وكافة القوانين الفيزيائية الكلاسيكية قابلة للاختراق في أي لحظة، هذا أمر واقعي في عالم الكموم، ليس هناك مُطلَق في عالم المادة والغياب…
وبقاء الواقع الذي ترصده ثابتاً لا يعود إلى واقعيته بشيء وإنما إلى رصدك وأسباب أخرى أنت تجهل حتى طبيعتها وأبعادها. ولذلك ينشأ هناك اتجاهين في علوم الفيزياء الكمومية :
- الاتجاه الأول نقول عنه "مبدأ أصالة الفوضى في الوجود" كان الوجود شواشاً من البدء، كما في الناحية الوثنية لديانة اليونان القديمة، كان الوجود فوضى وضباب، كان أخليس هو الذي تنبعث منه التفاعلات وهو الجانب الأنثوي المظلم للوجود، وكان شاوس هو الذي يقوم بتحويل حَمل أخليس إلى واقع موضوعي لأن أخليس هو أنثى الشواش وشاوس هو القطب الذكري. الواقع إذن معدوم الوجود، معدوم القيمة، لا يختلف عن الأحلام في شيء، ولا قيمة لأي شيء للحياة ولا حياة أصلاً ، والوجود وهم والواقع وهم وأما الوعي فلا يتم أصلاً البحث عنه والاكتراث له ، لأنه المفتاح.
- الاتجاه الثاني نقول عنه "مبدأ العِلِّية الوجودية" وكان الوجود أصلاً شيئاً أعمق من النتائج والانبعاث، كان شيئاً له تحقق في عوالم ليست ضمن النتيجة نفسها، إنه يسمو على أن يكون أثراً، نظرة الموضوعية لا تكشف إلا عن الأثر والنتيجة، فيزياء الموضوعية لا تفسر الوجود وحقيقته ولكنه فقط تشرح "ما هي النتيجة من وجهة نظر خارجية ترى ظاهرها" وليس في الظاهر الأعزل عن حقيقته أي وجود فعلي، لذلك هو والوهم سواء، كان هذا رد آينشتاين على مبدأ الارتياب وقوله أن الله لا يلعب النرد مع الكون، لقد كان يفهم جيداً ما يقول ويعي حقيقة ما يتم التخطيط له بالخفاء ولو كانت تلك جملته الوحيدة لكفت في مسيرته من عطاء.
تأثير الوعي على الواقع :
تأثير المراقب :
كيف يتحول الانترنت من نظام موجي كهروبائي إلى نظام عرضي تفاعلي ؟
الموجات الكهروبائية التي تملأ حقول الواي فاي، ليس فيها صور، ليس فيها ذكريات، إنها مجرد تتابعات معينة للالكترونات في حالة كمومية سحابية.
جهاز العرض خاصتك، ليس فيه ما تشاهده عليه، وأغلب الذين تراهم فيه هم أصلاً غائبون عنك لحظة المشاهدة، والله وحده يعلم أين يكونون ( أو ماذا يكونون ) ، كيف إذن تتحول الموجات من الصورة الكهروبائية إلى الصورة الحسية التفاعلية ؟ الفكرة هي في عاملين رئيسيين وعامل وسيط :
- الشيفرة أو الترميز
- مفتاح كشف الشفرة
- جهاز المعالجة والتحويل
ربما عندما تتلقى الإشارات الكهربائية على هيئة 1001110010111001 ، ربما يمكنك فهمها بطريقة ما إذا امتلكت مفتاح فك الترميز، لكن ذلك سيستغرق وقتاً هائلاً بالنسبة لحواسك، لذلك تعمل على صناعة جهاز يقوم بتحويل هذه الترددات من الصيغة الرقمية، إلى صيغة تستطيع حواسك الجسدية أن تتعامل معها … المشكلة أن الصورة الفوتوغرافية على سطح المكتب، هي حقيقة لا علاقة لها بالواقع الذي تم تصويره، فالصور الفوتوغرافية الواقعية يمكن لها أن تكون حقيقية إلى حد ما، لأنها مجرد عكس للضياء على لوح التصوير، لكن طريقة الحاسوب ليس فيها ضياء، إنما فيها "إعادة توزيع لمواقع الضياء وفق ترميز الصورة الأساسي وبما يسمح به الحاسوب".
بمعنىً آخر، هو مجرد ترتيب معين للنبضات الكهربائية بحيث تتوافق مع الرموز التي أعطيت له فتعطيك الصورة التي أمامك الآن، هذا يعني أن الواقع قابل لإعادة التشكيل المادي بمجرد وجود أمواج كهربائية وترميز لهذه الأمواج، وآلة لفك هذا الترميز وتحويل الرموز إلى أمواج ضوئية مرة أخرى، هذا يعني أن المادة أين هي بالضبط ؟ هل هي أكثر من رموز وأمواج ؟ إذا كانت كذلك … فإلى أي مدى ينبغي عليك أن تثق بواقعك ؟
يكتب روبيرت لانزا
مؤسس نظرية "المركزية الحيوية Biocentrism" :
"بمجرد أن تقيس شيئًا ما ، فإن موجة الاحتمال لقياس نفس القيمة للكمية المادية التي تم اختبارها بالفعل تصبح'محلية' أو ببساطة ' تنهار'.
مجرد أن تستمر في قياس الكمية مرارًا وتكرارًا ، مع معرفة نتيجة القياس الأول ، سترى أن النتيجة هي نفسها. وبالمثل، إذا تعرفت من شخص ما على نتائج قياساته للكمية المادية فستتأثر به، فإن قياساتك وقياسات المراقبين الآخرين تؤثر على بعضها البعض - ويحدث "تجميد للواقع" وفقاً لذلك الإجماع من قبل المراقبين".
"إن إجماعًا مختلفًا يساوي واقعاً مختلفاً، إن الآراء المتعلقة ببنية البيئة الواقعية تحدد شكلها ذاته ، وتشكل الهيولة الكمومية الأساسية".
"تتمركز حياة المراقب إلى حد كبير في محيط النموذج المعرفي الذي يبنيه المراقب في ذهنه طوال حياته".
هل يمكن أن يكون الكون محاكاة؟
هل يمكن لكيان ذكي اصطناعي بدون وعي أن يحلم بعالمنا؟
استبدل فكرة الموجة الكهروبائية بالموجة الكمومية، واستبدل جهاز العرض خاصتك ب"الدماغ البشري" واستبدل نظام فك الترميز من 1010 إلى "التجريدات والمعقولات والكائنات الميتافيزيقية" … ستكتشف حينها أجوبة لكثيرة من تساؤلاتك التي لطالما شغلت عقلك وحياتك.
يعتقد لانزا أن علم الأحياء يلعب دورًا مهمًا ، كما يشرح في كتابه The Grand Biocentric Design - How Life Creates Reality، والذي شارك في تأليفه مع الفيزيائي ماتيج بافسيك.
بينما يمكن تصور الروبوت بحالة أن يكون مراقبًا ، يعتقد لانزا أن كيانًا حيًا واعيًا لديه القدرة على الذاكرة ضروري لتأسيس "سهم درب الزمن".
يكتب قائلاً:
"المراقب "بلا عقل" لا يختبر الوقت و / أو فك الترابط مع أي درجة ممكنة من الحرية".
هذا من يؤدي إلى علاقات السبب والنتيجة التي يمكننا ملاحظتها من حولنا.
الهوامش
0 تعليقات