Advertisement

Main Ad

التأويل المعنوي والتأويل المنطقي : الرمز والعبارة أو المعاني والعلاقات

الكلمات اللغوية هي "رموز" تتوسط بين معنىً حقيقي يقبل الإدراك وبين كائن مدرك للمعنى ، تستخدم عندما يمنتع استدعاء المعنى أو الانتباه له مباشرة ، ووظيفة الكلمة كرمز : إما 'التذكير' بالمعنىً المعروف مسبقاً ، وإما 'الإشارة' إلى معنىً جديد لم يكن معروفاً للمدرك من قبل، وفي كلتا الحالتين يكون للطلمة وظيفة علمية وتوصل المدرك إلى حالة علمية.

العبارة هي نسق من الكلمات التي يحمل كل منها معنى معين ، تشير العبارة إلى طبيعة العلاقات والتفاعلات لين هذه المعاني.

العبارة هي علاقة لغوية ما بين الكلمات ، ومضمون العبارة المعنوي هو العلاقة الزمنية الوجودية ( الحقيقية ) ما بين (المعاني) المفردة التي تحمل دلالتها تلك تلك الكلمات.

العبارات تعبر رمزيا عن طبيعة وأبعاد العلاقة ما بين المعاني الحقيقية.

الفرق الأكثر أهمية على الإطلاق : الكلمة تحمل معنى وتفيد علما ، أما العبارة تحمل نسقا وتفيد أحكاما ( أخبارا ).

لا تعطي العبارات معاني جديدة للإدراك خارج معاني كلماتها ( لا تزيد المتلقي علماً ) ومدلولها المعنوي نوع من تحصيل الحاصل.

مثلا ، كلمات "شروق الشمس" تحمل دلالة على معنى واضح جدا للإدراك ، وهذا المعنى محسوس ومدرك ويمكن الكشف عنه.. إن المعنى علم حقيقي ، والكلمة التي تدل عليه تفيد العلم به وهذا يجعلها أداة علمية.

أما عبارة "الشمس تشرق في الصباح" وحين نبعد معاني الكلمات المنفردة ونلتفت حصرا نحو العبارة نفسها، ستفقد العبارة المعنى الوجودي وستتحول إلى مسألة تمسيق منطقي بين متغيرات.

الصيغة الحقيقية لعبارة 'الشمس تشرق في الصباح" :

x هي y في z.

وكما ترى ، لا يوجد معنى أو علم تضيفه لك هذه العبارة المنطقية المجردة ، والمنطق الصوري لا يريد إيصال المعاني بل بالعلاقات .. والعبارات هي الوجود اللفظي للعلاقات.

أين توجد العلاقة التي ذكرتها العبارة السابقة ( العلاقة ما بين حركة الشمس وفترة الصباح ) ؟ أعني : هل هذه العلاقة معطى إدراكي واضح مثل معطى الشمس وفترة الصباح ؟

اقتران الشمس الظاهري بفترة الصباح هو معطى إدراكي غير حسي ، ولا يمكن إدراك علاقة مثل الاقتران في العالم المادي ، لا يمكن أن تقول : هذا الاقتران مادة موضوعية محسوسة يمكن تحديدها.

يمكن أن تحدث العلاقات بين المواد وتربطها، ولكنها غير مادية.. لذلك لا توجد العلاقات في مكان معين ولكنها توجد في الزمن…

فإذا استخدمت العبارة فأنت تحكي عن (الزمن) وعن المعاني الزمنية ، أما الكلمات فتشير إلى 'معطيات الوجود'.

ولا يمكن رؤية الزمن حسيا ، ورغم ذلك يمكن التعرف إليه ، إما بالاستدلال العقلي وإما بالإدراك الحدسي القبلي ( المعرفة القبلية ) ، والعبارة الإخبارية تقدم إليك معرفة الزمن كنتيجة نهائية، عليك قبولها أو رفضها ، لكن لا يمكنك الإحساس بها.

فإما أن توافق على أن الشمس تشرق في الصباح ( أن هناك علاقة تلازمية بين شروق الشمس والصباح ) وإما أن ترفض ذلك ، وفي كلتا الحالتين ، لا تتصل بالمعنى الزمني وإنما تكتفي بالحكم المنطقي على هذا المعنى بالنفي أو الإثبات.

وبما أن العبارات اللغوية تخلو من التحسس الحدسي للزمن ، فكيف يمكنك الانتقال من العبارة إلى المعاني الزمنية ؟

من يعرف معاني الكلمات والزمن التفاعلي بينها ، لا تضيف العبارات له علما جديدا، إنه يعرف مسبقا ما تعبر الكلمات والعبارة عنه.

ومن لا يعرف معاني الكلمات والزمن التفاعلي بينها (كالكفيف مثلا) لا تضيف له العبارات معنى جديدا أيضا، إنه لا يعرف المعنى الوجودي الحقيقي للكلمات والمعنى الزمني للعبارات ، وكل ما بإمكان العبارة أن تخبره إياه هو "النسق" المنطقي الرابط بين رموز الكلمات والمحاكي للزمن الحقيقي في علاقة ذهنية تجمع تلك الرموز.

هذا يعني أن العبارة لن تخبر عن أي معنى جديد من الأصل.. طالما الكلمات والزمن مفقودا المعنى.

التعليل الحقيقي لهذا الاختلاف بين الحالتين :

عبارة 'شروق الشمس' ليست خبرا عن شيء غائب، فمن يعرف معناها فقد حضر المعنى إلى وعيه مسبقا ولا يحتاج إخباره به . ولا تتطلب مثل هذه العبارات التصديق أو التكذيب ، ولا يطلب من المحدث أن ينفيها أو يثبتها لأنها واضحة بذاتها.

بينما عبارة "الشمس تشرق في الصباح" تتطلب من الملقي الإثبات ومن المتلقي التصديق، لأن المعنى الزمني الحقيقي غائب حسيا ضمن المستوى المادي وكل ما يمكن فعله ضمن هذا المستوى هو "الحكم الغيابي" على الزمن… و

لا يمكن التعامل مع الزمن إدراكيا على نحو مباشر دون تجاوز عتبة المعرفة الحسية.

بالنسبة للكفيف ، أو ، لرجل قضى حياته في الكهوف ، الشمس المادية والصباح والشروق معاني غير حاضرة ولا يعرف هويتها وطبيعتها. ولذلك أي محاولة للحديث معه عن تلك الأمور بغية إدراكه إياها معنويا ستبوؤ بالفشل.

ولكن البصير الذي شاهد الوجود والطبيعة سيسخر من أي محاولة لإقناعه أن عليه التصديق منطقيا بنتيجة تقول ( الشمس تشرق في الصباح ).

لا يمكنك إضافة علم جديد لكائن واعي بطريقة إلقاء العبارات عليه ، الهدف الحقيقي من استخدام العبارة هو نوع من "التنظيم والتركيز والتوجيه" لفهم العلاقة بين المعاني في كلمات العبارة , و المعروفة مسبقاً من قبل المتلقي، دون أية إضافات عليها.

فإن كان الإنسان يعلم معنى : الشمس - القمر - الحياة - الجمال - الرعب … علما حسيا إدراكيا ، فسيكون في غنى عن العبارات الخبرية التي توضح معنى تلك الكلمات ، وإذا لم يعرف الإنسان معنى الشمس والقمر والحياة والجمال والرعب على نحو إدراكي مباشر ، فلن تنقل العبارات اللغوية الخبرية له ذلك المعنى.

من منظور الكفيف : عبارة ( الشمس تشرق في الصباح على الأرض , والمريخ ) عبارة لا تفيد معنى إدراكي ، لأن الشمس غائبة عن رؤيته الذاتية ولا يعرف عن معنى الكواكب المحسوس شيئا ذا قيمة ، ولكنها تفيد معنى العلاقة ، فهو يعرف أن الشمس "بالتأكيد" تشرق في الصباح، أيا كان ما يعنيه ذلك ، لأن الآخرين أكدوا له هذا الموضوع تأكيدا نهائيا.

هذا ما نقصده بالمعرفة الحصولية ، أي معرفة ( الخبر عن الحقيقة، بالنفي والإثبات سواء أدرك المتلقي المعنى الحقيقي أو لم يدرك إلا العلاقة المخبر عنها ).

الآن .. ماذا لو كان الإنسان غير كفيف ، وأخبرته أن الشمس تشرق في الصباح ؟ سيكون ذلك لغوا بلا معنى ، لأن غير الكفيف يعلم ذلك مسبقا.

ماذا لو كان الإنسان قد 'نسي' أن الشمس تشرق في الصباح ؟

إن معرفته بشروق الشمس كل صباح أصبحت لا تتعدى معرفة الأعمى لذلك الخبر ، لأنه لم يعد "يتحسس المعنى" الحقيقي لهذه الجملة .. إنه يسهر كل يوم ، دائم الانشغال بموضوعات تافهة ، يسرح في ذهنه طوال الوقت ، يشرب الكحول ويلهو ويعمل كثيرا دون أن يعرف لماذا يعمل .. لقد نسي فعليا ما هي نكهة الحياة الواقعية.

مثل هذا الإنسان سيصل لمرحلة يفقد فيها رؤية الشمس، وهو دائم التركيز على أشياء لا معنى لها تجول في خاطره ، سيصل لمرحلة يخبره الطبيب فيها أنه يعاني من أعراض نقص فيتامين د ، ولن يخطر بباله أن يتعرض لأشعة الشمس الصباحية، حتى يذكره أحد ما بذلك.

وحين تقطع الكهرباء، سيضع الطعام في الليل على الشرفة كي تحفظه الحرارة المنخفضة ولكنه سينسى أن يعيده إلى الداخل قبيل الشروق …

إن معرفة كل من الأعمى والإنسان الطبيعي بالشمس بعد أن نسيها، هي معرفة بالقضايا المنطقية أو "الخبر" ، فاقدة للمضمون ، خالية من القيمة ، معرفة بالعلاقات دون المعاني والقيم ، إنهما لا يختلفان عن بعضهما بأي شيء!!

كقول أحدهم "الليمون حامض والفلفل حار !! " لا يفيد هذا الكلام دون معرفة كل من الحموضة والحرة والليمون والفلفل على الأقل.

العلاقات المنطقية هكذا .. لا تضيف معاني يمكن إدراكها بالوعي ، بل تنظّم المعاني القديمة في صغية محددة (نسق). وإذا كانت تتحدث عن معاني غير معروفة مسبقا فستكون مجرد وصف لنسق علاقات من الرموز المتغيرة ( كدالة رياضية على متغير ، لا تحمل أي قيمة حقيقية ).

حقيقة العبارة ( واقعية العلاقة ) في غياب المعنى ، تبقى واقعية صورية. وهذا ما يسمى ب"التصديق والتكذيب" : الأحكام المنطقية.

إنك لا تحتاج إلى تصديق الحقيقة التي تدركها ، لا تحتاج إلى تكذيب شيء تعرف مسبقا أنه خاطئ ، أنت تحتاج للتصديق والتكذيب حين ينتقل إدراكك من المعنى إلى العلاقات.

وبما أن العلاقة نفسها ليست علماً جديداً ، فالتصديق والتكذيب لا يفيدان علوماً جديدة ، على سبيل المثال ، إذا أخبرتك العبارة التالية : "الثقب الأسود حقيقة كونية" هل أضفت لك علماً جديداً بذلك؟

هذه العبارة "الإخبارية" تعطيك علاقة بين الثقب الأسود والواقع الكوني ، ولكن إذا لم يكن لديك إحاطة بمعنى "الثقب الأسود" ومعنى "الكون" بما يكفي لتخيل هيئة هذا الثقب وطبيعته الكونية ، فما الفائدة من جملة "الثقب الأسود حقيقة كونية" ؟

الناس تفهم مصطلح "الثقب الأسود" بشكل مشوه جدا ، وتصديقها أو تكذيبها لوجوده فعل طفولي عابث.

الفيزيائيون أنفسهم لا يعرفون المعنى الحقيقي الذي تحمله كلمة "الثقب الأسود" ، إنه بالنسبة لهم ضرورة رياضية ( خبر منطقي يوجب التصديق به ) ولكن ما الذي يعنيه الثقب الأسود في الوجود ؟ ما الذي يعنيه بالنسبة للإدراك ؟ لا أحد يعرف ..

إنك تعرف الوظيفة التي يقوم بها الثقب الأسود ، الوظيفة التي يقوم بها الدي إن إيه ، الوظيفة التي يقوم بها حصن آمون الدماغي ، الوظيفة التي يؤديها الانفجار النووي ، الوظيفة التي تقوم بها الكتلة والكهرباء … لأنك تعرف الأخبار التي تحكي عن طبيعة تأثيرهم والفعالية التي يمارسونها على الواقع المادي والجسد وجسدك ، لكنك لا تعرف أكثر من وظيفتهم الزمنية أو ( طبيعة تأثيرهم ) على وجودك وعالمك .. وهذا ما يميز طريقة المعرفة الوظيفية المكونة من جمل خبرية مركبة فوق بعضها البعض.

الجمل الإخبارية _بشكل عام_ لا تشرح لك المعاني ولا يمكنها ذلك، ولا تفيدك علوماً جديدة … وسواء صدّق المخاطَب الخَبر ( واقعية الثقب الأسود ) أو كذبه فهذا لا يجعله يعلم الحقيقة أو يصل إلى "إدراك" المعنى.. إنه يحجب المعنى عن إدراكه المنشغل بالرموز والعلاقات ما بينها.

إن الحُكم على العلاقة دون إدراك المعاني التي تربط هذه العلاقة بينها هو ما يسمى بالعلم الحصولي الذهني ، ودعنا نرى مثلاً هذا الموضوع :

"التلفاز القديم" له لاقط يسمى "الأنتيل"، وعندما تشوّش البث يقوم المشاهد بتغيير اتجاه الأنتيل حتى يلتقط البث مرة أخرى.

بعض الناس من كثرة قيامهم بذلك قديماً، أصبحوا يطبقونه بصورة لاشعورية على "أنتيل الراوتر" الخاص بالشبكة عندما تتعرض للتشويش. وهذا معنى أن "علاقة الأنتيل والبث" انتقلت من التلفاز إلى الراوتر ، ولكن المفهوم المعنوي لهذه العلاقة مختلف جوهرياً في كلا الحالتين.

المدهش أن نتائج العلاقة بصيغتها الأولى يمكن أن تتحقق بنفس الطريقة عندما تطبق على معاني جديدة ، ففي بلاد الحرب حيث يكثر التشويش على شبكة الانترنت لعوامل عديدة ، يصادِف أحياناً أن يتحسن الانترنت باقتران مع محاولات تعديل "قرون استشعراه"!! وهذا يجعل بعض المحاربين القدماء يعتقدون حقاً أن الطريقة تعمل !"

العلاقة ما بين الشبكة العالمية والراوتر تختلف جوهرياً عن طبيعة العلاقة بين التلفاز والبث الأرضي ، وهذا يعني أن العلاقة "أضلّت" المراقب عن الحقيقة.

إرسال تعليق

0 تعليقات