إدراك معنى المكان الوجودي يبدأ من التفريق بين "تصور" المكان ذهنياً ، وبين "إدراك" المكان ( الإحساس به على نحو معين ).
وكما تعرف ، تصور المكان يعني أن الراصد لا يتعامل مباشرة مع شيء اسمه المكان ، ولكنه يستنتج وجوده وخصائصه عقلياً ، ويبني نظرية ذهنية توصيفية للمكان ، وهذه النظرية قد تكون فلسفية وقد تكون فيزيائية وبكلتا الحالتين لن تتعدى حدود التصور العقلي.
إدراك المكان هو وعي مباشر به ، ومن الصعب على الإنسان أن يعي المكان ، لأنه مشغول طوال الوقت بالنظر إلى الكائنات التي تشغر المكان ، ولكي يحدث إدراك المكان يجب توجيه شعاع التركيز البصري من الموضوعات الجزئية ( الطاولة والفنجان والإبريق ) إلى الفضاء الكلي الذي يحتوي هذه الموضوعات ، ولا أقصد حيز الفراغ المحدد الذي تشغره ، بل المجال الوجودي الذي يتحقق وجودها المحدد عبر انتسابها إليه.
هذا يجعل المعرفة بالمكان نوعاً من العلم الحضوري ، لأنك ترى المكان بحسب الصورة البصرية التي أمام وعيك مباشرة ، عندما تتعامل مع فضاء الصورة كمعطى إدراكي بحد ذاته ، فقط أنه ليس موجوداً ضمن الصورة ولكن موجود في تكوينها.
المكان هو وجود معنوي غير محدد ضمن جزئيات، يؤسس معناه للوجود المادي المكون من جزئيات ، أي انه يعطي للمواد معناها من خلال انتسابها له ، على سبيل المثال ، في الألعاب الإلكترونية ستجد تعريفاً للمكان ، الاشياء ضمن اللعبة موجودة بصرياً كالأشياء ضمن الواقع الاعتيادي ، والانطباع العام للعبة يوحي بأنها تحدث في مكان ما ، فهو موجود بصرياً في فضائك عبر الطول والعرض ، مع أنه يفتقر إلى "علاقة العُمق" التي تعطيه تأثيراً على هندسة فضائك.
https://youtu.be/kK0M74E8PS4?t=4التجربة الحسية عادة تكون موجهة نحو موضوعات خارجية جزئية ، كل موضوع يشغل حيزاً محلياً كما لو كان نقطة في الفضاء، ومجموع هذه النقاط هو ما يسمى بالكون في اصطلاح الفيزياء ، وكما ترى ، حواسك ، والفيزياء ، لا يتعاملان مع الفضاء من حيث معناه الإدراكي الحسي ، بل من حيث محاولة فهم العلاقات المسافية بين الموضوعات الجزئية.
كما تفضلت "الأشياء توجد في المكان" لكنها ليست "علاقة المكان"، لأن المكان يعطيها المعنى والوجود، أي أنه العلة بوصفها أشياء مكانية ومن غير الطبيعي أن نتعامل مع العلة على أنها مماثلة لمعلولها ، لأن ذلك يجعل العلة تحتاج لتعليل فلو كان المكان موجوداً جزئياً له حدود ضمن حيز لكان أيضاً يحتاج إلى ما يعطيه معنى المكانية، وهذا التسلسل لن ينتهي دون إدراك الكائن الكلي المُطلَق الذي يسمى "مكان".
هذا النوع من التعريف بالمكان ، يجعل المكان "قيمة" وليس "موضوعاً محدداً" ، والقيمة هي شيء مُطلق ولكنه موجود ، لكن وجوده لا يعتمد على وجود غيره وإدراكه يتم باتصال مباشر مع الوعي ( وهو ما يسمى الحدس ).
كلانية المكان موضوع التفت إليه ابن سينا ، وتحدث عنه بتفصيل أكثر كانط، والكلانية يمكن ترجمتها إلى Universal.
لا يمكن تصور المعاني الكونية بنفس طريقة تصور المعاني الجزئية ، ليس الأمر وكأنه "فقاعة" أو "صندوق" ، لأن الفقاعة والصندوق مواد تشغر المكان ، ولذلك لا يمكن تصور فقاعة ليست موجودة في حيز أكبر منها أو صندوق لا يتكون من تراصف أشياء مادية أصغر منه ، فالفقاقيع والصناديق ككل شيء مادي ، يجب أن تكون أولاً محدودة المجال في فضاء أوسع ( لها نهايات يستمر الفضاء الحاوي لها بعدها ) ، وثانياً يجب أن تكون مركبة.
0 تعليقات