بسم الله الحي القيوم …
الرؤية الإدراكية والتاريخية عن الإسلام …
أمامك الآن بحث دقيق ( أقصد أنه يحتاج التأمل ) ... وسيجد الإنسان العام صعوبة في فهم كثير من الأمور الواردة فيه، وخوفاً من أمور أخرى … ( لذلك لا يناسب المبتدئين ).
وأعتذر من القلب عن الصدمات التي قد يحدثها بيان هذه الحقائق على قناعاتك المستقرة أثناء قراءتك ، وعذراً للمسلمين إذا كان هذا الحديث يصادم المعتقدات الجمعية الراسخة في العقل الجمعي الإسلامي والبشري.
ولكن رهبة الحقيقة هي دواء دخان العبث الأجدى والوحيد ( حين تعرفها ) ، تقديم البحث إليكم الآن أقرب إلى الحق من تأخيره إلى مستقبل الغيب … ولو أنه بالتأكيد سيصل للقليل جداً من الآذان الواعية.
القلق والتشكك هو خوف "الأنا" من خسارة هندستها الذهنية التي تؤسس لها الوجود، وليس من التمسك بحقيقة الدين أن تخاف من الحقيقة ما وراءه.
منطلقات إدراك معاني المتون المقدسة :
{1} المنطلق الحيوي :
إدراك معاني المتن المقدس في واقع الحياة والوجود تأويلاً وحُكماً، وهو المنهج التأويلي الإدراكي : أن تُدرك المعاني كما هي بحقيقتها ، وعبر دلالة رمزها الحاضر إلى وعيك في زمن الآن.
{2} المنطلق الذهني :
تأويل معنى المتن المقدس منطقياً ( استدلالياً ) استناداً إلى الافتراضات المختزنة في الذهن والمعلومة مقدمات مسبقاً عن معاني هذه الرموز وعن موقع المتن من التاريخ ، وهذا التأويل هو عنصر من "المصفوفة الذهنية".
بعبارة يسيرة :
يمكنك إدراك المعاني الوجودية المذكورة في القرآن الكريم حين تتمكن من تأويل الآيات بناء على معاني الرموز المستخدمة فيها، دون استيراد تفسيرات مسبقة من التاريخ والاجتهاد.
متطلبات تأويل القرآن الكريم وفق المنهج الإدراكي :
_ الوصول إلى معاني الرموز الحقيقية" وهي الأحرف والكلمات _ في حالة القرآن الكريم.
_ إدراك مستويات الوجود التجاوزي التي يبلغ الرمز في القرآن الكريم عنها.
معنى "الدين" :
هو تحقق النوايا الزمني واقعياً. وهذا التعريف مختلف عن الدين بمعنى (الإسلام - المسيحية - اليهودية….)، فهذه منظومات فلسفية إدراكية ( رؤى كونية ) مكونة من تصورات ذهنية تشرح معنى الحياة والوجود والزمن في نظام متماسك منطقياً، اصطلح الناس على تسميتها ب"الأديان" لأنها شاملة للحياة والوجود على نحو كامل، تحكي حقيقة الزمن ومراحلهوسير الحياة من النواة إلى التحقق.
والصواب أنها ( رؤى فلسفية للدين ) وليست أدياناً ، لأن الدين أصلاً هو ناموس الزمن، وليس منظومة عقائد يصدقها الإنسان فينتمي إلى مجموعة المصدقين لها.
النص الديني يتحدث عن المستويات الوجودية الحيوية اللامنظورة مادياً، إدراك الإنسان المادي لا يتصل معها ، ولذلك ينقلها الله للإنسان بترميزها برموز تنتمي ل"المستوى المادي"وتحمل معنىً يتجاوز حدود العالم المادي، وطريقة نقل إدراك الإنسان من المستوى المادي إلى العالم الذي يتجاوزه هي إلقاء رموز تثير فيه رغبة المعرفة الروحية وكشف الأسرار العليا للوجود وتذكره بمشاعره الوجدانية الأكثر نبالة في حياته وتعظه بالمثلات الزمنية.
كالأحرف مادية التكوين تجاوزية المعنى، وكبعض اللوحات الفنية والأعمال الموسيقية التي يوحيها الله إلى الفنانين لتنير للإنسان معابر الحقيقة في عالم الظلام الذي يعيشه ، كذلك أخذت الرموز الأصلية للغة معناها من اتصالها بالعالم المطلق وقدرتها على الإشارة إليه والتعبير عنه.
إذا لم تستطع الرموز فعل ذلك … لا معنى لاستخدامها في النصوص المقدسة.
نسي الناس ما معنى "الدين" ونسوا أن هذه الكلمة ذات معنى دقيق ، وأن غاية الإنسان من اتباع الأديان أو البحث فيها هي الوصول إلى "رؤية كونية كلّانية" تتوافق مع "ما يرغبه وينويه حقاً" بغاية الوصول إلى "معنى الحياة" حقاً.
الأسئلة التاريخية عن الإسلام :
_ ما هي ديانة النبي مُحمد قبل البعثة ؟
_ هل النبي مُحمّد يجيد القراءة والكتابة أم لا ؟
_ هل التقى النبي محمد بالراهب بحيرة ومتى كان ذلك وما هي طبيعة هذا اللقاء ؟
_ هل النبي محمد موجود أصلاً ؟ ألا يمكن أن يكون خيالاً أو صناعة تاريخية سياسية ؟
أريد أن أسألك :
_ هل المعاني التي تبلّغها النصوص الإسلامية عن "أسماء الله - ميزان الزمن - تاريخ خلق العالم - حيوية الكون والتكوين" تحكي للناس عن "حقيقة الوجود" أم لا ؟
_ وهذا الوجود الذي يبلغك النص الإسلامي حقيقته ، هل هو نفس الوجود الذي تتواصل معه بحواسك وعقلك ووعيك ووجدانك ، أم أن النصوص الإسلامية تتحدث عن وجود آخر ليس بينك وبينه أي اتصال ؟
_ وإذا كان الوجود الذي يتحدث عنه دين الإسلام هو نفس الوجود الذي تنتمي ذاتك إليه حالياً وتراه … هل التحقق من معاني القرآن الكونية ممكن بالنسبة لك ولوعيك عند مشاهدة دلالاتها في الوجود الحاضر إليك وتراه الآن ؟ أم تحتاج إلى الرجوع للتاريخ القديم حتى ترى المعنى الحاضر إليك حالياً ؟
_ هل يمكن الوصول إلى حقيقة الوجود الذي يدركه وعيك الذاتي الآن ؟ أم تحتاج إلى وسيط تاريخي ذهني يصل بين وعيك وبين الوجود ؟
_ هل أنت الآن في حالة اتصال حيوي مع الوجود ^_^ …
زمن الآن وعالم الحقيقة ، حاضر إلى الوعي آنياً ودائماً وبدون وسيط ، وإدراكه لا يتوقف على التاريخ والسياق التاريخي ، ولا على شخصية الناقلين للمعلومات الخاصة به ، ولا يحتاج منك إلى التحقق من صدق الناقل شخصياً بقدر ما يتطلب "حياة الوعي" المدرك لبلاغه.
بناء الدين الحقيقي هو حقيقة الوجود بلغة يمكن للبشر فهمها
"القرآن يحكي عن الحقيقة الوجودية" ، ومعانيه حقيقية في الوجود ، وتلك هي دعواه وهذه هي الرسالة التي بلغها النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، وبالتالي وحسب شرط القرآن الكريم فلا يمكنك تقييمه أو إدراك معانيه إلا بطريقة تسقطها على الوجود الحقيقي والحياة وأنت تدركهما بوعيك.
فإذا اردت أن تعلم : هل الإسلام هو دين الحق ؟ .. فعليك أن تعلم أولاً : ما هو الحق ، وما هي معالمه ، وكيف يمكن الوصول إليه .. وهل المعاني الواردة في نصوص الإسلام المقدسة بلغت نفس المعاني في الوجود الحقيقي الحاضر إلى وعيك الآن؟ وكيف تعلم ما المعاني التي تدل عليها رموز النص المقدس وعباراته من الأصل…
هذا هو معنى "البحث الإدراكي" _ والهدف من البحث الإدراكي هو الوصول إلى الحقيقة المطلقة.
الدعوة الإسلامية تقول أن بحثك عن الحق سيقودك إلى الإسلام ، وأن من لا نية له بالوصول إلى الحق لن ينفعه البحث في الدين أو الانتساب إليه ، يقول الإسلام أن الأعمال بالنيات ، والقيم هي ما يهم حقاً ، ومن حقق قيمة الإسلام الوجودية أسلم حتى ولو لم ينتسب ومن لم يحققها لم يسلم حتى ولو انتسب ، وصدق النية والسعي المطابق لها هو المعيار الممكن الوحيد للوصول إلى عالم الحق المطلق.
إذا رغبت حقاً ، ستعرف حقيقة الإسلام حين تنتبه إلى معاني نصوصه ورموزه ، تاركاً النسق الافتراضي عن تاريخه وراءك، باحثاً عن بنائه الوجودي الماثل أمامك ، وحين تستخدم "المنهج الإدراكي" لفهم الحقيقة الدينية في هذا البناء المعنوي ستصل … ساعياً من وراء بحثك إلى الغايات العليا للحياة، والبحث عن الحقيقة المطلقة ... متحرراً من قيود التاريخ والعالم الذهني.
وليس مطلوباً منك أن تصدّق أو تكذّب مسبقاً أي اقتراح ، مهما كان المصدر الذي يقدَّمه لك .. وإنك لن تكون باحثاً عن الحقيقة وأنت تتأثّر عاطفياً بالآخرين ، لابد أن تواجه نور الحقيقة مباشرة لتكتشفه، بغض النظر عن الآخر والزمن..
ستكون باحثاً عن الحقيقة حين تدرك المعنى وحين ترى مقام المعنى في الوجود ...
ولن ترى معنى الدين وأنت تركز على التاريخ الغائب عن روحك وإدراكك الحي.
حين ترى بعين الوعي ما هو حاضر في زمن الآن حقاً من هذا الدين، ستفتح بوابة تدرك من أفقها "المعنى" وستعرف الحقيقة منه، تنطق بها آيات الكتاب، والأحاديث النبوية، كما هما الآن ومعك، وحينها ستركز على إدراك الرؤية الكونية التي يصفها الدين، وستقيّمه من خلالها.. لا أن تصدق الدين ثم تتبنى رؤيته تسليم الأعمى للمبصرين … وبقدر ما تحكي نصوص الدين عن الوجود الذي تتصل به حالياً بوعي ذاتك، بقدر ما سيكون الدين قيّماً في حياتك.
نص الدين المقدس حيوي وجودي على عكس التاريخ والتصور الذهني، إنك تقدر بالوعي أن تصل إلى إدراك حقيقة المعنى بالكشف المباشر وفي اللحظة الراهنة ، ولكن لا يمكنك الوصول إلى الحقيقة التاريخية بما يخبره الوسيط بينك وبينه، لأنك تجعل الوسيط أقرب إلى إدراكك المنشغل به من المعنى الذي ينقله.
إوذا لم يكن المعنى الكوني حاضراً أمام وعيك في اللحظة الراهنة ، فأنت لا تدركه، بينكما حاجز يمنع الاتصال ، هذا يعني أن الدين لم يحقق مهمّته في الإبلاغ، وكل ما سيصلك من الأخبار عنه سيبقى في فضاء الافتراض الذهني، أو سيكون رمزاً مجهول المعنى.
وإذا لم تكن ترى هذا الدين دين الحق في زمن الآن بوعيك الذاتي، فلا يمكن أن تراه دين الحق بقراءة الأخبار التاريخية عنه والحكم عليها بعقلك، لأن المعنى الحيوي في الوجود أبلغُ إليك في لحظة الآن برؤية عين الوعي، والخبر التاريخي لا يحكي عن الوجود الحيوي أصلاً ، والماضي منقول إليك كصور ذهنية لا اتصال مباشر بينك وبين حقيقتها.
فالحكم على الدين من نسق التاريخ يعادل :
- إما أنك تحكم على الوجود الحقيقي الحاضر إليك الآن بالخبر التاريخي الافتراضي الغائب عن وعيك، وتلغي حقك في الرؤية والإدراك الحر.
- وإما أنك ترفص رؤية نصوص الدين حديثاً عن الحقيقة الحيوية للوجود. ولا تريد إعطاء الفرصة لوعيك حتى يرى الدين من هذا المنطلق الحيوي العميق.
إذا كان الكتاب من عند الله حقاً ، فإنه سيكون كذلك خارج نسبية الزمن … والجواب الحقيقي على سؤال : هل هو من عند الله أم لا ؟ يعتمد على اتصال وعيك بالوجود الحقيقي وبالمعاني المقدسة ورؤية العلاقة ما بين النص المقدس والوجود.
وإذا كان لديك كتاب أنزل من الله وبلّغك بوجود سبع سماوات ، وحياة وراء الموت ، فلن يكون ذلك في الماضي أوضحَ منه اليوم ، ولن يكون حقيقة في التاريخ أكثر منها حقيقة "الآن". ليس لأن العالم الخارجي لا يتغير ، ولكن لأنك ( أنت الذات ) تعلم الحقيقة الوجودية بوعيك الذاتي ، والذات الحقيقية تحيا في الحضور خارج شبكة الافتراضات الذهنية … ومن لا يمكنه إبصار أشعة النور في الحاضر ، لا يمكنه معرفة غياهب الماضي.
لا يمكنك أن تعرف أن القرآن من عند الله ، ما لم يحضر صدق ذلك المعنى إلى رؤيتك الآن.
الاتصال بزمن الآن هو بوابة كشف الحقيقة …
الكتاب المقدس يقدّم التعبير الرمزي عن الحقيقة الوجودية، والمنهج الحياتي الذي يتفق معها ويوصل إلى غاية الوجود للأرواح والقيم العليا منه، ويكشف الحقيقة بتنبيه الوعي عليها، ويبيّن المعنى بإحضار التركيز على ما بين يديه ، وكل ما يُخبره الدين من المعلومات سيكون أصله الحقيقي في "الحياة والوجود" وإنما الكتاب يرمّزه لغوياً.
وإن لم يكن يمكنك إدراك ذلك المعنى المقدس في الحياة والوجود ، فكل ما ستقرؤه في الكتاب سيبقى أفكاراً موجودة في الذهن ، وسيبقى افتراض.
الهدف من البحث في الكتاب المقدس هو السعي إلى فهم ما يبلغه إليك عن العالم الحقيقي : "يريد الكتاب المقدس توجيهك للبحث في العالم الحقيقي عن معاني الرموز التي يحتويها".
وهذا البحث هو ما يولّد "الإيمان العملي"، فما يريدك الكتاب أن تفعله ، ليس هو التصديق به ، ولكن أن تصل إلى معناه وتحياة بالتفاعل الزمني القائم على اتصالك بالمعنى، أما التصديق به فهو المقدمة التي تسمح لك بالتبصر به وتتوسط بين بلاغك رمز الحقيقة وبين بحثك الجاد عنها من وراءه، وحين تترجم إيمانك إلى تفاعل حيوي … ستصل إلى غاية الدين.
الحق مطلق وجود ، وموقفك من تاريخ النصوص التي تشير إلى الحق لن يغير العلاقة الذاتية بينها وبينه.
وإذا لم تكن تؤمن أن الكتاب يتحدث حقاً عن معاني مقدسة ، إذاً ما معنى إيمانك بأنه أُنزل من عند الله ؟
كشف المعنى في العالم الحقيقي هو الأولى للمؤمن ، وهو ما يأتي به اتصال الإدراك مع الوجود، وحينها يمكن رؤيته بالوعي الذاتي.. وحين تتصل بالعالم الحقيقي ما وراء العالم الظاهري المؤطّر بالتأويل، يبدأ انبعاث وعيك في "زمن الآن" … حيث كل شيء جَليٌّ بذاته، وحيث لن تحتاج إلى استخدام التصديق والتكذيب عقلياً ، ولن يجوز لك ذلك أصلاً.
فتح بوابة الزمن نحو الآن، يبدأ من علاج "المقاومة النفسية" الحاجزة بين الوعي وبين الاتصال بالحضور : والتي تتمثل بحالات التشتيت القهرية ضد رغبة الوعي الحيوية ، مثل اللهو ، والنفور ، والتوتر ، والخوف ، وتتولد الدوافع القهرية بسبب إطار العالم الذهني الذي يضع لك القواعد كيف تتصرف ولماذا ، مخالفة القواعد تسبب القلق ، وموافقتها تسبب الملل ، والقلق يؤدي إلى دافع الواجبات ، والملل يؤدي إلى رغبة الملهيات. وكلاهما يمنعان الذات عن الاتصال المباشر مع الحضور ، بيسر وهدوء….
أهم ما في الحياة، بأي وقت من الأوقات .. وبكل الظروف المحتملة، هو القيم الحاضرة في الزمن الحاضر الآن، زمن الآن هو بوابة الحقيقة الوحيدة التي يمكنها بعث الروح من جديد في عالم النور ، خارج دوامات الافتراض الذهني وصراعاته، وعندما لا يتصل الوعي بالحضور فإنك تحيا في ذهنك … حتى ولو لم تلاحظ ذلك.
العلاقة بين الحقيقة والوعي توجد الآن ، ويمكن مشاهدة الحقيقة حين تطمئن النفس ولا تقاوم رؤية الحضور فتَتجلى في الوجود الحاضر الآن إلى وعيك.
وفقط الروح الحي من الكينونة هو ما يمكنه الاتصال بالحقيقة.
القراءة التاريخية للإسلام …
البحث التاريخي ليس مهتماً بمدى بالصواب أو الوصول إلى الحقيقية بالمعنى المطلق، ولا عن مدى حقيقة وصدق أخبار الآيات القرآنية عن الله ، والحياة والوجود والزمن والكون والروح والنفس ، وبقية المعاني الكونية في رؤية الإسلام الحيوية، والتي تعطيه جوهره الحقيقي…
ولذلك لا يطرح الاستشراق تساؤلًات جادّة عن الرؤية الكونية الإدراكية لـ "رسالة الإسلام" المُحمّدية : هل هي حقاً من عند الله ؟ هل هي حقاً رسالة نبوية ؟
وبدلاً من هذا البحث الجوهري ، يسير الاستشراق نحو فهم "تاريخ ظاهرة الإسلام أرضياً" ، وهذا التاريخ الافتراضي ، مبني على وثائق وسجلات تواريخها (الافتراضية) تحيط تاريخ حقبة البعثة (الافتراضي) أو تسبقه بقليل.
هدف الاستشراق : ربط نشأة الإسلام بالتاريخ بطريقة ما، ليس فقط من حيث انتشاره والمسار الزمني للأحداث التي عقِبته، ولكن حتى من ناحية "منشأ الدعوة وتكوينها البنائي المعنوي" الذي يعتبره الاستشراق والتاريخيون مقتبساً من مصادر سابقة على عهد الرسول.
وبدل إدراك المعاني الوجودية في الإسلام، يريد المذهب التأريخي الحكم على صدقها جملة واحدة بالرجوع إلى الوقت التاريخي الذي تم إبلاغها للناس ، كما لو أنك تكذب مباشرة كل ما في "البرقية التي وصلتك الآن" لمجرد النظر إلى غلافها الخارجي العتيق.
نفس درجة السذاجة في الحكم على "صدق قانون الجاذبية" من خلال سيرة المنظرين له، أو التعرف إلى نكهة الليمون بالارتكان إلى أحاديث الجدات والوثائق التاريخية، بينما الليمون أمامك، والجاذبية حولك، ومع اختلاف واحد : مهما تكن طبيعة نكهة الليمون، وكذلك مهما تكن صيغة قانون الجاذبية، لن تؤثر على وصولك للقيمة العليا من الحياة.
كذلك ستجد بين الماديين رفضاً عقلياً مسبقاً _وعلى نحو نهائي_ أي مجال لـ"طرح" اقتراح أن يكون الإسلام هو دين الحق، وأن القرآن أنزل من عند الله فعلاً.
إنما التاريخ في النهاية افتراض، والغرق في دراسة التواريخ التي تحيط بالإسلام سبب للابتعاد عن حقيقته ، مهما كانت النتائج التي سيَخلَص الباحث إليها.
والاختلاف بين الرؤية الإدراكية والرؤية التاريخية ( بين الحيوية والمادية ) لا يتوقف عند البحوث المقررة عن دين الإسلام ، بل إنه الأصل في كل خلافات البشر ، في العلم ، والحياة ، وكل المجالات.
ما يقوله المنهج التاريخي وهو يجسد الرؤية المادية-الذهنية للعالم :
"إن العالم الظاهري هو الشيء الوحيد الذي يسمح بمعرفته أو بالتفاعل معه بشرياً ، وإن المعرفة هي نوع من (تسجيل) الأحكام المترتبة على الانطباعات الحسية المرصودة ، و(معالجة) هذه المعطيات العقلية العقلية بالتفكيك والتركيب، للوصول إلى مرحلة ( نماذج التصورات الذهنية الكاملة ) عن الواقع والتي تمثل معارف البشر بأسرها ( منظومة العلوم التجريبية والإنسانية والتاريخية ) ، وهذه التصورات الذهنية التي نتجت عن الانطباعات الحسية (الظاهرية) هي كل شيء يمكن للإنسان أن يعرفه."
"كلما كانت التصورات الذهنية للعالم المحسوس تقترب من واقعية العالم المحسوس نفسه كانت أكثر علمية، و كلما استطاعت توفير منافع مادية مبنية على العالم الحسي ، كلما كانت أقرب للنموذجية."
هكذا يكون سهلاً فهمُ طريقة الاستشراق المبدئية في رؤية الإسلام، وأن البحث في ( الوقائع التاريخية الافتراضية ) يريد توفير نسق افتراضي يسرد نشأة الدين كمرحلة نتجت عن التطور الفكري الحضاري. تفسير الدين مادياً.
بما أن العصر الذي تنتسب إليه الرسالة هو (العنصر البشري الوحيد) في وجودها ، وبما أن أي محاولة جادة لإدراك رسالة الإسلام المُحمّدية تبدأ من فهم الميتافيزيقا أو الأخلاق ، ستكون اعترافاً من الباحث بوجود إمكانية _على الأقل_ أن يكون هذا الدين إلاهياً ... فالطريقة الوحيدة هي "إغلاق باب البحث عن المعنى" من خلال تغطية المعاني الكونية في الدين بستائر الظاهرة التاريخية والسير…
{1} ما هو الوحي ؟… ولماذا يرفضه المنهج التاريخي ..
"الوَحي" : اتصال حيوي فائق يحدث بطريقة تتجاوز حدود الزمكان ، ويخرج عن مسار الأحداث الظاهري، والنسق العام للحياة .. اتصال آني بالحقيقة ، وصل إلى الدرجة التي تسمح بتجاوز بعض الحجاب الفاصل بين الذات والوجود.
يعطي الوحي العلومَ بدون وساطة موضوعية خارجية (بدون أسباب أو معرفة مسبقة) وهذا هو سر الحقيقة واليقين في العلوم القادمة من بوابته، يتجاوز العلم الذي تدركه البشرية بمعرفتها الموضوعية ، المحافظة على مسافة فاصلة بين الذات العالمة والوجود المعلوم.
ذلك هو ما يجعل النبي يحوز إدراكاً أعلى من إدراك الناس عبر حياتهم الجمعية ويعرف أموراً لا يمكنهم ان يصلوا إلى معرفتها - فالوحي الإلهي إذن : يتعالى على المعرفة الموضوعية، وهي كل ما يمكن للبشر ( أو أي كائنات عاقلة ضمن الكون ) الوصول إليه، لأنه يتجاوز حدود الطبيعة الثنائية الفاصلة بين الذات والموضوع والحاكمة للاتصالات في العالم الموضوعي ، أي : حتى الفضائيين ، والحضارات الفائقة تقنياً ، لا يمكنهم توفير حالة وحي لها هذه الخاصية.
الوحي نور ينبعث من "قوة الحياة الداخلية" وراء البدن والنفس، وهذه القوة المتصلة بالحياة، مجردة عن أي افتراضات ذهنية عن الواقع وأي معارف تأتي من ضمنيات العالم الخارجي ، ولهذا السبب تتعالى علوم وكشوفات الأنبياء عن المعرفة الإنسانية العامّة.
الوحي يصل بين الروح في الإنسان وبين المُطلق الإلهي ، وهذا الجوهر الحي للوجود المتصل بالذات مباشرة يعطي للدعوة النبوية مقاماً يتعالى على كل ما يوفره (التكوين الإنساني) _ وفعلاً ، هذه هي الدعوة الحقيقية في كافة الأديان، دعوة الأنبياء للناس أن يخرجوا من ناسوتهم أو حالة النسيان المستمر للحضور، وهذا أيضاً هو السبب الحقيقي في رفض الناس لرسائل الله عبر العصور ، لأنها تحاول "تحرير" الإنسان من حالة "نسيان الوجود الحقيقي" وتريد منعه من الانشغال عن الله بأنانيته المجتمعية، ورفعه عن منازل كينونته المادية، وتعيده ولو قليلاً إلى رحاب العالم الأكبر.
{2} الإدراك التاريخي لدين الإسلام هو "نقل" تركيز الانتباه على الإسلام من "المعنى" إلى "النَسَق" :
سؤال التاريخ : إذا أمكن العثور على الأصول التاريخية لما تحتويه الرسالة النبوية ، فلما لا يكون ممكناً تبرير "حدوث الرسالة" دون تعليله بتأثير ثوة فوق بشرية ساهمت ببعثها، وبالنسبة إلى إنسان التاريخ، فذلك هو أهم شيء يمكن الحديث عنه بخصوص الإسلام والدين ، إنه محاولة إقصاء أي فكرة أو مجال لتصور حدوث اتصال من الله مع البشر.
سبب أهمية البحث في الأصول التاريخية ضمن إلمذهب الاستشراقي ، أنها إذا وُجدت في مرحلة "تسبق دعوة النبي نفسها زمانياً"، فمن المُحتمل وجود أصل مشترك بين الدعوة النبوية والواقعة التاريخية على الأرض، دون تدخل قوى السماء ، وحدث دون أمر مباشر من الله ، فتكون أقدم الدعوتين هي الأصل والثانية هي ترجمة أو تعديلًا عليها، أو لهما أصل مشترك يسبقهما معاً.
مثال ؛ إذا بدأتَ (أنت) اليوم بالإعلان عن دين جديد، وقلت في كتاب تقول أنه مقدس :
"لا تسرق - لا تزني - لا تقتل - أطع أباك وأمك - هناك خالق للكون وهناك يوم ينتهي فيه هذا العالم ويأتي الحساب …."
السؤال الطبيعي الذي سيُطرَح عليك : ما الذي تقدمه في رسالتك ليكون هناك معنىً لوصفها ب"دين *جديد*" ؟
كل ما ذكرته موجود، كتابك هذا مجرد تغيير شكلي على كتب الأديان السابقة، فلِما تتوقع أن يصدق الآخرون أنه قد نزل عليك وحي ؟
إذا كان كل ما تقوله موجوداً في كتب مقدسة متقدمة عليك زمنياً ، كالقرآن والبايبل والإنجيل ، فما معنى أنك أتيت ب"دين جديد" ؟
لاحظ بيقظة: الذي يجعل الناس تشكك في دينك ودعوتك اليوم ، هو أنها ليست "رؤية كونية" جديدة، وبالتالي لا يوجد قيمة محورية خارج علاقتك الشخصية بما تقدمه، فقضيتك المحورية هي : هل أنت رسول أم لا - من سيعتبرك رسولاً سينتمي للدين الخاص بك ومن لا يعتبرك رسولاً لن ينتمي لدينك ، والسؤال المهم هو : ما مدى اهتمام الله بإقناع الناس بأن "شخصاً معيناً" هو رسوله كغاية نهائية لبعثه ؟ أم أن الله له حكمة بالغة من ذلك ؟
حسب دعوتك التي قدمتها وتريد أن يصدق الناس أنك رسول ، ذلك هو فقط الجديد والمهم والمَركز ، لكن هذا التصديق العقلي لا يغير أي شيء في الرؤية الكونية ، ولا يؤدي إلى القيم التي يجب أن يوفر الدين طريقاً إليها عبر الحياة، بل ستكون القيم غائية ، وسيستحيل الدين إلى جدلية منطقية.
حدث ذلك ببساطة لأن قضية دعوتك المركزية هي "من أنت" وذلك لا يقدّم شيئاً جديداً كونياً ليكون هو المحور البديل عن محاور الأديان الأخرى…
أما إذا كان هناك فعلاً تجديد حقيقي تقدّمه فسيكون هذا التجديد هو المحور ، وستكون أنت في دور الرسول المبلّغ للمحور ، لا في دور المركز المنطقي ، وتصديق الصالحين من الناس أنك رسول سيحدث عفوياً كنتيجة لإدراكهم المعنى الحقيقي القيّم لدعوتك الكونية.
وما يريد المستشرق فعله : نقل هذه الإشكالية من العصر الحالي إلى الأديان السابقة ، فيقول :
"ماذا لو كانت محتويات دعوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام موجودة سلفاً في الأديان التي سبقته ؟ إذن لما افتراض أنه رسول جديد ، ما دام لم يأتِ بشيء جديد؟"
{3} دوافع …
قبل التجني كثيراً على المستشرق ، نكون منصفين إذا قلنا أن رؤية المستشرقين للإسلام كظاهرة تاريخية ، هي النتيجة الطبيعية للصورة التي ظهر بها الإسلام عالمياً.
ويجب أن نكون منصفين وقوامين لله شهداء بالقسط : هل نحن المسلمين والعرب نقلنا صورة حقيقية وتعبر فعلاً عن الإسلام كرؤية كونية لا كظاهرة مجتمعية ؟
المستشرق يعتقد بحكم التربية والتوريث أن انتشار الإسلام أساساً هو نتيجة غياب المسيحية عن أراضي المسلمين لأسباب سياسية مما سمح بإعادة قولبة الدين المسيحي ، والمستشرق معه عذر نسبياً لأنه يمتلك فكرة راسخة في عقله الباطن _كأي أوربي_ عن الإسلام كشيء ليس بجديد، ولا يمكن إلقاء كل اللوم عليه، وعلى "حقده" المزعوم على العرب و"أطماعه" الاستعمارية بينما لمنقدم صورة صحيحة ومرتبة عن دين الإسلام للعالم، ففي النهاية لم تكن وظيفة المستشرق يوماً أن يتعلّم العربية والتأويل ويعرف الإسلام بمعزل عن المسلمين والتاريخ ، وهذه مهمة لا يقوم حتى المسلمون بها، ولم يكن باستطاعته ذلك أصلاً ولم يعطه المسلمون لذلك أي تحفيز.
لن تنفع شيطنة المستشرقين أمام نقدهم الممنهج للتاريخ ، لأن رؤيتهم الابتدائية عن الإسلام مختلفة جذرياً عما تعتقده.
لكن ما سينفع حقاً هو إعادة تأويل الدين والقرآن كما هو عليه وإبلاغ العالم الحقيقة.
القرآن الكريم لم يُترجم !!..
هناك سبب خاص جداً وهو الترجمة التي تُقدَّم للقرآن الكريم عالمياً ولا تليق بدقته وبيانه ولا تحاكي المعاني الوجودية التي يبلغ الله الناس عنها .
مثلاً يتم ترجمة كلمة "الأرض" ب Earth والسماء ب Sky , Heaven مما يعطي انطباعاً ان القصد من كلمة الأرض هو "كوكب الأرض" وكلمة السماء تدل بنفس الوقت على كل من "الغلاف الجوي" و"الجنّة" ، مما يعطي انطباعاً أن كتاب القرآن العظيم ، يصف الجنة وكأنها موجودة في الغلاف الجوي للأرض ، وكأنه خيال طفولي.. هذه الصورة التي تنقلها الترجمة إلى العالم.
مثال آخر وهو ترجمة آية قول الله عز وجل {( عالِم الغيب والشهادة الكبير المتعال )} التي تُكتب كالتالي (2) :
"the Knower of the unseen and the visible, the All-great, the All-exalted"
"He knows the unseen and the seen"
"الذي يعرف اللامرئي والمرئي صاحب العظمة الكلية والمجد الكلي" …
هذه العبارة تصلح في ترجمة رواية فنتازيا كلاسيكية، ولكن كيف يمكنهاأن تصف المعنى الذي يقصده الله ؟
القوة المعنوية في عبارة "عالِمُ الغيب والشهادة" لا يمكن ترجمتها بطريقة مقتضبة ، لأن المعاني القرآنية تصف عالماً آخر غير هذا العالم أو بالأحرى أكبر منه.
"العالِم" هو اسم لله ، وأسماء الله الحُسنى ذات معاني خاصة جداً في الرؤية الكونية في الإسلام. وكلمة "يعرف" تدل على حالة محدودة تكوينياً يختبرها البشر ، واستخدامها يعطي للأجنبي إيحاءً أنك تصف الله تعالى وكأنه "شخصية بشرية".
علم الله بالموضوع يعادل وجوده ، حقيقة وجود الموضوعات وحقيقة علم الله بها حقيقتان لهما جوهر واحد وتعبيرات مختلفة، وهنا بالضبط تكمن أهمية الرؤية الكونية للإسلام.
ومعنى "يعرف" وهو تحصيل المعرفة من الخارج أو تلقيها السالب يناسب إنساناً، لا يناسب وصف الله عز وجل.
وأحب أن أذكرك لعلك لا تنسى … أن الحديث حالياً عن علم الله…
تأمل كيف يريد كتاب الله كشف الحقيقة للناس ، لا إخبارهم بقضايا ذهنية مغلقةوجب عليهم التسليم بها دون تحقيق ، بل الكتاب مفاتيح لإدراك الحقيقة.. ما وراء الظاهر بكثير …
مبحث "العلم الإلهي" له مجال كامل في رؤية علوم الإسلام.
ومعنى "الغيب والشهادة" بعييد جداً عن فكرة ( المرئي واللامرئي ) ، هذا شبيه بمقارنة نظرية المُثُل الأفلاطونية بفكرة البعبع الذي يخيف الأطفال.
باختصار غير مخل :
"علم الشهادة هو الذي تتحد فيه الذات العالمة بالوجود المعلوم ، وعلم الغيب هو ما يفارق فيه الوجود مشاهدة الذات المباشرة ، فالغيب هو الحق المفارق للذات موضوعياً فلا تعرف عنه شيئاً ، والإنسان لا يعلم الغيب ولا يمكنه أن يعرف عنه إلا على سبيل الظن والتصور الذهني وسد الفجوات.
والله هو "العالِم" ، عالم الغيب والشهادة ، لأن كل شيء يبدو غائباً عنك يكون حاضراً إليه ، فلا يوجد غيب عن الله ، لأن الوجود متحد بحضوره وتجليه.
هناك فرق جوهري في المعنى بين "العظيم" و"الكبير" ، وبين "صاحب المجد" و"المتعال" ولو كانت هذه الكلمات مجازية المعنى وتهدف إلى التحية لأمكن تجاوز الفرق في الدقة العلمية للمعنى ن ولكن الآية تريد إبلاغ حقيقة محددة ، وليس فقط التعظيم والتمجيد ، وهذه الحقيقة تحدث فرقاً كبيراً جداً في المعنى، لكننا لن نتطرق له حالياً.
هذه بعض النماذج فقط للطريقة التي تعرض كتاب الله على العالم الغربي خصوصاً ، وعلى العالم الإنساني عموماً ، ولا أدري ، ينبغي حقاً أن نظهر احترماً لسمو وجدان أولائك الغربيين الذين تأثروا بالقرآن الكريم وأسلموا رغم الترجمة السيئة وتشويه المسلمين لصورة دينهم ، حقاً رائع وغريب أن يوجد ولو قليل من المنتسبين جدد إلى دين الإسلام من بلاد لا تنطق العربية أصلاً مثل الصين واليابان والعالم الغربي في ظل هذه الظروف.
الاتجاه الحداثي المادي في الاستشراق - تطبيق المنهج التجريبي على الدين :
يقول الحداثي - والاستشراقي : إن التفسير الذي يدعو أن الله يهمه شؤون الناس ويتدخل في حياة البشر ليهديهم من الظلمات إلى النور عن طريق وسيط بشري منهم ، سيكون تفسيراً معقداً جداً ( بالنسبة لرؤية إنسان حداثي ) طالما أنه غير قابل للفهم المقيد بقدرات المعرفة البشرية الجمعية ( العقل والحواس ) أي التجريب والتأريخ.
ما تنص عليه "شفرة أوكام" وفق المنطق المادي :
"إن التفسير الأبسط هو الأكثر دقة وأناقة وأفضل لاختياره ، والفرضية الأصلح هي التي تتطلب أقل قدر ممكن من الفرضيات الإضافية لتفسيرها."
فإذا وقع قلم على الأرض من دون سبب محدد : سيكون التفسير البسيط هو أن الرياح حركته- أو اختل توازنه. ، وسيكون التفسير المعقد هو أن الأشباح حركته - أو الفضائيين حركوه.
فرضية سقوط القلم بفعل الأشباح والفضائيين تبدو معقدة جداً ليقتنع بها الإنسان العادي، مع أنها متاحة وممكنة فلا شيء يمنع ذلك ، ولكن.. ( كيف وصل الفضائيين - ما غايتهم - كيف لم تشاهدهم …. ).
ومع ذلك ، سيكون الأمر معكوساً تماماً بالنسبة لشفرة أوكام حسب هذا الفهم المتداول ، عندما يحاول أحدهم تفسير موضوع ذو طبيعة غير مادية، مثل "الوعي" ، فالفرضية التي تقول إن أبسط التفاسير هي الأقرب للواقع المادي ستكون صحيحة طالما الظاهرة المراد تفسيرها موجودة ضمن الواقع المادي ، ولكن ماذا عن معطى ليس له طبيعة مادية محلية ، مثل "تيار الشعور" ؟
سيبدو تفسيره المادي معقد جداً حتى على مستوى إقناع الذهن ، مثلاً : _ إذا كان الدماغ هو المسؤول فعلاً عن ظاهرة الوعي ، فلماذا الوعي مركزي بينما الخلايا منقسمة ؟ لماذا الوعي واحد بينما الخلايا كثيرة ؟ كيف يتم فهم الكليات بأداة مادية وهي ذات طبيعة غير مادية ؟ كيف نفسر ظاهرة أولائك الذين يمتلكون وعياً طبيعياً ويعيشون بدون دماغ تقريباً ؟ كيف يمكن الإحساس بالوعي على نحو مختلف عن الإحساس بالمادة ؟ ما الذي يحوّل المادة المركّبة إلى وعي بسيط ؟ ما الرابط بين الوعي والزمن ؟ كيف يمكن للإنسان التفريق بين العالم الخارجي وفرديته ؟ كيف يمكن التفريق بين الأفعال الشعورية الإرادية والأفعال اللاشعورية المنعكسة ؟
إذن سيكون توظيف شفرة أوكام متناسباً مع طبيعة الموضوع ونوعية وجوده ، وسيكون التفسير الأبسط هو المتوافق مع طبيعة الظاهرة المدروسة أو المُعطاة ، والأقرب إلى مجالها الوجودي ، وسيكون التفسير الأعقد هو البعيد عن نوعية وجودها ، وعلى هذا النحو سيكون من غير الأنيق وغير العملي تفسير ظواهر مثل "الوعي-العقل-المشاعر-الإرادة-الوجود-نظام العالم الهيكلي-التفاعل الزمني الجوهري" … من خلال المحاولات المادية.
سيكون غير أنيق إلى درجة وجود (آلاف الكتب) تحاول تفسير الوعي مادياً دون جدوى وتنتهي دائماً بالقول "مسألة الوعي لا معنى لها".
التوظيف السيء لشفرة أوكام في محاولات قطع صلة الإنسان بروحه :
الحقيقة التي ربما لا تعرفها ، أن تعميم مبدأ حلّاقة أوكام (بالصيغة التي يعتقد الماديون بها) يعني امتناع الاعتراف بأنواع الإدراك المتعالي أو الميتافيزيقي أو المعرفة الحيوية والحضورية الغير ذهنية ، مهما كان نوعها. وذلك يشمل المشاعر الوجدانية، كالسعادة والألم والرحمة، وبالنسبة للمادي : سيكون كل مُعطى إدراكي يُخالف شفرة أوكام شيئاً يجب الابتعاد عن الاعتراف به كذلك، ومن الواضح أن هذا ما يحدث فعلياً، فالسعادة الوجدانية أصبحت شيئاً "مُعقّد" لأنه من الصعب تفسيره ذهنياً منطقياً ، وبما أنه غير قابل للتفسير بطريقة ذهنية يكون فيها موضوعاً غيابياً قابلاً للتشريح، فسيتم رفضه واستبداله بمفهوم آخر : "سعادة الدوبامين" (الغير مُعقّد).
السر الوحيد في صعوبة تفسير مشاعر السعادة الوجدانية هو اختلاف طبيعة وجودها عن طبيعة الوجود المادي الموضوعي ، ولذلك تبدو له شيئاً لا يعرف كنهه ، ولكن جرّب أن تدرك السعادة حضورياً وستجد أنها أوضح من المادة نفسها ، ولكن تعليلها مادياً مستحيل لأن وجودها ينتمي لمستوى آخر.
المشكلة أن نظام العالم الجديد يحاول طمس تلك العلوم الحضورية المباشرة من خلال التغطية عليها ، وهذا يؤدي مع الوقت إلى تحول الإنسان إلى آلة!
تذكر دائماً أن "التقدم الحضاري التقني المُفرِط" علامة خطيرة جداً تعني أن الإنسان لم يعد قادراً على الاتصال بروحه والتعايش بمحبة وجمال، ولذلك يقضي الحياة في تطوير وسائل وأدوات استهلاكه الموضوعية، حتى يحس بالإشباع ، والنتيجة النهائية هي "وحشية الإنسان المفرطة" لأنه لا يحس بشيء اسمه الضمير، وليس له دوافع سامية، يمكنه أن يفترس أي شيء وكل شيء ما دام لا يوجد عقاب، وهذا هو السبب الحقيقي في القوانين شديدة التعقيد وإجراءات الرقابة الحديدية إلى حد مضحك، حتى تمنع الإنسان من إطلاق وحشيته على مصراعيها.
هذه تذكرة لعلك تُدرِك حقيقة التطور الحضاري من منطلقات المادية ، هذا إذا كان لا يزال متاحاً إدراك ذلك ، بعد أن لوث نظام العالم الجديد تفكير البشر..
المستشرق _ في أكثر الأحيان _ يريد منذ البداية الوصول إلى نتيجة محددة، قررها قبل وصوله لها ، وقبل أن يبدأ بحثه ودراسته، وهي تفسير الدين وفق الرؤية المادية.
لذلك لا تنصدم عندما تقرأ للمستشرقين ، لأن النتيجة التي يرغبون الوصول إليها مقررة قبل بداية البحث _ قبل أن يعرفوا ما هو الإسلام وهل هو الحق _ هذا بشكل عام ، مع أن كثيراً من دراسات المستشرقين لها قيمة منهجية، والكثير منهم اتخذ موقف الحياد أو حتى الانحياز للإسلام.
الاتجاه المادي في الاستشراق له هدف أبعد من رد الإسلام إلى العامل البشري ، وتحليل بنية الإسلام التاريخية وتفكيكها عن بعضها وربطها بالتطورات الإنسانية لم يكن لأنه في حرب مع الإسلام بالتحديد، لكن هذه مرحلة في مشروع الحرب ضد الرؤية الحيوية، فالمذهب التاريخي يرى جميع الأديان والدعوات من نفس المنطلقات ويتعامل معها بنفس المناهج.
{4} المنهج النقدي الاستشراقي (الشرح الكامل) :
وثائق الاستشراق :
حسب الاستشراق : الوصايا التي يدعو إليها النبي محمد ، مثل التعاليم الأخلاقية ، والدعوة إلى الإحسان ، أو النهي عن السرقة والزنى والقتل وعبادة الأوثان ، كلها كانت موجودة في التناقلات عن أنبياء سابقين ، بالنسبة لمراقب محايد قد يكون الرسول محمد اقتبسها منهم.
لاحظ أن بعض الروايات تَنسبُ إليه أنه كان "يحسن القراءة والكتابة فعلاً" مثلاً (3) :
"عن ابن عباس، قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» قال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا" روايات أخرى ذكرت "ائتوني بدواة وقرطاس" أو "بدواة وكتف"
ذكرت بعض الروايات أنه يجيد عدة لغات كما في رواية ابن الرضا (4) :
كان رسول الله [صلى الله عليه وآله] يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً، أو قال: بثلاثة وسبعين لساناً، وإنما سمي الأمي، لأنه كان من أهل مكة. ومكة من أمهات القرى، وذلك قول الله عز وجل: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)
هناك أشعار فلسفية صوفية ، تذكر معلومات ميتافيزيقية تشبه التي يذكرها القرآن الكريم ، وتستخدم أحياناً نفس ترميزه ( نفس العبارات والأسماء ) ولعل أهمها أشعار "أمية بن الصلت" (5) _يقترح المستشرق "كليمان هوار" أنها تعود إلى حقبة ما قبل الإسلام_ ، والتي تتحدث عن الله عز وجل ، وعن ( سماوات وعوالم ) لا توجد في هذا العالم ، وتختلف عن نوعية وجوده :
إلهُ العالمينَ وكلَّ أرض وربُّ الرّاسيات من الجبالِ … بناها وابتنى سبعاً شداداً بلا عمدٍ يرين ولا رجالِ
و سوّاها وزيّنها بنور من الشمسِ المضيئةِ والهلالِ … ومن شهب تلألأ في دُجاها مراميها أشدّ من النصال
وهذا يعني ( على شرط صحة النسبة وتاريخها ) أن "مفهوم التوحيد" كان موجوداً ومعروفاً في تلك الأيام السابقة على الإسلام ، وحتى معنى السماوات السبع وتعدد العالمين لم يكن غريباً تاريخياً قبل بعث الرسول عليه الصلاة والسلام، والأهم من ذلك أن "الكلمات" و"العبارات" وطريقة التعبير والترميز التي استخدمت للحديث عن هذه الأمور "المعاني" لم تختلف بعد البعثة عن ما قبلها ، رغم أن مثل هذه الأشعار قليل الوجود وليس من المعروف حقاً متى تم تأليفها، ولكن المستشرق يسأل : لما لا تكون سابقة زمنياً على البعثة ، ولما لا يكون هناك الكثير غيرها من نفس الجنس اندثرت عبر التاريخ ..
ويُتبع كلامه : إذا كان هناك الكثير من المعلومات التي تتوافق مع ما يخبرنا به القرآن الكريم والموجودة في حقبة سابقة ، فما الجديد في "الدين الإسلامي"؟ يسأل المستشرق : هل النبي اقتبس من العلوم السابقة تاريخياً عليه ووضعها في كتاب جامع منظّم وأسماه القرآن الكريم ؟
لما يجب أن يتم افتراض حصول حالة وحي إلهي ، بينما يمكن تفسير الأمر بمنطق تاريخي بشري مادي ؟
الطريقة التي يتم التعامل بها مع الرؤية الاستشراقية لوجود مصادر تاريخية اقتبس الإسلام منها محتواه هي طريقة (الرد على الشبهات) فكلما يأتي اقتراح جديد من مستشرق عن تاريخ الإسلام ونشأته يأتي رد من أحد الباحثين المسلمين على قياس اقتراح المستشرق بالضبط ، ومع أن هذا جيد نسبياً ولكنه لا يعمل ، إذ أن عدد اقتراحات المستشرقين (الشبهات) ضخم جداً ويتزايد دائماً ، فالتاريخ مجال خصب لزراعة الافتراض. وصعب أن تتوقع من قارئ غير متخصص الاهتمام بكل هذا السرد الطويل من المستشرقين والردود من أجل الوصول لنتيجة افتراضية بسيطة.
كل شيء يُنسَب إلى أدغال التاريخ ، لا يمكن إثباته بالمطلق، ولا يمكن نفيه بالمطلق، والبحث عن الحقيقة ليس عملية جمع جزئيات افتراضية.
السؤال الذي يطرحه المستشرق ويعتبره سؤالاً وجيهاً ومنطقياً :
_ إذا تساوت الاحتمالات ، لماذا التسليم بحصول حالة تجاوزية للوعي البشري التقليدي (حالة وحي) أدت إلى بعث الرسول محمد صل الله عليه وسلم ، بينما يمكن اللجوء إلى الاحتمال الأقرب للعادة والمنطق الطبيعي ، وتطبيق معيار "شفرة أوكام" : إزالة الفرضية التي تستدعي عدداً ضخماً من الفرضيات - إزالة الاحتمال الذي يستدعي تفسيراً معقداً -. النتيجة هي : اعتبار الدعوة المُحمدية موجودة ضمنياً في مرحلة تاريخية سابقة على بعثة النبي ، ودور النبي هو جمعها وتركيبها وترتيبها ، وتكوين دين منظم بناء عليها. ثم نشر أعماله بين الآخرين ، معتمداً على مغناطيس شخصيته الفذة والقوية، وتميزه بالذكاء الحاد والطموح المجنح، مما يعني ، أن الدين تكوّن بفضل "ذكاء النبي محمد وطموحه العظيم ، وثقافته العالية ، وغرابة رؤيته ، وهي جميعاً عوامل يمكن أن تكون بشرية.
_ ومع أنها عوامل ذات أساس بشري، ولكن يبقى من الصعب جداً أن يصدق الباحث أنها شائعة وطبيعية كالتي نعرفها عبر التاريخ ، صحيح أن الذكاء والجاذبية والقوة موجودة في الإنسان طبيعياً ولكن إلى أي مستوى بالضبط ؟
ما مقدار المغناطيسية والذكاء الذي ستحتاجه لتكوين منظومة دين عالمي له كتاب مقدّس مصمم بطريقة موسيقية وبلاغية وواضحة وتدور عن ميتافيزيقا الحياة والأنطولوجيا وتستدل من تلك المقدمات على مصفوفة بقية الدين ؟ هل هناك مجال لصناعة دين يمكنه البقاء لقرون وتحمل تغيرات الوعي الجمعي ؟ يتفرع عبر الأرض ، ويتصل بكافة مجالات الحياة وتؤسس عليه حضارة وثقافة وفنون وفلسفات، وتكتب عنه كل هذه السجلات الهائلة من القراءات والتأويلات والنقود التي بين أيدينا، ويشغل فكر العالم بأسره كل تلك العصور ، ما بين النقد الدقيق والاستهزاء والسخرية والتجريح ، وبين الإعجاب والفحص والتزلزل النفسي والإيمان…
ربما كل هذه الغرابة لا تجعل إلهية القرآن حقيقة نهائية لا ريب فيها ، ولكن أي باحث له بعض الحس الدقيق يستحيل أن يعتبرها "غرابة من النوع التقليدي" أو "قابلة للتفويت!" ، وهذا الاستثناء سيولد بالضرورة انتباه الأعين اليقظة ..
حتى أوضح للقارئ الصورة جيداً ، كيف يبدو النبي مُحمّد في أعين الذين يقرؤون الإسلام ببحث جاد وحقيقي :
"محمد ، أعظم رجل عرفه التاريخ. أحدث في البشر أعظم انقلاب عام في الدين والسياسة والاجتماع، وقد أوجد هذا الانقلاب بواسطة نهضة عربية المبتدأ عالمية المنتهى، بدلت مجرى الحياة الإنسانية وحولتها إلى ما هو أعلى مما كانت عليه قبلها حتى أن آثارها في قليل من الزمن عمت الشرق والغرب ولم تزل آثارها باقية إلى يومنا هذا وستبقى إلى ما شاء الله. إن تلك الشخصية العظمى التي يمثلها شخص محمد بن عبد الله في بني آدم قد اجتمع فيها من عناصر الكمال البشري ما لم يعرف التاريخ اجتماعه في أحد قبله : عزم لا یرده راد وتفكير عميق الغور بعيد المرمى، وخيال واسع قوي يكاد يقاوم الحقيقة بقوته، وطموح إلى العلى لا يعلو عليه طموح."معروف الرصافي (6).
«إنّ محمداً مع كونفوشيوس وزرادشت أعظم مشرعى العالم» فولتير
«إنّ طريق محمد فقط هو الطريق الذي يوفر حلولاً لمشاكل العالم» جورج برنارد شو
«لا إنسان أعظم من محمّد» لامارتين
"الإسلام هو أكثر الأديان عقلانية" المؤرخ ت. أرنولد
"من يُنعِم التفكير في سيرة هذا الرّجل يرَ نفسه منساقاً إلى الإقرار بأن ما حققه وقام به يكاد يكون من دنيا غير التي يعرفها البشر". ثمّ قال: "لا، ليس بين الرّسل واحد كمحمّد عاش رسالته عميقاً وصُعِداً، ذائب الكيان، عاصف البيان، شديد الإيمان.. لكأنّي بمحمّد آلى على نفسه أن يترك للمؤمنين ثروة روحية وأخلاقية، ينفقون منها فلا تنضب ولا تشح، لأنها بحجم روحه، وهل روح النبيّ تنضب أو تشحّ؟". نصري سلهب (7).
ذلك يعني أن أي تفسير سيحاول أن يهمل وجود "الغرابة" فائقة في القدرات النبوية لن يُقدر له الإقناع والنجاح على المدى الطويل ، وهذا يُحتم على نظرية الدين بشري التكوين والنشأة أن تحاول تفسير وجود هذه الغرابة ، وتقطع مجال الإحساس الطبيعي بوجود تميز "نوعي" للرسول محمد عن البشر.
وجود هذه القدرات بحد ذاته يحتاج إلى تأمل طويل من قبل الباحث. قدرات النبي محمد كما وردت في السيرة فائقة ، ولكن "تخليق دين كدين الإسلام" من قبل شخص واحد، مسألة تتعدى القدرات العالية … يمكن لهذا الموضوع لفت نظر القارئ من أي مستوى، خاصة إذا كان يقرأ الإسلام للمرة الأولى في حياته ، قبل أن يعتاد عليه ( مثل حضرتك غالباً).
النظرية النهائية للاستشراق : المؤامرات التاريخية تصنع الأديان !!..
لتفسير هذا الغريب، وفق شِفرة أوكام، والوصول إلى "أبسط شكل للتفسير" ، كل ما يمكن فعله هو "افتراض" "توزيع" هذا الذكاء والقدرات على عدة شخصيات عاشت عبر عدة أزمنة وأمكنة ، سيكون كل منها استثناء ولكن بمستوى معقول ، حتى لا يكون هناك ظاهرة مضيئة جداً مُركّزة في شخص واحد بحيث يلفت الانتباه بسهولة . وهذه هي النظرية الاستشراقية الأكثر حداثة والتي "تُنكر" وجود شخصية اسمها محمد.
نص النظرية : تخليق دين الإسلام (وأي دين آخر) يمكن تفسيره بأحد الطريقتين :
_ تسلسل طويل من الأحداث التي تراكمت وشكلت وحدة الإسلام وهي الفرضية الخاصة بكارل أوليغ ، أن الإسلام بدأ من نصوص سريانية وآرامية مسيحية تم نقلها إلى العربية بشكل غير دقيق تحكي عن السيد المسيح عسيى بن مريم ، ثم دخلت عليها مؤامرات لتحوّلها من الإطار المجهول الذي سببته الترجمة إلى إطار ديني جديد.
_ مجموعة كبيرة من النخبة، تآمرت لاختلاق "دين عام" وفرضته على شعوب العرب ، وحدث ذلك غالباً في عهد الأمويين "عبد الملك بن مروان" وكانوا شبه منتدبين من قِبل الامبراطورية الرومانية على بلاد الشام، وكانوا يعرفون ( أو لديهم من يعرف ) تعاليم الأنبياء القديمة وطريقة تفكيرهم ، واجتمعت لجان من أصحاب الخبرة والعلم والذكاء، وحاكت رواية سمتها "السيرة النبوية" وقررت بناء الإسلام عليها… والهدف من ذلك كل إعلان بداية نظام حكم جديد يسمح بالتمرد على الإمبراطورية الرومانية المسيحية.
وفي جميع الأحوال ، انتقل الإسلام من حالة تفكك ضبابي لبعض محتويات الديانة المسيحية إلى حالته المستقلة كدين خاص ، له طقوسه ونظريته.
وأثناء هذا "الانزياح الديني العظيم" التصقت بالإسلام معتقدات من ديانات الشرق كوّنته بهذه الطريقة الفريدة.
وحسب المستشرق : فرضت رواية السيرة على عامة الناس وجرّمت محاولات التشكيك فيها ، ومرت الأيام حتى صدقها الجميع جيلاً بعد جيل وأصبحت دين الدولة.
هذه هي الصورة المكتملة لما يمكن للرؤية الاستشراقية أن تقدمه لتفسير وجود الدين الإسلامي، وهذه "النظريات المتشعبة للمؤامرات التاريخية" التي يتحدث المستشرقون عنها، ولدت من اعتقاد المستشرق، كإنسان متحضر ، استحالة توافق الرواية الدينية مع العقل من ناحية المبدأ لأنها … "تتطلب تفسيراً .. مُعقداً".
الأديان الأخرى …
فقط أحب أن أنوه لأنني أكره السذاجة : إن كنت مسيحياً أو يهودياً فلا تتوقع أن "الاستشراق المادي" يحاول مساعدتك ويهتم بإثبات صدق ديانتك ، فالديانات بالنسبة لهم تقع في نفس الخانة بغض النظر عن تاريخها ومعانيها، وسيقولون لك ما قالوه لغيرك : جاءت الديانة التي تعتنقها بنفس الطريقة التاريخية المادية ((البسيطة)) التي جاء بها الإسلام المحمدي ، الانزياح الديني ، والمؤامرة السياسية، والشخصيات الخيالية.
المسيح بالنسبة لمن نقدوا القرآن الكريم أيضاً شخصية خيالية ، وينتقدونه من نفس المنطلقات ، وموسى كذلك شخصية خيالية ، وبوذا كذلك ، لاو تزو وزاراديشت ، وجميع من دعا إلى الحق المطلق وانتسب إليه بنظرهم خيالي وإن لم يكن كذلك فهو مجنون.
ودائماً ستجد أن هناك مؤامرة تاريخية تُحاك بين مسيطرين وعلماء ، لنسج قصة الدين كما تُعرض للعامة، وذلك لمجرد أغراض سياسية.
{5} حقيقة لابد منها …
أو ثلاث حقائق متحدة جوهرياً …
[1] الفرق بين التعليل الكوني والسببية الظاهرية :
اهتمام الإنسان الكبير بالتاريخ الافتراضي يعود إلى علة سيكولوجية وهي إيمانه العميق ب"السببية المادية" ، ويفعل ذلك رغماً عنه تحت تأثير الضغوط النفسية اللاشعورية التي تحكم وعيه وحياته وتوجههما بأقفاص تأويلية معينة، تحتم عليه قبول الكثير من الافتراضات المسبقة "تنجباً للقلق" و"طلباً للحياة" بصيغتها الدنيوية.
تذكّر دائماً أن "التاريخ لا يثبت أو ينفي شيئاً" بالمعنى المطلق ، كما أن "التسجيل والتوثيق" التراكمي لا يثبت أو ينفي شيئاً بالمعنى المطلق … لأن هذه الوسائل لا تتعامل مع المعاني ولا تبحث عن الحقائق.
التاريخ يبحث في السببية الظاهرة مادياً ، ولا يهمه السعي إلى ما وراءها ، والعلل الحقيقية للأحداث ليست سببية ، لأن السبب والنتيجة غير متحدان بعلاقة ذاتية ، بل هما مقترنان بالنسبة للراصد فقط ، والراصد يرصد ظاهرهما ولا يدرك تعليلهما.
تعليل الظاهرة يتجاوز مرحلة فهم أو معرفة ما قبلها من الأحداث الظاهرية مثلها، اقتران حركة القمر الدموية بعواصف المشتري الكهرومغناطيسية لا يعني أن هذه العواصف هي السبب في القمر الدموي
رؤية شخص معين كل يوم في موقف الحافلة قبل لحظات من وصولها ، وغيابه في الأيام التي تغيب فيها هذه الحافلة لمدة عشرين سنة متتالية لا يعني أن السبب المباشر في حضور الحافلة هو حضور الشخص ، ولا أن سبب غياب الحافلة هو غياب الشخص ، وكذلك لا يعني العلاقة العكسية (سبب حضور الشخص متعلق بحضور الحافلة) ربما هناك علّة أعمق من ذلك ، مثل أن يكون صاحب الحافلة والشخص مرتبطان بعمل آخر ، يتطلب التفرغ له هذه الأيام بالذات مع أنهما لا يعرفان بعضهما.
هذا تبسيط جيد لفكرة اختلاف العلّة عن السبب ، ومع ذلك للتقريب … نقول إن هناك ساعتين، تعملان على الطاقة الكهربية وتستمدان معلومات الوقت من خلال شبكة الواي فاي، وهذا يعني أن العلاقة بين الساعتين وتناظرات حركات العقارب أو الأرقام في كل منهما ليست لأن أحدهما يؤثر على الأخرى، ولكن لأن "هناك قوة خفية تتجلى في كل منهما بنفس الطريقة"
ولجعل الصورة أمامك مباشرة :
الآن .. إذا تعطلت الساعتين معاً أو تغير وقتهما بشكل غير صحيح معاًوصارا يشيران لنفس الوقت الخاطئ، هل نقول إن أحدهما أثرت على الأخرى بسبب تغيرها الظاهري ؟ أو أن "العلة في تكوين نظام الزمن لكل منهما" قامت بالتأثير عليهما معاً وغيرت حركتهما ؟
أترك الجواب لك ….
إذا كان "أ ب" حدثان زمنيان مقترنان معاً في الزمان والمكان دائماً حسب الأرصاد، فهذا يعني أن العلاقة بين "أ-ب" سببية ، وأن الاستقراء العام يقول : غالباً ستتلازم أ و ب في الوقوع دائماً.
أما الرابط الحقيقي بين توافق حركة الزمن لكل من "أ" و "ب" ، إذا كان هذا التوافق حتمياً ، هو رابط ذاتي ، متأصّل في تكوينهما الوجودي ويوحدهما ذاتياً (أي أنهما شيء واحد له مظهرين) هذا إذا كانا يفسّران بعضهما حقاً أو يشيران إلى علاقة وجودية حقيقية بينهما..
وإليك مثلاً من الهندسة: هل العلاقة بين المثلث وزواياه ، أو المربع وزواياه، علاقة ظاهرية أم علاقة "تكوينية" ؟
هل يمكن أن يكون يختلف قياس زوايا المربعأو مجموع زوايا المثلث ؟ هل كشف أن زوايا المثلث = قائمتين معتمد على "قياس الزوايا الخارجي" ؟
إذا كنت ستعتمد على "استقراء آلاف المثلثات" للوصول إلى "مجموع زوايا المثلث" فهذا التفكير تجريبي عملي، ولكنه لا يعطي برهاناً ، والنتيجة لن تكون يقينية.
علم الحقيقة يبدأ من إدراك معنى "الزوايا القائمة" و"المثلثات" : الدرجة 90ْ هي تعبير صناعي عن معنى "رُبع أفق الدائرة الكلية" وقياس مجموع زاويتان قائمتان يعادل "نصف أفق دائرة".
أفق الدائرة ليس شيئاً تجريبياً تعرفه بالتسجيل المتكرر ، ولكنه "امتداد نقطة بسيطة في فضاء ثنائي الأبعاد" بغض النظر عن معالم هذه النقطة، بما أن النقطة كائن مجرد من الصفات النسبية، فستمثل صفاتها صفات كل النقاط، وسيماثل الأفق الدائري النابع منها كل آفاق الدوائر.
الأفق الدائري يعبر عن "علاقة نقطة مع الفضاء ثنائي الأبعاد" على نحو مطلق.
عندما تقسّم هذا الفضاء إلى أربعة أقسام من خلال "صليب النقطة" يولد لديك أربع زوايا قائمة موزعة في أربع جهات، وأربعة أضلاع متصالبة.
التعريف الصحيح للزاوية القائمة هو "نقطة تحدد ربع أفق دائري" ، والتعبير عن قياسها بـ 90ْ درجة قابل للاستبدال، إذا غيّرت وحدة القياس الزاويّة، من الدرجة إلى الدقيقة ، أو بوحدة قياس جديدة كلياً تعادل x درجة.
قد يكون الرقم المعبر عن قياس القائمة متغيراً ، ولكن القيمة الحقيقية منها هي : "ربع أفق دائري".
وهذا هو الفرق بين القياس القيمي والقياس الظاهري.
إنك لن تستطيع برهانياً أن تثبت أن القائمة قياسه 90 درجة ، ولا أن المثلث قياسه 180 درجة.
لكن يمكن إدراك أن الزاوية القائمة هي ربع أفق الدائرة ، والمثلث هو نصف أفق الدائرة ، ولذلك المثلث يعادل قائمتين ، وهذا مختلف كلياً عن فكرة "المثلث = 180ْ" والتي لا يمكن غثباتها بالبرهان لأن الدرجات من وضع الإنسان.
مجموع آفاق الدائرة الأربعة يولد شكل "المربع" الهندسي ولذلك قياس المربع يعادل أربعة آفاق دائرية ، المربع هو "الحدود المستقيمة المحيطة بفضاء صليب النقطة" ويوجد المربع فقط في اللحظة التي ترسم فيها حدودأً لأفق علاقة النقطة مع الفضاء.
"كل مثلث يعادل مجموع زواياه (آفاقه الداخلية) زاويتين قائمتين (نصف أُفق دائري)" وهذا سهل الإدراك حين تعرف العلاقة بين "تكوين المثلث" و"تكوين الأفق ثنائي الأبعاد" …
أعتقد أن هذا كفيل بتوضيح الموضوع ، وكيف يمكن لك أن تصل لإدراك العلل دون التعامل مع الظواهر.
والآن .. إليك هذه الأسئلة عسى تسمح لك أن ترى الأمور من آفاق أخرى بإذن الله :
- الحقيقة النسقية : ماذا لو كان للزمن الحقيقي لبداية دين الإسلام مسار يختلف عن كل ما يزعمه الاستشراق والتراث ؟ هل يمكن إثبات أو إنكار ذلك على نحو قاطع :
- ربما جاء النبي من بلاد أخرى كاليمن أو القدس ، أو من بلاد الفُرس ، أو من حضارة اندثرت معالمها، أو حتى من الفضاء الخارجي.
- بدأت رسالة الإسلام قبل آلاف السنين - بدأت قبل مئتي سنة من الآن \\ ماذا لو أن سياق الوثائق التاريخية تم التلاعب به من قبل السلطات العالمية لطمس حقيقة لا يريدون أن يصل الناس إليها ؟
- حمل الرسالة الإسلامية عدة أنبياء بنفس الوقت - ليس هناك نبي بشري ولكن القصد من النبي هو "القوة الحيوية" المنبعثة في نفس من يسعى إليها.
- أتى القرآن عبر أحقاب مختلفة - أتى القرآن دفعة واحدة ..
- الحقيقة المعنوية : هَب أن دين الإسلام يمر فعلاً بالمسار المفترض استشراقياً وبالطريقة التراكمية التآمرية من حيث التاريخ ، هل ذلك يعني أن "المعاني الكونية" في دعوته غير إلهية ؟ سأبدي لك الأمر أكثر :
- هل المسار التاريخي للإسلام الذي يبدو "مؤامرة وتراكماً زمنياً واقتباساً" يجعلك تنكر المعاني التي بلغتك منه ؟ وإذا بلغتك الحقيقة من لسان من لا يعيها فهل سيقلل ذلك من مقامها كحقيقة ؟
- فهذه المعاني ، سواء جاءت من نبي الإسلام مباشرة ، أو قبسها عن أديان الله السابقة ، في النهاية هي بالتحديد : الرؤية الكونية للإسلام ، خارج تأويل تراث المسلمين ، وإيمانك بهذه الرؤية هو إيمان بالإسلام كدين إلهي ، سواء صدقت أو لم تصدق باتصال ظاهرته البشرية بالله.
- فإذا كان الأمر كذلك ، فإن دعوة الإسلام الحقيقية هي "إدراك المعاني" وليس "التصديق بالتاريخ الذي يصل بينك وبين المعاني" ، وإذا أدركت المعاني الحاضرة في الوجود وآمنت بها فستصل لغاية دين الإسلام. وإذا اشنغلت عنها بالتاريخ فلا يهم إن صدّقت أو كذّبت ، لأن التصديق هو بوابة لاتصالك بالمعنى ، وليس أكثر من ذلك ، وإن لم يخدم غايته فلن يقيم الله وزناً له.
أرى أنك ترى ، أن هذه الأسئلة لا تملك جواباً قاطعاً عليها.. يوصلك إلى حالة من اليقين، ولا تعرف سبيلاً لتحقيق ذلك، ولا شك أن نصيب الإنسان عادة من الوثوق مما لديه من المعارف أكبر بكثير من نصيبه من إدراك الحقيقة يقينياً.
هل يمكن تاريخياً أن نثبت على نحو نهائي أن "جزيرة العرب" لم تكن حضارة متقدمة ذات يوم ، وغيرتها الأقدار الزمنية حتى أصبحت صحراء بدوية ؟
الاختلاف الجوهري بين المنهج الإدراكي الحيوي والمنهج التاريخي الذهني هو : "المعايير".
لا يهتم المنهج الإدراكي بوصف التاريخ المبني على السجلات والافتراضات المعتبرة، لأن هذا الوصف تم نقله بالأخبار والوثائق والتأويلات ، وصِدقه يعتمد كلياً على صدقها ، وصِدقها غير مؤكد.
لا يهتم المنهج الإدراكي حتى بالوصف المبني على تأويل "الظاهر المحسوس" … لمجرد أن الحواس الجسدية تراه ، قد يكون الظاهر وهماً من اختلاق العقل جزئياً أو كلياً، وقد يكون محاكاة … هذه الافتراضات قائمة لأن الظاهر لا يثبت او ينفي نفسه ، إنه يقدم معطى حسياً خالصاً دون أية أحكام.
كل الأحكام الاستنباطية التي تحاول إثبات الظاهر أو نفيه عقيمة معرفياً ، لأن منشأها الحقيقي هو التأويل الافتراضي.
قد تكون الحياة على هذا الكوكب محاكاة بالكامل ، كل شيء أصلاً يخبرك أنها محاكاة ، بدأً من السؤال كيف ولماذا ؟ ومروراً بالملاحظات الحسية لمعالم الوجود، والهندسة التكوينية للأشياء وتصاميم الكائنات، وانتهاء بالحقائق الكينيائية وتجارب ميكانيك الكم.
العلم الذي يمكن اليقين منه : أن العالم الظاهري، بكل بياناته، صورة جزئية تنعكس من حقيقة عظمى، تتجاوز نطاق الزمن المحلي ، العالم الذي يعيش فيه البشر والأرضيون.
"الحقيقة هي المهمة" ، وليس "النظرية" التي تصفها، ولا ما في التاريخ … ولا يقين في الموروث، ولربما يكون هذا النوع من فهم الحياة وعيشها بعيداً جداً عن طريقة البشر وتقاليدهم ومعتقداتهم، ولكن … منذ متى والبشر معيار للحقيقة والصواب؟
وهل من آمن بالله حقاً سيصعب عليه تصور وتخيل هذا العالم كمحاكاة للحقيقة ؟
هذا هو السؤال الصحيح …
[2] ما معنى أن يكون الدين هو دين الحق ؟
"جميع الأديان تدعو إلى نفس المعاني القيمية والأخلاقية" ، وتتبنى تقريباً نفس الرؤية الكونية ، ولذلك نادر هو الجديد في الدين على مر العصور .. ما يختلف بين الأديان ، ليس مضمون الدعوة ، بل "اكتمالها" ومستوى المعنى الذي تتحدث عنه النصوص في الوجود ، والطريقة التي يطرحها الدين لإدراكه.
بعض الأديان البدائية الباقية (كالشامانية) تحتفظ بتعاليم أخلاقية ، مثل "لا تزني - لا تقتل - لا تسرق" وتعلّم الإنسان أن هناك قوى مقدسة وحيّة تتحكم بالعالمين، إنها لا تختلف جوهرياً عن الأديان الحديثة، رغم أنها تسبقها بقرون .. حسب التاريخ.
الفرق بين دين البداية والدين الحديث هو "الوضوح" و"الدقة" ، فالمعنى الأخلاقي في أديان العالم القديم يعتمد بالكامل على الحس الوجداني والضمير الحي، والمعنى الميتافيزيقي يعتمد بالكامل على التجربة الإدراكية الحيوية.. وهذه الأمور ليست واضحة كفاية بالنسبة إلى إدراك إنسان العصر.
بعد أن جاءت الأديان الإلهية المنظوماتية اتضح أن هناك عالَمين : الظاهر والحقيقة. والتفريق بينهما لم يكن متاحاً للشامان على نحو دقيق، فإن سألته عن الاختلاف بين "المادة" و"الروح" فسيعجب من سؤالك ، لأنه يحس بالروح متغلغلاً في كل المواد ، ويحس بأنهما كيان واحد.
ومعه حق في وحدة الحقيقة، ولكنه لا يزال لا يستطيع التفريق بين "ظاهر المواد وباطنها".
واتضح أيضاً أن التعاليم الأخلاقية تأتي من عالم الحقيقة، ولذلك لا تعكس الظواهر المادية أخلاقيات ،
بالنسبة للشامان ، كل شيء يعكس الأخلاقيات لأن كل شيء حقيقي وحيوي، ولكن المعنى الذي يقصده الشامان شبحي ولا يمكن فهمه بالنسبة لإنسان عصري ، يغلّه عقله عن الاتصال الحيوي.
هذا ما تكتشفه بنفسك عندما تُقارن بين أمر الشامان للمريد : ( لا تزني )، وبين التفصيل الديني في الكتب المقدسة : "لماذا لا تزني" ، فالدعوة الأولى شبحية وعلتها غير واضحة،يجب أن "تُحس بها" لا أن تفكر بها.
الدعوة الثانية لها فضل الدقة ( البيان ) والتعليل (لماذا) وتكون واضحة للإدراك المباشر، دون اتباعها لمجرد إحساس هلامي غير معروف بوجوبية ذلك.
هذه هي الحكمة الحيوية ، وهذا يعني أن دعوة الرُسل "تتطور جدلياً" عبر التاريخ مع أن موضونها دائماً واحد ، لكن بيانها وتعليلها يتطور مع تطور الإدراك الإنساني والحيوي… ليصل إلى الاكتمال.
وهذا يجعل الكتاب المقدس الأكثر تطوراً هو الذي يبلّغ الحقيقة بالرموز الأكثر قدرة على بيان الحقيقة وتعليلها وعلى الفصل بين المعنى والافتراض.
إذن ، الفرق بين دين الحق وبقية الأديان ليس فرقاً تاريخياً ولكنه فرق حيوي ، ودين الحق موجود في باطن جميع أديان التاريخ ولكنه "يظهر" بالتعاقب والتطور الحيوي ليتناسب مع مستوى قدرة الإنسان على الإدراك الدقيق.
هذا هو السر في توافق دعوات الأنبياء ، التي تبدو وكانها تعود إلى أصل واحد ، وتوافق ألغاز الكتب الإلهية ، واجتماعها على نفس الحقائق الكبرى كالعالم الحقيقة والخطيئة الأولى وقصة الخلق وقصة الطوفان ووجود الملائكة وكينونة الإنسان الثلاثية ( الروح والنفس والجسد ). فهذه ليست اقتباسات ، إنها حقائق كونية ، لا يوجد لها بديل ، لكن بيانها يتطور …
[3] لماذا الإسلام هو دين الحق ؟ وكيف تتجلى لاهوتية القرآن العظيم …
قضية الإسلام المحورية ليست : هل هناك رسول بشري اسمه محمد تم الوحي إليه من الله ونزل عليه القرآن ؟
أولاً لأن وجود شخصيات الرسل التاريخية ليس حقيقة مطلقة ، وإذا صدّق الإنسان وجود شخصيات الرسل التاريخية، فلن يكون دافعه هو وضوح هذا الأمر ذاتياً ( بما هي كذلك )، ولكن سيكون هناك دليل ما ( أو دافع ما ) أحدث حالة التصديق في نفسه. مثل أنه يصدق ما يخبره القرآن العظيم له ، فيكون القرآن هو الدليل الحقيقي لذلك الغيب المجهول. ومن حق الوعي أن يسأل حينها : هل المقصود في القرآن الكريم المنزل من الله هو شخصيات بعينها في التاريخ ؟ أم هم قيم (كونيّة) موجودة على امتداد الفضاء الزمكاني فمحمد هو الذي يصل إلى المقام المحمود ( أياً ما كان يعنيه ذلك ) والمسيح هو الذي يمسح العالم من الضباب والخطايا ( أياً ما كان يعنيه ذلك ) وإبراهيم هو الأب الرحيم ( أياً ما يعنيه ذلك ) ، وهذه نماذج الكون القيمية الموجودة في عالم المثال والمتجسدة في عالم المادة الذي يستطيع الإنسان إدراكه بفمه الضعيف.
ثانياً ، لأن الرسول محمداً أرسله الله لغاية مختلفة تماماً عن "إثبات نفسه كرسول" ، وهي هداية الآخرين إلى الحق ، وهذا هو ما يجعل الرسول رسولاً وهذا هو معنى الرسالة الحقيقية، وأما الوجود التاريخي فلا فائدة من تصديقه أو تكذيبه فهو قضية عقلية مجردة تتعلق بالتشخص ولا تغير في النفوس.
والسبب الوحيد الذي يجعل من ينكر رسالة النبي كافراً ، هو التكوين المعنوي لهذه الرسالة ، وهو بلاغ الحق فمن أدرك المعنى واستيقن منه ورفضه فكأنما رفض الحق بذاته.
وسواء كان الشخص التاريخي محمداً أو غيره من الرسل، فليست هذه هي قضية الإسلام الحقيقية ، وليس دور محمد كشخصية "تاريخية بشرية" هو أن يكون ضمن بشريته محور الدين.
إذن لا يهم حقاً : هل جاء الإسلام قبل سنة واحدة ، أو قبل مليون سنة ، ولا يهم حقاً من بلّغه ، ولم يكن الشخص التاريخي هو الموضوع يوماً، إنما هو حامل الإشارة للموضوع والمبلغ عنه ، وسواء جائتك الرسالة عبر البريد أو عبر انشقاق العالمين ، فهذا لا يغير المضمون.
والطريقة الوحيدة لمعاينة الرسالة هو التعامل المُباشر مع حضورها ، بمعزل مُطلق عن التاريخ.
ولأن الإنسان المعاصر أهمل هذا البحث المعنوي ، اعتقد خاطئاً أن القرآن إرشادات سلوكية عقلانية وقوانين دستورية وبعض الافتراضات الغير مفهومة، المقتسبة من السابقين.
إن "الأنبياء" يتفقون أجمعين في أمر واحد : دعوة "الذات الحقيقية" المأسورة في كينونة الإنسان إلى أن "تعود إلى الله" و"تتحرر من الإنسان".
أن تعود إلى الحق ، وتتحرر من الفرضيات الذهنية ..
أن تعود إلى الذات وتتحرر من الآخر …
أن تعود إلى الفطرة وتتحرر من المجتمع …
أن تعود إلى "الحضور" وتتحرر من الغياب
أن تعود إلى "الوجود" وتتحرر من محاولات الأنا تحقيق الوجود.
كل هذه إشارات للمعنى الحقيقي الذي يقصده النبي ، وهو تحرير حياتك من الصليب المبني على الافتراق بين الذات والموضوع ، والذي يقيدك .. فلا تعرف الحقيقة … ولا تتفاعل معها … ولا تحيا الحياة الحقيقية، وأنت في غياهب عالم الإنسان ورغباته المتدنية … وهذه التجربة من العزل بينك وبين الحقيقة هي التي تتيح لك اختبار الحالات الناسوتية المختلفة ( المبنية على حدوث نسيان وجودي ).
حالة النسيان ، نسيان التساؤل … نسيان البحث ، نسيان القيم … تسمح لك بعيش الافتراض والتمتع به ، ودفع الضريبة من انفصالك عن الحقيقة.
عندما تعيش الافتراض يمكنك أن تتقمص الأدوار … وتحس المشاعر الموضوعية التي لا تختبرها بنفس الطريقة عندما تكون أنت ذاتك العليا …
نسيان حقيقتك الداخلية يتيح لك التماهي مع الموضوع الزمني المفارق لحقيقتك … ذوبان هوية الذات الحقيقية في الآخر الغيابي ، الذي يصبح تدريجياً كل شيء وهو بذاته لا شيء، وهنا تتولد الأنانية ، من حالة أن ذاتك ورغبتك الحقيقية ومعنى الحياة ، ليست هي محور حياتك.
ولكن ما تعرفه وتملكه وتتفاعل معه ضمن العالم الموضوعي (الآخر) هو محور حياتك.
إنه غائب بحقيقته عنك ، لأنه لم يكن لك منذ البداية ، لأنه شبح
سعيك للتأثير على الآخر أو امتلاكه بأي شكل هو الأنانية التي يجب عليك تخطيها ، حتى لو تقنعت بقناع الإعطاء والمساعدة والتظافر الاجتماعي.
إن ما يجعل الإنسان إنساناً هو وجود الفجوة بين الذات والموضوع، وكل أخلاقياته ولا أخلاقياته ، يحاول بها ردم الفجوة بينه وبين حقيقته الوجودية ، التي أحدثتها حالة النسيان ، وإن اتصال الإنسان بذاته مرة أخرى يعني أيضاً وبنفس القدر تماماً اتصاله بالحياة الحقيقية والطبيعة الحقيقية للأشياء والمشاعر والآخرين ، وهناك تتأسس الأخلاق الحقيقية على حالة الحضور ، وحالة الحضور هذه هي نور الله التي يريد الأنبياء أن يوصلوا الناس إليها.
لذلك يبدأ الدين ، تماماً كالتهكم السقراطي ، بنقض الغياب وإخراج نقائضه من داخله ، وهدم معالم الثقافة الجمعية من مبانيها ، وإخراج الناس من قيود الإدراك الجمعي المبني على حالة النسيان وتعويضاتها بالعاطفة الشبحية والمعرفة الشبحية والتأثير الخارجي الذي لا يثبت وجوده شيء إلا اعتراف الأذهان المراقبة به.
وليس متاحاً أن ترغب وتتفاعل مع ما لا تعرفه ، فيبدأ الدين من لحظة تعرّف الذات من الله ، ومعرفة الله هي النتيجة العلمية المباشرة للتفاعل الحقيقي ( الفطري ) بين الذات و الحياة بحقيقتها الكلانية ، دون وسيط افتراضي ، ودون نتائج جاهزة، أي أنه التفاعل الأبسط والأكثر تحرراً ووضوحاً ، والعلم بمن هو الله هو العلم الحالة الأساسية للعلم قبل أن تنسى الذات الحقيقة ، وفي تلك الحالة تأخذ كل الاشياء في الكون مواقعها الصحيحة علمياً من خلال ردها إلى موقعها في عالم الحقيقة ، لا في أبحاث البشر واجتهادهم. فهو الأبسط والأكثر اقتراباً من الذات وابتعاداً عن المعرفة الغيابية ( الافتراضية ).
الاتصال الحيوي بين الذات الحقيقية والوجود الحقيقي ، رغبة بالقيم والجمال الإلهي ، ونفي للصور المعيارية والذهنية للقيم .. هو دين الحق الوحيد ….
مراجع :
(1) دين الإنسان - فراس السواح : تعريف وليام جيمس للدين.
(2) ترجمة القرآن الكريم - آرثر ج. آربيري والتي نقلت عنها معظم الترجمات بعده.
(3) صحيح البخاري .
(4) بحار الأنوار.
(5) المنظم في تاريخ الملوك والأمم - ابن الجوزي.
(6) الشخصية المحمدية - معروف الصافي.
(7) في خطى محمد -نصري سلهب.
https://historum.com/t/voltaire-on-islam.127989/
https://islamigems.com/quotes-of-great-non-muslims-on-islam-and-prophet-muhammad/
0 تعليقات