بالدرجة الأولى ، تكون الفيزياء علماً يدرس أشعة ورنين التآثرات الكونية المسببة للظواهر المادية، لأن هذه الظواهر تحدث بسبب علة ما ولكي يصل الباحث إلى العلة على نحو موضوعي فإنه يحتاج إلى مقارنة الظواهر ببعضها البعض ومعرفة مدى تزامنها واشتقاق وصف للقوى الخفية التي تسبب هذا التزامن والعلاقات بين المواد.
مثلاً هناك تزامن أو اقتران في الزمان بين ترك الجسم في الهواء وبين سقطته على الأرض، وهذا الاقتران يتكرر باستمرار، ولذلك يقوم الفيزيائي بمحاولة كشف سبب هذا الاقتران، ولأنه يريد وصفاً موضوعياً يصف علاقة الاقتران نفسها فهو يستخدم قوانين تحسب مقادير طرفي السببية في الاقتران. وبحسب تغير هذه المقادير فإنه يقدر وصف القانون الطبيعي لسببها.
هذا يعني قضيتين، أولاً : أن السببية في الفيزياء تحدث كنوع من التآثر بين طرفين، لأن تكرار الاقتران يعني وجود سبب مركب من العناصر التي تقترن لحدوث الحدث، فهناك رابط بينها وعند تحليل خصائصها بالطريقة المناسبة لمعرفة أي خاصية هي التي تسبب الاقتران يتبين ما هي الصفة التي تشكل عنصر التآثر في الموضوع الأول وما هي الصفة في الموضوع الثاني، فالكتلة مثلاً كانت هي المسؤولة دائماً عن حدثية الجاذبية، اي أن الجاذبية لا تقترن بشيء أو خاصية للمواد باستثناء الكتلة، وبما أن الاقتران بين عنصرين هو ما يسبب الحدث، وبما أن الخاصية لكل منهما مشتركة، فعندئذٍ يتجلى أن هذه السببية وعلى المستوى المادي والموضوعي، هي تآثر بين موضوعين لهما نفس الخاصية.
مراحل تعريف القوانين الفيزيائية :
- السببية في الفيزياء هي بالضبط التآثر : ليس هناك سبب للحدث فيزيائياً من جهة المواد إلا الاقتران الزمني بين موضوعين أو طرفين، فطالما أنك تنظر إلى الناحية الموضوعية للحدث فلن تدرك كينونته الذاتية، ولذلك فإن دراسة الأسباب التكوينية للأحداث ليست من تخصص الفيزيائيين، وسنعرف عما قريب الفرق بين العلة التكوينية والسبب. التكوين غير قابل للفهم داخلياً فقط من زاوية خارجية، ولكن بحسب علاقات الاقتران التي تسبقه وتلحقه يمكن تعريف الشيء نسبة إليها، أي إلى علاقاته مع أشياء أخرى، هذا منهج الفيزياء العلمي.
- المرحلة الثانية هي إدراك خاصية هذا الاقتران الذي يتسبب بحدوث ظاهرة ما ، فأي اقتران زمكاني محلي تدرسه الفيزياء، سيتم فهمه كعلاقة بين موضوعين أو عدة موضوعات فيزيائية، وعند تكرار نفس الحدث بعد اجتماع نفس الاقترانات بين نفس الموضوعات، يستنتج الباحث أن هناك علاقة تجمع هذه الموضوعات وتسبب الحدث باطراد مستمر عند اقترانها معاً، وهذه العلاقة هي نوع من التفاعل بين تلك الموضوعات ... أي أن هناك قوة تفاعلية لكل موضوع تسمح له بالتفاعل مع الآخر، تظهر كخاصية من خصائص تلك الموضوعات والتي تميزها عن بقية العناصر وتتسبب باستمرار بنشأة نفس الحدث منها، العلاقة بين عناصر الزمن السابق للحدث هي المسببة له وهي الخاصية التي تسمح للعناصر بالتفاعل المشترك وهي موجودة في كل عنصر.
- لأن كلا الطرفين في عملية التآثر والتفاعل يشكلان عنصراً فاعلاً، حيث أن العلاقة هي اقتران وهي نوع من أنواع الربط الرياضي الذي يسمى ب"الجمع". هذا الربط يسمح لكلا الطرفين بحيازة الدور الفاعل والمنفعل بنفس الوقت، وهذه العلاقة تسمى ب"التآثر" أي التأثير المتبادل. ولذلك الخاصية التي تجعل كلاً منهما يؤثر على الآخر ويتأثر به هي خاصية عامة لجميع العناصر القابلة للتآثر.
- المرحلة الرابعة والأخيرة لاشتقاق القانون هي تعميم هذه العلاقة على كل عناصر الفئة التي لها نفس الخاصة، فلا تعود الجاذبية مجرد تفاحة تسقط على الأرض، ولكن يتم ملاحظة كل المعطيات الخاصة بالكتل وتآثراتها، ويتم تجريب كافة المواضيع الأخرى، ولا تعود الأرض وحدها هي التي تتسبب بالجاذبية لأن ملاحظات الفلكيين تعطي نفس النتائج باضطراد مع كافة عناصر الفلك التي تخضع علاقاتها التآثرية تقريباً لنفس القانون على الأرض.
ففي الحقيقة لا تجذب الأرض الكتل نحوها وإنما تتبادل الأرض الجاذبية مع الأجسام، ولكن ولأن كثافة الأرض الكلية أكبر بكثير من كثافة الأجسام الكلية، فإن موقعها في عملية التآثر يكون له دور المركز، وموقع الأجسام على سطحها له دور المحيط.
وهنا يأتي الفرق الثاني [القضية الثانية] وهي أن القوانين الفيزيائية لا تصف لماذا يحدث الحدث وما هو الحدث، وإنما كيف يظهر الحدث ، وما الأحداث المقترنة به، وما المعادلات التي تصف هذا الاقتران الزمني، لكن ماهي الجاذبية أصلاً ولماذا تحدث ... هذا ليس من تخصص الفيزياء لأنها علم يحصي الظواهر ويربطها منطقياً ورياضياً، والماهيات والجواهر والعلل لا علاقة لها بالترابط المنطقي، أو بالأحرى ليست هي محض ذلك الترابط وإنما هو ناتجها.
إذن الفيزياء أساساً تدرس "التفاعل في عالم المواد" وهذا التفاعل يسمى بالتآثر، ويمكن رد جميع التآثرات بشكل عام إلى خاصيتين هما "التجميع والتركيب" أو "الفصل والتحليل" ، لأن الكائنات المحلية لا تربطها إلا علاقات اقتران، ولا يوجد تفاعلات تكوينية ضمن نطاق المحليات، فالذرة تتراكب مع الذرة، والبروتون مع الالكترون يشكلان النواة والمدار حولها، والكوكب تجمع ذرات، والكواكب تتجمع حول شمسها، وتراكب الذرات ينتج المركبات الكيماوية وتراكب المركبات ينتج الجزيئات والخلايا والأنسجة والأعضاء والأجسام.
ليس هناك قوة في عالم المواد لها تأثير غير ربطي أو فصلي، إما أنها تربط عناصر معاً أو تفككها من رابطتها.
هذا يعني أن القوى الفيزيائية التآثرية هي جميعاً قوى "جذب" وليس هناك شيء غير الجذب، ولكن الكهرباء مثلاً تجذب فقط الالكترونات ودقيقات الطاقة المتناهية، وهذه الأشياء سريعة جداً بتآثراتها ولذلك يمكنها أن تؤثر بسرعة هائلة جداً على المحيط بالنسبة إلى سرعة التركيب الميكانيكي المعتمد على جذب ثقالي.
هذا يعني أن التآثر الفيزيائي هو وصف لظاهر الاقتران، وأن السببية في الفيزياء سببية ظاهرية مبنية على الاستقراء، وليس على جوهر السبب والنتيجة، فالنار لا تحرق الوقود بالجوهر في رؤية الفيزيائي، ولكن استقراء اقترانات النار والوقود تشير إلى هذا الحدث بشكل مستمر، وتشير إلى وصف تأثيره بمعادلة رياضية يمكن اختبارها، ولكن هذا كله لن يجعل النار تحرق الوقود بالضرورة.
أي أن المنهج العلمي التجريبي والإحصائي في الفيزياء الحديثة يبحث في ظاهر الأمور ويصفها وفق اقتراناتها الزمكانية ولا ينفذ إلى الباطن والحقيقة. وهذا هو الفرق بين السببية والاقتران الزمني وبين العلة والانتماء الوجودي.
وهذا التجاذب يمكن فهمه من خلال أربعة مستويات بحسب قوة الجذب نسبة لبقية المستويات، وبحسب النطاق الزمني الذي يظهر الجذب فيه، ففي نطاق الذرة يكون الجذب أقوى بكثير من عالمنا الاعتيادي، ويكون منحصراً بذلك النطاق لأنه يتم بين الأنوية فقط. وهذه المستويات الأربعة هي : قوة الجذب الثقالي ، قوة الجذب الكهرومغناطيسي ، قوة الجذب النووي الضعيفة وقوة الجذب النووي القوية.
الثقالة تكون بين الكتل، والكهربية تكون بين الالكترونات الحرة أو الفوتونات، والفرق بينهما أن الثقالة تزداد بازدياد حبس وتقييد الطاقة في المواد، والكهربية تزداد بازدياد تحرر الطاقة من كتلتها، أما القوى النووية ، هي بشكل أساسي جذب الطاقة التي تحل في عمق الذرة، أي أنها تحدث بين الكموم في مرحلة التشكل البدئي للمادة، وهي أصلاً المسؤول الأول عن تشكل الوحدات المتناهية في الصغر لعالم المواد، فالذرة قبلها لم تكن شيئاً مادياً ومحلياً، وأما الالكترونات الحرة من الذرات في عالمنا فترتبط بمستويات أكثر تركيباً ضمن هذا العالم ولذلك تكون طاقتها محددة جذبوياً بطاقة هذا العالَم نفسه.
تحرير طاقة النوويات إلى العالم الواقعي المحلي يتسبب بانفجارات هائلة، ولا يمكن حسابها بالضبط لولا أن العالم الخارجي يقيد عبورها من النواة إليه.
هذه لمحة موجزة عن مفهوم "القانون" في الفيزياء لتتعرف إلى نماذجها العلمية الكُبرى وإلى حدود هذه النماذج.
هنالك ثلاثة أنواع لنماذج التكوين الزمني للحدث والكائن ضمن الفيزياء، وهي التي شكلت نماذج الفيزياء الأساسية بعد الثورة الكوبرنيكوسية :
- فيزياء الميكانيك والسببية الطوبوغرافية أو فيزياء نيوتن : والتي ترى أن شعاع التآثر ثابت في تكوينه الداخلي ومتغير في موقعه المكاني بالنسبة للراصدين.
- فيزياء الميكانيك النسبي والسببية التفاعلية أو فيزياء آينشتاين : حيث يكون شعاع التآثر متغير في تكوينه الداخلي وفي موقعه المكاني بالنسبة للراصدين.
- فيزياء الميكانيك التجريدي [ الكمومي ] والسببية اللامحلية : حيث ترصد شعاع التآثر متغيراً في تكوينه الداخلي، وفي موقعه المكاني والزماني، وحتى في قوانينه الفيزيائية التي تحكمه بالنسبة للراصدين فهي غير حتمية، وهناك علة خفية للأمور.
شعاع التآثر هذا قد يُفهم على أنه قوة كهرومغناطيسية، أو على أنه قوة ضوئية أو جاذبية أو طاقة نووية أو أي شيء آخر في عوالم الفيزياء والمادة.
حين تنظر للشعاع نظرة "الموقف الطبيعي الساذج" التي يستخدمها عامة الناس عادة وتحت تأثير الملهيات والظروف وعصر السرعة، لا يمكنك أن ترى أي تغير في تكوينه الداخلي، لأن ما تراه شبه ثابت على مر السنين، ففيزياء نيوتن تعمل الآن، لكن حين تتعمق بالأجهزة الدقيقة للقياس والرصد، أو برؤيتك الفينومينولوجية بالتركيز التأملي العميق، ترى أن ثبات شعاع التأثير متعلق بالراصد نفسه، لأن هذا الشعاع موجود في نسيج من العلاقات، فكل راصد تربط بينه وبين الشعاع علاقة رصد تآثرية، تتعلق بعوامل الزمان والمكان للبيئة التي يعبرها الشعاع إلى الراصد، وكذلك بتكوين الزمكان لكل من مصدر الشعاع ومستقره الرصدي من جهة أخرى، وكلما تباعدت البيئات زمانياً أو مكانياً لاحظت اختلاف الأرصاد حتى ولو كان الحدث واحداً وهو انفجار نجم مثلاً.
لقد جاء آينشتاين ليقول إن النسبية في العلاقات للكيان الموضوعي (المواد)، لا تتوقف فقط على حدود نسبية المكان والميقات، وإنما نسبية الزمن نفسه، وهو يقصد بالزمن ، زمن التكوين، فلو تخيلت شعاعاً من اللايزر ينطلق من منبع ضوئي إلى مستقر، فحسب نيوتن يوجد لهذا الشعاع نسبية فقط إلى "بيئته"، بينما يبقى تكوين الشعاع ثابتاً لجميع الراصدين ، أو لنقل إن الأرصاد تختلف بدالة اختلاف المكان وبالتالي يوجد للشيء المادي استقلال عن التفاعل مع الراصدين، وبالتالي لا يتغير مقدار الشعاع اللايزري بحد ذاته، جاء آينشتاين ليقول كلا، بل يتغير الشعاع الليزري لأنه أصلاً ليس واحداً بل متعدداً بتعدد الراصدين، وحقيقته ما وراء الرصد لا يمكن فهمها بالفيزياء لوحدها (كما يقول كانط عن الشيء في ذاته مقابل الشيء المُدرك).
تعريف الفيزياء الحقيقي :
هي العلم الذي يدرس الواقع المحلي ، الذي يسمى بالزمن الموضوعي، دراسة تحليلية تجريبية تبدأ من مسلمات بفصل ظاهر الواقع عن العلل العالية للوجود، وبالتالي التعامل مع "الظواهر الطبيعية" بطريقة الملاحظة والتجريب، ثم ربط نتائج الملاحظات بطريقة تراتبية إحصائية لاشتقاق القوانين التي تعبر عن تكرارات الملاحظات.
هذا التعريف الحقيقي لعلم الفيزياء، ربما يقال لك أنه لا يوجد مرجع يستخدمه هذه الأيام، لكنه واقعياً هو بحذافيره ما يتم تطبيقه، ملاحظة على هذا التعريف أن علم الفيزياء لا يُعنى بدراسة أصل الخلق وحقيقة التكوين، ولا بدراسة جوهر المادة وكيفية انوجادها، ولذلك يكون الحديث عن الخلق والتكوين والحقائق ما وراء الظواهر ليس من تخصص الفيزياء، ربما تساعد بنتائج ملهمة في ذلك، ولكنها تبحث في سيرورة الواقع المرصود كما هو عليه حالياً، لا كما هو قبل أن يكون، وبعد أن يكون، وما وراء الرصد.
بمعنى أن علم الفيزياء لا يبحث في وجود العوالم العليا واللاهوت، والحديث عن العوالم المتعددة بمستوياتها الأربعة في فيزياء نظرية هو حديث خاص بتعدد الواقع الفيزيائي نفسه، ولا يُعنى بأكثر من ذلك، لكن الفيزياء توفر المعطيات التي تساعدك في التحكم بفهمك للحقيقة وتصورك لها، هي لا تخبرك الحقيقة ولكنها تحدد بعض معالم التصوير الذهني لما ستكون عليه الحقيقة، مثلاً ، تخبرك الفيزياء أن وجود الشيء يعني كونه مرصوداً أو متفاعلاً مع شيء آخر، وإذا لم يتم رصد الشيء أو تأثيره على شيء آخر فهو غير موجود، مما يعني أن حقيقة الأثر هي حقول التآثر، وصورة الشمس التي تراها هي التقاء بين قوة التأثير الكهروضوئي لحقل الشمس وبين قوة التآثر الكهرومغنايسي العصبي لحقل جسدك، بعد أن تمر قوة الشمس بنطاق معين من حقول التفاعلات، ما هي هذه الحقول، إنها … تجريد وأمواج لا أكثر، أي أن المادة لا تنوجد في ذاتيتها ولكن تنوجد لحظة التفاعل فقط.
0 تعليقات