Advertisement

Main Ad

​الباب الأخير في عتبة فلسفة العلم [1] : التحقيق الفينومينولوجي في أصول البحث العلمي​ || توجيهات أساسية - نقد العلوم - ما هي الميتافيزيقا

 

الباب الأخير في عتبة فلسفة العلم : التحقيق الفينومينولوجي في أصول البحث العلمي​

 


توجيهات لابد منها...

 

حينما نتعرض للمنظومة العلمية الرسمية بالنقد والتحقيق فإننا نجازف بخوض طريق صعب جداً ، لعدة أسباب أساسية : أولاً ما يراه الناس من إنجازات عظيمة وفخرية للعلم والعلماء ، وأن جميع الاختراعات والاكتشافات والأدوية المنتشرة بين الناس تُعزى بشكل أو بآخر للعلوم الطبيعية الرسمية. وثانياً لأن الكثير من الناس قد انخرط في مجالات العلوم وانتسجت بها وظيفته ومكانته الاجتماعية وتاريخه الذي بناه لسنين طويلة ، ومن الصعب أن يعرض كل ذلك للتحطيم والفداء وهو يدرك جيداً أن انهيار هيبة هذه المعارف ومكانتها في قلوب الناس ستبعث على انهيار أبعاده التاريخية التي اصطنعها لنفسه عبر السنين. وهناك أسباب أخرى أقل أهمية ، مثلاً القول بأن الميتافيزيقا خرافة ، وأين هو الدليل المادي على ما تقول ، والعقل العلمي صارم بينما العقل الإيماني عاطفي، وأشياء من هذا القبيل...

لذلك يجب أن نوضح في البداية :

"ما الذي نقصده بالضبط من نقد العلوم"؟

1. التحقيق الميتافيزيقي في الأساس المادي لمناهج البحث وشجرة العلوم :

دائرة البحث العلمي – أصول البحث الميتافيزيقية :

حين نتحدث عن "نقد العلوم" أو التحقيق في المناهج العلمية، فيجب أن يتم فهم الموضوع جيداً، إننا لا نقصد إقصاء تلك العلوم التي من خلالها تم اختراع الحاسوب والجوال والقمر الصناعي، لذلك ، لا داعي للقول : انظروا إلى إنجازات العلم الحديث للاحتجاج علينا أو على عملية نقد نموذج العلم الرسمي وتمحيصه ، فقيمة ما أنجزه العلم الحديث تعود أولاً وأخيراً إلى مدى توافقه مع الكون والحقيقة الكونية والواقع، وإلى القدرة على كشف هذا التوافق في المستوى الذي يدرسه العلم، ولا تعود قيمة إنجازات نموذج عن العلم إلى المنهج الخاص به كشيء مستقل بحد ذاته، وإنما تعود إلى توافق المنهج الخاص بنموذج العلم مع الطريقة الأمثل لمعرفة الحقيقة عن العالم أو عن المستوى المدروس والموضوع للبحث من ذلك العالم. أرجو أن يتم فهم ذلك بوضوح تام.

وكذلك ، لم نقل إننا نرغب في إقحام القناعة الشخصية بالعلم الموضوعي ( كما يقال ). وإنما نريد تنقية "العلوم الموضوعية" من "شوائب الميتافيزيقا المادية" والتي تحد من مجال البحث العلمي الموضوعي وتأسره في نطاق معين.

للأسف، أغلب من يحاورنا هذه الأيام يحاول التقليل من مدى عقلانيتنا ورزانة كلماتنا من خلال الاحتجاج إلى إنجازات العلوم الموضوعية مثل التكنولوجيا ونحوها، لذلك وجب التنبيه... نحن لم ندعوا إلى التوقف عن التقدم في مجالات البحوث العلمية، ولا يوجد أحد من الناقدين والمحققين في المنهج العلمي يفقد احترامه لمنهجيته في التحقيق الدقيق، أو يستخدم أسلوباً يحرض الناس على تكسير أجهزتهم وحرق بياناتهم وتحطيم أبراج البث المعلوماتي ، ولا أحد من ناقدي العلم قرر أن يدعو الناس إلى تحطيم التلفازات ومحاصرة مواقع الإذاعات العالمية والشركات الكبرى، كل هذا افتراء تروج له الراديكاليا العلمية والمتعصبون الذين لا يرجون الحق ولا التقدم الحقيقي للعلوم البشرية ، بينما حركة النقد والتحقيق في المنهج العلمي السائد براء من هذه الافتراءات.

كيف تتكون العلوم :

الناس لم تتلقى التعليم الميتافيزيقي الكافي لتفهم حقيقة الأمور العلمية والتجريبية على نحو مناسب، الباحث العلمي يستخدم وسائل معينة في القياس وتكوين الافتراضات والتحقيق العلمي المنهجي ولكنه لا يقوم بالبحث عن الأصول والأسباب التي بنيت عليها ولأجلها هذه الوسائل.

المنهج نفسه قضية ميتافيزيقية ، تصميم المنهج على نحو مناسب لموضوع علمي ما هو فعل ميتافيزيقي، العلم نفسه بما يكون بحثاً في موضوع عام منظم بمنهج عام هو أمر تقرره الميتافيزيقا ، وإلا فمن أين لك أن تقرر لما تدرس المادة المحلية في علم الفيزياء ، ولماذا تدرسها بطريقة الاستقراء والتجريب وما هو الاستقراء وما هو التجريب ؟ هذه الأمور من أين يأتيك معناها ومن أين لك أن تثبت صواب الاحتكام إليها ؟

هذه الأمور تسبق العلم نفسه بما هو معرفة منظمة ذات نسق توافقي بين الواقع والتنظير. ولذلك لا يمكن للعلوم الطبيعية نفسها أن تبحث فيها وتقررها ، لا يمكنك أن تقول : استناداً على البحث التجريبي للفيزياء فإن الفيزياء تدرس كذا وكذا بطريقة تجريبية ! لأنك لم تقرر الطريقة بعد أن بدأت من خلالها وإنما قررتها في لحظة تسبق الدراسة العلمية للفيزياء ، وكذلك لم تقرر موضوع الفيزياء بعد البدء فيها ، وإلا فلا إمكانية للتمييز بين ما تدرسه الفيزياء وما لا تدرسه ، في مرحلة فتح باب الفيزياء ، إذا لم تكن تعلم ما هي الفيزياء ، فلن تختار البوابة التي توصل إليها ، ولا المنهج الذي يجدي فيها إذا لم يكن لديك إثبات بجدوى هذا المنهج في هذه الدراسة.

قد يقول قائل : إن موضوع الفيزياء لم يتحدد بعد على نحو قاطع ، فنحن البشر لم نعرف بعد ما هي المادة على نحو دقيق ، ولم نستطع أن نضع تعريفاً يصف كامل خصائصها، وإن هذا لقول صحيح، ولكن شبحية موضوع الدراسة لها حدود معينة لا يمكن أن تخرج عنها ، لا يمكنك مثلاً أن تدعي أن حقيبة يوليوس قيصر تدخل كفرع من فروع علوم الفيزياء لأن الأخيرة غير محددة المعالم بعد، ففي النهاية يوجد توصيف عام للخصائص القابلة للدخول في ميدان الفيزياء ، مثل محلية موضوع البحث وجبريته على حواس وأرصاد جميع المراقبين، وما لا ينطبق عليه هذه الشروط لا يسمى فيزياء.

إذن من أين يمكن لك تعرّف معنى الفيزياء ، وكيف تجعل من ذلك المعنى موضوعاً للدراسة العلمية الأكاديمية والتحقيق المنهجي التجريبي ؟ من أين تعرف ما هي التجربة وفيما تستخدم ؟ وما هو العلم وما هي المعرفة ؟.... وكيف للمرء أن يعرف إجابات هذه الأسئلة ومثائلها وهو غير قادر على أن يدرك ويصف ما هي المعرفة وما شروطها وكيف أعرف الأشياء وأنظم المعرفة في ميدان معين ؟

إن العبء الأكبر في بناء العلوم يقع في منطقة الجذور وليس في مناطق الفروع والنتائج ، وككل شجرة يتم دفن الجذور في الأرض ، بينما يفتتن الناس بالنتائج الزاهرة والمثمرة، إنهم يرون الاختراع ، ويرون الدواء ، ولكنهم لا يرون كم كافح الفلاسفة الميتافيزيقيون وفلاسفة العلم من أجل بناء النموذج المعياري الصحيح لدراسة العلوم وتصنيفها المستخدم اليوم.. إنهم يعرفون المخترع فلان والطبيب فلان وعالم الذرة فلان ، ولكن قليلين منهم من سمع بجون لوك ، وفرانسيس بيكون وجورج لايبنتز ، وديفد هيوم ، وكارل بوبر ، وبرتراند راسل ، وفرانسيس بيكون .... هؤلاء الفلاسفة كانوا مشتغلين بالعلوم الطبيعية والرياضية ودارسين لها ، ولكنهم لم يكونوا مكتفين بذلك ، فلقد صمموا على تطوير الرؤية العلمية وهم الذين أسسوا المنهج العلمي التجريبي بصيغته الصحيحة ، بينما شاركهم بذلك جزئياً إسحاق نيوتن وغاليليو وأنطوان لافوازيه.

إنه لأمر مؤسف وشديد الإحزان أن الإنسان في هذا العصر لا يعرف شيئاً عن الأصول المعرفية التي ترتد إليها جميع العلوم، وأن هذه العلوم تأخذ معايير تصنيفها والتحقيق في الصادق والكاذب فيها من تلك الأصول ، ولا يعرف شيئاً كذلك عن الأصول التاريخية لحركات العلم الحديث وأكاديمياته ومؤسساته.

تعريف الميتافيزيقا :

حقيقة الميتافيزيقا هي أنها السبيل الوحيد إلى تأسيس أي منهج علمي وأي علم ممكن الوجود وبغض النظر عن تفاصيله .. إنك تتعامل مع الميتافيزيقا في كل بحث علمي تقرأه وتحكم عليه أو تكتبه وتراجعه وتنظمه. كل صغيرة وكبيرة في أي بحث علمي تقودها الميتافيزيقا ، لأن الميتافيزيقا بالمعنى الأعم ليست الإيمان أو التصديق بالماورائيات ، وإنما "البحث الإدراكي، عن المنطلقات الوجودية والعلمية لمعرفتنا بالوجود ، وعن حقائق الأمور والهوية الحقيقية للأشياء وعن العلل العالية للزمن، وكذلك هي العلم الذي يمكن من خلاله تعيين كافة القواعد الممكنة للتجربة المعرفية، في كل مجال من مجالات الحياة".

بعبارة مختصرة وشاملة :

"الميتافيزيقا هي علم موضوعه الوجود كما هو في حقيقته، ومراتب الوجود، وهياكل الوجود ، ومنظومات العالمين وأكوانها، وطرق التواصل العالمي، والقوانين العلوية لأحداث وحركة الزمن".

إن الميتافيزيقا هي المرحلة التي تسبق تشكل العلوم ومناهجها ، والتي تبنى عليها تلك العلوم، ومن الصعب شرح ذلك للمبتدئين في ميدان الميتافيزيقا ، فقد أصبح الإعلام يقوم بتهميشها وربطها بالخرافات للأسف.

ولكن ما هي الميتافيزيقا حقاً وعن ماذا يدور البحث الميتافيزيقي ؟

يقال أن أصل الكلمة ميتا يعني ما وراء وفيزيقا هي الأصل بكلمة فيزياء وبهذا تكون الميتافيزيقا هي : ما وراء الفيزياء، وهذا التعريف صحيح وخاطئ بنفس الوقت ، لأنه يوحي أحياناً أن الميتافيزيقا هي العلم الباحث في الظواهر الخارجة عن منطقة الفيزياء والمادة فقط ولا يبحث فيما وراءها، تلك الأمور التي تشكل خرقاً للمسار العام لقوانين الطبيعة كما نرصدها، مثل رؤية شخص يطير في الهواء دون وسائل طيران، أو حدوث انفجار هائل دون سبب وسماع صوت الموتى يتحدثون من القبور... ورغم أن هذه الأمور تحتمل خروجها عن منطق الفيزياء ( إذا تم رصدها والتحقيق في صدقها ) ولكنها بكل تأكيد ، ليست هي الميتافيزيقا أبداً ... إنها تصنف تحت بندين من العلوم هما ما وراء الطبيعة Paranormal وما ورا السلوك Parapsychology .

أما الميتافيزيقا نفسها فهي أوسع بكثير.

2. إزالة المواضيع الميتافيزيقية التي لا تتخصص العلوم الموضوعية بالتحقيق فيها ضمن مجال دراستها ( الأسئلة الكُبرى – الطبقات العلمية المختلفة نوعياً ) :

إن العلوم التي اخترع الإنسان من خلالها الهاتف النقال وجهاز الحاسوب، وشبكة الانترنت ووسائل التنقل السريع، والتي قد يخترع فيما بعد بناءً عليها وسائل تنقل آني أو اتصال آني، فيما يسمى بفيزياء المستحيل، ليست علوماً ميتافيزيقة وإنما علوماً موضوعية ، تبحثُ في المحليات ، مثل الكائنات الطبيعية الحية ( البيولوجية) والكائنات الأرضية (جيولوجيا ) والكوكبية والنجمية ( أسترونومي ) ، ولكنها تبحث فيها من وجهة نظر الراصد الذي يستخدم حواسه المادية ، أو يستخدم أجهزة تتوسط بين حواسه وبين الموضوعات المدروسة ، ولكن هذه العلوم لا تبحث في الإجابة عن الأسئلة الكبرى ، تلك الأسئلة التي تقع خارج نطاق الزمن المحلي ، الذي له إحداثيات محلية موضوعية ويحتوي فقط على تأثيرات الطاقة وآثارها.

إن سؤالاً مثل : من خلق الكون ؟ هل الكون أزلي ؟ هل الكون مادة فقط ؟ وإذا كان مادة فقط هل هناك أمور خارج الكون ليست بمادة ؟ هل الإنسان هو وعي بلباس مادي أم أن الوعي ظاهرة تنتجها المواد؟ وهل جاء تجسد الإنسان إلى هذا الكوكب عن طريق نيزك يحتوي خلايا بدائية أخذت في التطور ، أم صممته قوى فائقة للقدرات المادية ؟... هذه الأسئلة ليست من تخصص العلوم الموضوعية ، لسببين : العلوم الموضوعية تبحث في موضوعات قابلة للرصد مادياً ، فهي تقصي من دائرة بحوثها أي علوم غير مادية وأي نوع من الافتراض أو حتى الحقيقة إذا كان لا يوجد بشكل مادي، فهي غير مكيفة أصلاً لتبحث في موضوعات ميتافيزيقية، والعلوم الموضوعية تستخدم منهجاً في التحقيق يسمى بالتجريب المنضبط ، يعتمد على تكرار التجربة وقياس الإحصاءات احتمالياً ، وبالتأكيد سيكون موضوع التجربة مادياً لأنها تجربة موضوعية ومحلية.

بعبارة أخرى فإن قبول أو رفض نظرية علمية ما ينقسم إلى مستويين : النوع الأول هو الحكم على النظرية من حيث المستوى الإحداثي للنظام الذي تمثله، مثل نظرية التطور فهي تمثل البُعد التاريخي لتطور الكائنات الحية ، ولا تمثل العلل التي أدت إلى حدوث التطور ، وحتى وإن قلت بأن الصدفة والعشوائية في تراتب الجينات هي السبب في حدوث التغييرات ومن ثم يتم اصطفاء التغييرات الأنسب نوعياً مما يجعل الأنواع والبيئة تتطور، فهذا لا يمثل العلة الحقيقية للتطور ، إنه يقع ضمن السببية، أي الأحداث المحلية التي تُلزم التطور.

ولكن النموذج الكوني لهذه الأحداث، هو نموذج تجريدي، يسمى بالماهية أو المورفوجينيا ، وهو غير موجود في عالم المحليات ، إلا أن العلاقات التي تنظم الكائنات المحلية تقع في ذلك البعد التجريدي، وكذلك نماذج الكائنات الحية، فعلى سبيل المثال ، سواءً أكنت تعيش على كوكب الأرض أو في كوكب بمجرة بعيدة، فإن نموذج الإنسان بخصائصه البيولوجية والسيكولوجية سيكون ثابتاً، وحتى لو نشأ كل من النوعين البشريين بأنظمة فلكية مختلفة، ومن خلايا حية منفصلة في الأصل التاريخي، فإن الأصل الماهوي يبقى على حاله، ذلك الشكل الذي تتخذه لتكون إنساناً، وذلك الترتيب الخاص بكودات الجينيوم البشري، حيث لن تحصل على إنسان إلا بهذه المصفوفة من العلاقات ، وهذه العلاقات مجردة عن العناصر التي تقوم بتنظيمها.

الأمر مشابه لرقعة الشطرنج : يمكن لهذه الرقعة المكونة من 64 بيتاً أن تحتوي أحجاراً لانهاية لأنواعها ، كل حجر تم تصنيعه بزمان ومكان استثنائي ، وأن تدور على نفس الرقعة مباريات لا تنتهي ، ولكن الرقعة نفسها ثابتة ، ونظام الشطرنج ثابت ، وعلاقات الأحجار وتفاعلاتها الممكنة ثابتة أيضاً ، حسناً إن ما يتغير هو حركة التحقق الزمني للاحتمالات الممكنة للعبة فقط، والسبب في ذلك يعود إلى كون الزمن لا يحتمل وجود كامل الاحتمالات المحلية في موقعة محلية واحدة بسبب قانون امتناع جمع النقيضين ( وبالتالي تكسر شبكة الاحتمالات وتوزيعها اللانهائي ).

أي أن السؤال هل القرد يشترك في أصوله مع الإنسان ، وهل الإنسان يشترك في أصوله مع بقية الكائنات ، هو سؤال يبحث في موضوع ثانوي ، يتعلق بالبعد التاريخي لتلك الكائنات ، يتعلق بتحرك قطع الشطرنج على الرقعة وتبدلها ، ومن الذي صنع كل طقم من القطع التي استخدمت على هذه الرقعة. السؤال الصحيح هو : من أين جاءت الرقعة بأسرها ؟ من أين جاء قالب الجسد البشري الذي يسمح بوجوده الفضاء وتسمح بتكوينه الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ؟ نموذج الجسد البشري لن يختلف باختلاف تاريخ التصميم ومراحل التحقق والأصول التاريخية ، السببية ضمن نفس المستوى... وكذلك الحاسوب ، سواءً كنت على القمر أو على سطح الأرض، أو في أقاصي الكون البعيدة ، دائماً سيكون للحاسوب نفس المهام الأولية ، ونفس المكونات الأولية، ونفس العلاقات بين مكوناته ، اختلاف شركات التصنيع لن يحول بين تشابه الحواسيب على امتداد الكون، لأن شركة التصنيع تمثل البعد التجاري فقط، وأما البعد الفيزيائي والقوانين الحاكمة للحاسوب فهي تجريدية ومنشرة عبر كامل الفضاء، وهي مستقلة عن الناحية التاريخية للتحقق المحلي للحاسوب ، فسؤال ما العلة في وجود الحاسوب ، من الناحية التاريخية يعود لأشخاص معينين وتسلسل معين للأحداث له أصل موحد تاريخياً ، ولكن من الناحية الماهية والكيفية فهناك علة لتكوين الحاسوب بهذا الشكل وهذه العلاقات ، يمكن ترجمتها إلى قوانين الكهرباء والمنطق الرقمي، وكذلك ترتد القوانين إلى ما تعنيه في مصفوفة بدء التكوين التي نشأ الكون مصداقاً لها.

فهذه العلوم الموضوعية التي اتخذت المادة المحلية محوراً لآفاق بحوثها ، لا يمكنها أن تبحث أصلاً في أسرار الحياة الحقيقية ، إنها تتخصص في جانب محدد من جوانب الحياة وتنظر له بطريقة محددة مسبقاً وغير قابلة للتغيير، لذلك فإنك عندما تبحث علمياً عن الأسرار العليا للحياة ، فأنت تفترض مسبقاً وبطريقة عقائدية أن هذه الأسرار موجودة بشكل مادي وقابلة للقياس التجريبي، وهذا الافتراض هو عقيدة وليس علماً ، كما أنه خروج عن الحياد والابستمولوجيا العلمية.

بعبارة أخرى فإننا لا نرفض نظرية التطور ولا حتى نقبلها ، إننا ببساطة لا نجدها كافية لدراسة الأصول والانتواعات، وعوضاً عن تضييع الوقت في البحث حولها سواءً بالرفض أو القبول ، فإننا ندع التاريخ وشأنه وندع البعد المحلي وشأنه ، ونعني بدراسة الحقائق الأكثر عمقاً لنفس هذه الظواهر أو لغيرها.

وبالتعبير الدقيق : نحن لا نسعى إلى نقد التأويلات العلمية بحد ذاتها ، وإنما إلى إدراك العلوم اللامحلية والتجريدية والروحية، بمنهج وخاص يليق بها وميتافيزيقا تتناسبُ معها، لا نقول إنها بديل عن العلوم الحالية أو مكمل لها، إنها نظام معلوماتي مستقل وقائم بذاته ، مختلفٌ نوعياً وأشمل من النظام الحالي الذي يشكل فرعاً واحداً من فروع تلك المنظومة الكُلانية.

بهذا البيان ، لم يعد بوسع الماديين الاحتجاج بالحجج التقليدية مثل الاختراعات أو رفض العلم التجريبي ، فلقد بينا تماماً موقفنا من ذلك ، نحن لا نرفض العلم التجريبي ولا الاختراعات بل نرفض الرؤية الميتافيزيقية المادية الأصولية التي تهيمن على موقف البشرية من العالم وتتحكم بها ... إن حصر العالَم في نطاق المادة المحلية ، وحصر المعرفة في نطاق الظواهر المحلية والموضوعية، ليس هو العلم التجريبي ، وإنما العقيدة المادية التي التصقت به ، ليس بالضرورة إذا كنتَ عالماً في الذرة أو علم الأحياء التطوري أن تكون بنفس الوقت متبعاً لمذهب المادية والوضعية في رؤيتك للعالم بأسره، تخصصك في شيء ، لا يعني تقييد كل آفاق الحياة في ذلك التخصص لأنه حينها يفقد حيويته وتفاعله مع كلانية الوجود ورحابته اللانهائية.

إذن ماذا تعني تلك النظريات الخاصة بإجابة الأسئلة الكُبرى من منظور فيزيائي وطبيعي محلي وما حكاية تلك العلوم التي صارت تردس بصفتها تجريبية خالصة لتثبت أصل الكون وتحل مشكلات الفلسفة كما تزعم ؟

قبل البدء... لتعلم يا قارئي العزيز أن القول بأن الكون بأسره مادة ولا وجود لشيء خارج هذا الكون ( أو خارج الأكوان والأنظمة المادية ) ليس من العلم في شيء، إنه عقيدة واضحة المعالم الدينية ، فهو قول ميتافيزيقي لا يرقى إلى نظرية في علوم الميتافيزيقا، لأنه لا يوفر معايير التحقق والبرهان الميتافيزيقي، وهو ليس علماً فيزيائياً لأنه غير قابل ليس قابلاً للاختبار التجريبي ، ورغم ذلك يتم نشره في أذهان طلبة المدارس والجامعات ويتم تلقينهم بطريقة تمنعهم من اللجوء إلى أي نوع من التفكير اللامادي أو طرح الأسئلة اللامادية.

______________


إرسال تعليق

0 تعليقات