العلم والنماذِج ... تحقيق كينيائي في رؤية توماس كون
العِلمُ والواقع ... والنموذج العلمي :
"إنّ رؤية الإنسان للعالَم تحددت كُلُّها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، من قبل العلوم الوضعية وحدها ، وانبهر المرء بالازدهار الناجِم عن هذه العلوم وهذا أدى إلى الإعراض في لا مُبالة عن الأسئلة الحاسمة لكل بشرية حقة ، إنّ علوماً لا تهتمُّ إلا بالواقع المحلي تصنع بشراً لا يعرفون إلا الوقائع المحلية" إدموند هوسرل - أزمةُ العلوم الأوربية الحديثة.
"عرَّف بول فيرابند العلم على أنه تلك الفكرة القائلة بأن العلم يمكن له، وينبغي له أن ينتظم وفقا لقواعد ثابتة وشمولية، هي في آن واحد، فكرة طوباوية. وذات بريق خادع. هي طوباوية لأنها تتضمن تصور مفرط البساطة حول استعدادات الإنسان أو قدرته. وحول الظروف التي تشجعها على النمو أو تسببه. وهي براقة خادعة من حيث إن محاولة فرض مثل تلك القواعد، لا تخلو من جعل ازدياد في كفاءتنا المهنية لا يكون إلا على حساب إنسانياتنا".
تماماً كأي فِعلٍ زمني ، العِلمُ كتفاعُل زمني بين الذات والزمن ، مُكوّن من ثلاثة مُنطلَقات : النواة التي هي منطلق التفاعل العلمي بين الذات والوجود وحقيقته النهائية، ثم الساعة أو الحركة التفاعلية المبنية على تلك النواة والتي تنتج العلم، ثم التحقق النهائي للساعة وهو غاية العلم نفسه ومنتهاه.
نواةُ التفاعُل العِلمي :
التفاعلات الزمنية دائماً لها نواة تنطلق منها والعلم بما هو تفاعل له نواة أيضاً...
في كلّ حركة ضمن الزمن ، يبدَأ الأمر بنواة هي التي تحدد منطلقات تلك "الحركة الزمنية". تسير الحركة الزمنية في عدة طرق متشابكة عبر تفاعلات مع الكائنات الأخرى ضمن وسط الانتشار الذي تتحرك فيه ... تماماً كاللولب الطائف ، هكذا يكون هنالك زمنٌ وواقع تفاعلي ... والعِلم هو حركة زمنية تنقُل الواقع إلى الإدراك ، ومن الممكن حينها أن تعتبر نواة العلم ضمن الواقع المُدرك فقط.
ولكنّ الكائن الذي يقوم بالإدراكَ ، مُشاركٌ فعّالٌ في هذا التفاعُل الزمني الذي يسمى بالعلم ، فهو الذي يحدد المجال الذي سيقعُ عليه فعل العلم ضمن الواقع ، وبدون الكائن المدرِك الذي يسمى وعياً وروحاً ، ليس هنالِكَ علم فعلي. هذا هو السبب ، أن حالةُ الإدراك الذاتية البسيطة ، التي توحّد بين المُدرِك والمُدرَك ... هي تلكَ النواة.
هذه الحالةُ الوجدانية جَوهَرُ العلاقة التي تتخِذها بين ذاتك وزمنك، تلك العلاقة بين الذات بإدراكها ، وبين الوجود بمُدرَكيته ، وكما سبق وتم البيان ، إنّ جميع العلوم والعلماء والموجودات يرتدون نحو مرآة إدراكِك التي تُحسّها بالاستبطان والحدس الصافي المُباشر ، كلما عزَلتَ نفسَك عن الأحكام المُسبَقَة ومُلهيات الإدراك ...
يقولون في الغشتالت ، إنّ رؤية الموضوع المُدرَك بحاسة ما ، لا تتم بانفصال عن الخلفية الزمكانية التي تحتويه ، فلو هجمتَ على شخصٍ ما لتطعَنَهُ بموزة بشكلٍ مباغت ، فلن يتخيلها سوى سِكيناً ، كذلك عندما ترى مُثلثاً متناسِقاً طويل الأضلاع على لوحٍ أبيض ، لكن من دون زوايا متصلة بالأضلاع ، لا تستطيع إدراكه على أي نحو سوى أنّه مُثلث ، كذلك الأمر ، بالنسبة لشخص ما عِشتَ معه فلن تقدر على تخيله شيئاً سوى الذي تعرِفه مُسبقاً ، حتى ترُدَّ الخلفية لحالها المُدرَك ، أو تغيرها.
لقَد استخدَمَ فيلسوف العلوم توماس كون هذه الخلفية ، لكي يوضحَ حقيقة العلم التجريبي ، إنّ ما تراه من مجموعة إنجازات عظيمة تملأ الكوكب ، لا يعودُ لنوعٍ واحدٍ من العلم ، أو من فلسفة العلم ، إنّهُ بالأحرى يشتركُ فيه ، أربعةٌ خلفيات\نماذِجَ علمية مختلفة جوهَرياً ، إنّ ما تُدرِكُه على أنّه إنجازٌ للعلم التجريبي كحاسوب الكتروني ، يعود لفيزياءٍ أُخرى لا علاقة لها بالفيزياء التي قبلها ولا التي بعدها ، إنّ فيزياء الحاسوب نوعٌ من الفيزياء الإجرائية المحلية القانونية ، التي تمتَثِلُ لمذهبَ آينشتاين ونيوتن ، أمّا نظرية الارتياب التي يؤمن بها الفيزيائيون ، وما تفرع عنها من جميع المعضلات والمشاكل ، وجميع الآراء المادية التي تهاجم الميتافيزيكس بناءً عليها ، هي فيزياءٌ مُختلِفة تماماً ، من حيث المنهج والمبادئ والنتائج ، وإنّ دَمجَ نوعي الفيزياء السابقين في عِلمٍ واحد ، لهو عين التضليل الإعلامي والشيطاني وخدمة الظلام باسم العلم والمعرفة والحقيقة.
وقَبل شرحِ ذلك بالتفصيل ، لترافقني في هذه الرحلة السارية ، نحوَ عوالِم المُطلق كما عُرِضت عليك بوابتها البونية ...
ساعة التفاعُل العلمي \النماذِج :
بعدَ بدء الحركة الزمنية البنائية ، من نواة الحَدَث ، تتسعُ الحركة بشكل لولبي ، لأن اللوب هو التفاعل الزوجي ، بين النواة وبين المُحيط الزمني ، استمرار هذا التفاعل من النواة إلى المحيط وبالعكس ، يؤدي للقطبية ، التي تنسج اللولب ... مع استمرار التوسع ، يوماً بعدَ يوم ، يتحوّلُ اللولب إلى شبكة من العلاقات الديناميكية ... هذه الشبَكَة تحدد ما سوف يتجسّدُ من تلكَ العلاقات والفعاليات ، من نتائج واقعية.
في إطار النمو العلمي ، وتأسيس العلوم، تكون هذه الشبكةُ التي تُنظّم النتائج والتفاعلات العلمية ، سواء في المنطق أو الفلسفة أو العلم التجريبي ، هي "النموذج" الذي يرسُمُ خط الأفق ومصير العلم. وفق تعبير توماس كون ، فإنّ النماذج ليسَت مُجرّد كائنات هامشية ، فكل ما ينتجه العلم يمشي وفق ساعة النموذج ولا يخرج عنها بشيء ، وحين تصل هذه الساعة لنهاية طورها ، تنهار لتبدَأ ساعةٌ جديدةٌ بالظهور ، ساعة كانت كامنة في رحم تلك الساعة الناظمة القديمة ، ظهور الساعة الجديدة من شأنه أن يغير مسار العلم بأسره ، وذلك بالتأكيد ، ليس دائماً للأفضل.
في عالَم الغياب ، وضمن إطار البحث عن الواقع بما يكون واقِعاً غائباً ، البحثُ عن الدواء الغائب ، وعن طريقة الانتقال لمكان غائب ، وعن الحجارة الكريمة الغائبة ، والحقائق التاريخية الغائبة ، وعن تشريح الجسَد الغيابي ، وكُنه المادة الغائب ، وكُنه العقل الغائب ، والبحث عن الوعي من زاوية الغياب ، وعن الحقيقة المُطلقة من زاوية الغياب ، أنشأ ذلك الفلسفة ، والعلم ، وطرائق الدين ، والطب ، والفيزياء ، وكُلّ شيء آخر بدأ من نواة الغياب وساعة البحث.
لكُلّ ساعة نماذِجُ تُنظّمها ولكن تلك النماذج ليست عشوائية وفوضوية ، فأياً كان النموذج الذي ستختاره فإنّ احتمالية وجوده ترجعُ لمقدمات وأصول ، هي قاعدة احتمالات النموذج ، ومنها ينبني النموذج بالكامل ، تلك القاعدة أيضاً لا تأتي من العدم ، ولا بشكل عبثي ، هُنالك نماذجُ كبرى لا تتغير ، وهنالك نماذج تتفرّعُ عنها باستمرار ... إنّ نماذج ساعة البحث عن مزيدٍ من المعرِفة الغائبة ضمن عالم الغياب ، والمُفارقة للإدراك والقابعة ضمن الواقع المحلي ، دون ردها إلى أصلها الحق عبر توحيدها بعالَم الإدراك ، يكوّن أربعة إمكانات رئيسية لظهور هذه الساعة :
غاية التفاعُل العلمي بين الإنسان والواقع :
لم تكُن يوماً غاية العلم مجرد المعرفة الظنية وإشباع الفضول ، لا من حيثُ علوم الشهادة المقدسة ، ولا مِن حيثُ علوم الفلسفة والرياضيات ، ولا من حيث الطبيعيات ، ولا حتى علوم الآثار والتاريخ والأديان ، والعلوم الإنسانية والأدبية والفنية.
لكلِّ علمٍ غاية لابد من بلوغها ، غياب الغاية عن الباحث العلمي يحتّم عليه "تغيير نموذج العلم" الذي يتبعه ، ففي الطب اليومَ مثلاً ، لا يزالون يتبعون النموذج النيوتني المطبق على البحوث الطبية ، التي ترد العلل إلى أحداث كيميائية محلية ، يمكن علاجها من نفس طبيعتها "الافتراضية" وحسب. هذا المبدأ الطوبوغرافي المعرفي ، منعَ الطب من تبني أي بحثٍ يحاول كسر صخرة المادة الجاثمة على قلب المريض ، أزهارُ باخ ، علاجات الإيورفيدا والطب الصيني ، علاجات الدكتور جون كريستوفر ، جميعها تم التحقق منها تجريبياً بأفضل الوسائل الممكنة ، ولكنّها أُهملت بسبب تلك الصخرة.
رُغمَ أن الطب لا يحسنُ به أن تكون غايته مجرد الانتصار لنظرية ما ، على حسب فهم المرء ، لابد أن تكون الغاية الحقيقية من أي دراسة طبية ممكنة هي الوصول لعلاج حقيقي للمرض ، لأن الغاية ليست متضمّنة في نموذج العلم ، بل النموذج قائمٌ لخدمتها ، ولكن الأنانية والتفاخر والتكبر والمصالح الشخصية الضحيلة ، حالَت بين التطبيق الطبي العملي وبين تبني الطب لأي نموذج علمي جديد. وانعكسَ ذلك في دراسات إحصائية لانهائية مملة لم تحسُن بشفاء مرضٍ واحدٍ شفاءً تاماً حتى الزكام. هذه حقيقة معروفة جيداً ، الأدوية تفعل مفعولاً وهمياً أو مفعولاً يؤثر على الأعراض الأخيرة لسلسلة أسباب المرض ، بينما تكون العلّة الجوهرية خافية تماماً عن إدراك الطبيب ، ورغم ذلك ، أكثر الأدوية النفسية والجسدية يؤدي لأخطاء علاجية قد تكون قاتلة "لأنها مبنية على نموذج نيوتن الميكانيكي الذي لا يراعي طبيعة التآثر المعقدة والعوامل الدخيلة".
في القدم ، كان تعيين غاية العلم سابقاً حتى على تعيين النموذج ، لأن العلم الذي لا قيمة ولا أخلاق له ، لا حاجة لوجوده أصلاً بين العاقلين والأسوياء. قيمة العلم تتوقف على الغاية المحققة منه ، هل هي مجرد الدراسة النظرية واكتساب مهنة وفخر بين الناس ، أم تتعدى ذلك لتصل لعمق الحياة والوجدان ، لا تحتاجُ لنماذج إحصائية رياضية لتثبتَ أنك سعيد من زهرة ، كذلك لا تحتاجُ لتلك النماذج لتعالج نفسك ، أو لتصل لحقيقة الواقع ، لأن هذه الأمور ليست مجرد نظريات وتخمينات رياضية ، هذه ... حقائق يُدركها الوجدانُ الحي.
جميلٌ أن يكون لكل نموذج علمي نطاق وجودٍ ممكن ، فإنه من الخاطئ إقصاء أي وجهة نظر أياً كانت طبيعتها ، لأن ذلك سيؤدي في النهاية إلى الثورة والتمرد ، لستُ أدعو إلى فرض نموذجي العلمي على الأوساط الأكاديمية ، ولكن ، من حق أي نموذج علمي أن يوجد ويحيا وليس من حق أي سلطة في العالم منعه من الانتشار ، أياً كان موضوع العلم ونموذجه ، وأياً كانت طبيعة السُلطة ومبرراتها.
في نطاق الفيزياء ، خدمت التجارب البشرية خدمات لا يمكن تنسيانها أو التغاضي عنها ، والتصق بها المذهب الوضعي الذي ما قدم شيئاً نافعاً عملياً للبشرية بشكل مباشر، إنّ مشكلة العلم ليست في معيار التجريب ، بقدر ما هي في نمذجة التجريب وتأويله. جميعُ نظريات الفيزياء الإجرائية عاملٌ أساسي لا يمكن الاستغناءُ عنه ، وبنفسِ الوقت ، لا يمكنُ اتخاذه علة كفاية ، أما نظريات الكون التوصيفي المغلق والوضعية في نطاق الفيزياء ، فرغم كل ما أدت إليه من فساد في المعرفة والعلم ، ومنعٍ لحرية الرأي وحق التعبير بحجة العلوم الزائفة ، لكنها أيضاً خدمت بطريقتها ، لقد أقصت الكثير من الشبحية التي تربط العالم المحلي بالعالم التجريدي ، وساهمت بذلك بإمكانية الاتصال بين العالمين ، ومهدت الطريق لنوعٍ من الفيزياء ، هو موضوع هذا الكتاب.
0 تعليقات