Advertisement

Main Ad

الباب الأخير في عتبة علم المعرفة [3] : أنواع العلم بحسب العلاقة بين الذات والوجود || الوحدة والافتراق بين العَالِم والمعلوم

 


العلم الأُوّل : الوحدة بين الذاتِ المُدرِكة وموضوعِ الإدراك :​

يسمى بالعِلمِ الوجداني ، أو الحضوري ... حينَ يكون الموضوع حاضراً بذاته الحقيقية للذات التي تُدرِكُه ، دون وساطة ذهنية بين الذاتين ، فهما الآن ذاتٌ واحدة في الزمن ، هذا الزمن لا يعود فاصلاً بل واحدياً ، فلا يكون تعرفك على المعلوم مُجرَّد خبر عن الواقع أو تأثير مُمارسٍ على الإدراك يؤدي لصورة ذهنية من الأثر ، بل هُو حاضرٌ إليك دونما وساطة ، كقيمة وجدانية كريمة ... فكما تعرف بهجتك الحقيقية ، وجماليات الحزن والزمن ، تعرف حقيقة الحضور ، حين لا تلتفِتُ لعوالم الغياب ، تُكْشَفُ لكَ عوالم الحضرات والأنوار العليّة ... جميعُ القيم الأولية للحياة جاءت من عالَم الحضرة ، وكل ما تتفاعلُ معه ضمن عالم الغياب تفعلُها من منطلق الحضور ... إحساسُك بالعلم كحالة وجدانية تسبِق على المحتويات المعرفية التي تحضُر إلى تلك الحالة ، ذلك الإحساس ، هو الأصلُ في العلم والذي ترتدُّ إليه كل العلوم والمعلومات فيكون هوَ الحَكَمَ العدلَ عليها.

العلم الثاني : الوِحدَة بين موضوع الإدراك وصورته المُدركة :​

حينَ يحضُر لك أثر الشيء أو تأثيرهُ على حواسك الذي يترجمُه عقلك ، ويعرضه على مرايا إدراكك "البون" كزمنٍ محسوس تسميه صوراً ذهنية ، فتذكّر أّنّ هذا الإحساس بالحضور "حضور صورة الشيء الذهنية حسياً وعقلياً" ، هو عِلمُكَ بالزمن المُدرَك ، المُفارِق للإدراك المباشر ، الخالي من الوحدة الذاتية ، إنّه علمٌ تفاعُلي ، وليس علماً فاعلياً ، لأن العالم والمعلوم منفصلان بقيود ، تمنع وحدة الفِعل ، وتمنعُ وحدة الزمن ، ولكنها تُبقي المعلومَ كأثرٍ قابلاً للإدراك المباشر ، الذي يوحد بين الذات العالمة والموضوع المعلوم في زَمن التفاعُل ، زمن البون. إنّ مرايا البون هي نواة هذا العلم ، وهي حِجابُكَ عن الواقع الحقيقي ، وبوابة العبور نحوه أيضاً وفقاً لسلوكك معها ... هاتين العلاقتين ، هُما علاقات علوم الشَّهادة الحقيقية بأنقى صورها ...

خارِجَ علوم الشهادة ، ليس هنالك علمٌ يقيني للبشرية ولن يكون ، إنه بالطبع ، خيارُك أن تبحثَ عن العلم الحق ، أو ترضى بالعيش بواقع ظني في أحسن الأحوال ، ووهمي في أسوئها .... هذا خيارُكَ وحدك ، وليس مناظرة علمية مع شخص آخر ينتصر فيها أحد الطرفين ضمن زمن غائب ، لا يقدم ، ولا يأخر.

وإذا كُنتَ ترى ترف العيش ورغده ضمن هذا الواقع الذي أمامك يرضيك ، وما حققه العلم الظني التجريبي كافٍ ، وشهاداتك التي تتفاخر بها ، أموالك التي تجمعها ، وبقية الأملاك التي لا تستطيعُ إثبات وجودها كافية لتحقق إنسانيتك ، وتحقق روحانيتك وترضي وجدانك ، حينها لن ينفعَ الحوار أصلاً ولا أملك لك من الله شيئاً.

تجلي العلم الثالث : التفاعُل المفارق بين الموضوعِ المُدرَك والذاتِ المُدرِكَة :​

هذا هو العلمُ الثالث ، من حيثُ المُنطلَق العلمي الوجودي ، حينَ يكون موضوع الإدراك هو الواقع المُفارِقَ للإدراك ، الذي يكشفهُ بالحُكمِ عليه ، وتأويله والتفكّر فيه ، هذه الأشياء "الثبوت\الفهم\الإدراك" هي أداتُكَ لكشف العالَم من حولك ، الثبوت لا يتحقق دون رَدّ الكائن ضمن غيابِه ، إلى هويته كقيمة حاضرة للذات ، تستطيعُ من خلالها الحكمَ على غيابية الكائن ، فإن انقطَع اتصال الذات المُدرِكَة مع الكائن المُدرَك انقطع العلم ، ولذلك لا تعلمُ شيئاً خارج حيز مجالك الإدراكي ونطاق أرصادك الحسية وما تستطيع استرجاعَهُ من ذكريات ، إنّك لا تعلمُ ما في الحجرة التي وراءك وبجوار غرفتك ما لم يكن هنالك "وسيلة" توصل ما يحدث فيها " نحو حواسك التي تعرض عليك المُدرَكات" هذا هو السبب الحقيقي في نسبية المعرفة البشرية جمعاء والتي لا يمكن أن تتغير من نطاق المجموع والمجتمع والدول ، بل من نطاق الذات فقط ، لأن المجموع حاضرٌ لبعضه البعض على نحو الظن ولغة التواصل بينهم ظنية بالكامل ...

لذلك كانَت قواعِدُ المنطق تمنَعُ التسلسل في الإثباتات للانهاية ، دونَ أن توفّر بداهة منطقية تقوم عليها المعرفة ضمن نطاق المعرفة نفسه – كما تم عرضه في الباب الرابع – ، إنّ قوانين المنطق الأوّلية تظهر جميعاً معاً وبنفس اللحظة المعرفية ، وفقط عبرَ تفاعُلها يمكن بناء برهان أو استدلال ، وغياب أحد البداهات المنطقية "مبدأ التناقض \ الهوية \ السببية \ الحُكم \ التحليل التجريدي \ تركيب المُجرّدات ...." سيكفي لمنع أي استدلال أو قياس مُمكن ، سيحول دون وقوعِ أي معرفة.

إن جميع المبادئ المنطقية لا يُمكنُ ردها إلى صيغة منطقية أبسط ، إنّها كـحالة الكموم الفيزيائية ، كموم في مجال المنطق ، وغيابُها يحول دون وجود عالم منطقي أو ذهني ، ويحيل الواقع الحسي لعالم عدمي. ولكنّ هذه الكموم المنطقية "البداهات" بما هي كائناتٌ مُدرَكةٌ ومفارقة للإدراك فلا يمكنها تعليل حالة حضورها العلمي للذاتِ العالِمة ، لذلك لا أحد يستسيغُ فكرة البداهات ، لأنه ملم يتم تحديد معيار فاصلٍ بين البديهي والنظري ، فمن الممكن الادعاءُ عن أي قضية أنها بديهية ، ولذلك كانت ظواهر ميكانيك الكم تبدو وكأنها تكسرُ البداهات ، لأن امتناع التاقض في الذهن ، وفي الواقع الفيزيائي المحلي ، لم يقدر الفلاسفةُ على إثبات وجود فرقٍ بينهما.

وهكذا احتاجَت قوة أعلى من الزمن المفارق الغيابي ، تصلُ بينه وبين الحضور ، وهي البون الإدراكي نفسه ، وهذا البون "المرايا التي أمامك" ترتدُّ إليها كل الكائنات الحسية والعقلية ، فتغدو مُجرّدَ علاقات ، أي "وحدات إدراكية" معروضة على المرايا ، تتعرّف حضرتك عليها بشكل أولي حين تردُّها لنسبتها "موقعها التفاعلي الحقيقي" ضمن المرآة. كما مرّ من قبل. هذه العلاقة ليست اختزالاً مكانياً كالذي يمكن أن تتصوره. إنّ العروض التي تراها "تكشِف جوهرها المكنون" من خلال ردها للمرايا لأن وجودها في المرآة متحدٌ ذاتياً مع وجودها خارج المرآة ، رغم أنه هنالك قيود تمنع التعرف على كامل الحقيقة الموحدة بين الشيء المُدرك والشيء الواقِع ، لكن الوحدة تبقى محسوسة ، لأنّ الحضرةَ أصلُ الوجود وليس الغياب ، فمتى كانت حضرة فلا يعود من معنى للغياب سوى عدم التفاتك لحقيقة حضور الشيء ، فمتى حضر الأثر الفيزيائي لإدراكك على مراياك البصرية ، فإنّه من حيث هو حضور ومن حيثُ أدركتَ حضوره في "الآن" دون تأويل وأحكام مسبقة ، فهو متحدٌ بالحضور المُطلَق لكل الأشياء ، هكذا فقط يمكنك بناءُ حكم حقيقي دقيق على كائنٍ مُدرَك برده نحو وجوده الحاضر لك ، واستنتاج غيابه من وجوده الحاضر.

وفي غيابِ هذا الرّد ، تغيب الكائنات عن أن تكون ثابتة الوجود ، أو معروفة الكُنه ، بالنسبة للإدراك ، تبدو العوالِمُ بالنسبة لك غريبة مجهولة مخيفة ، تبدو كمتاهةٍ مُطلقة ، ومن خلال بحث المرء ضمن هذه المتاهة عن نقطة عبور ، عَلِقَ ضمنها ، وتحللت هُويته الحضورية إلى مجالات الحياة الدنيوية ، وهذه المجالات شملت المعارف والعلوم وسائر الأشياء والأحوال. أي أن علمك بأي شيء سيبقى مشوشاً طالما لا تردّه لأصله المِرآتي الحق.

إرسال تعليق

0 تعليقات