"الإنسان ذات مدركة، لها وعي وحضور، ولها جسد يشكل البنيان الذي يسمح لها بالتفاعل مع العالم الخارجي."
إن رغبة الإنسان الحية فيه هي أقوى البراهين الممكنة على تجرد نفسه الناطقة وروحه الواعية، فهذه الرغبة ليست دفعاً بيولوجياً أعمى كالذي تُحدثه غريزة الجوع والعطش والجنس والبقاء، بل إن رغباته تلك تذوب ذوبان الجليد في النار حينما تظهر له رغبته الحيوية، رغبة الجمال، رغبة المطلق، الخير ، الحق، الفضيلة.
ولذلك يضحي الإنسان بنفسه ووجوده الزمني من أجل تلك المعاني والقيم، ويضحي برغباته الأخرى كلها، فلا يبقى له وجود في هذا العالم سوى فعله الزمني لتحقيق رغبته الحيوية.
على أي حال ، يمكنك تمييز طبيعة الموضوع الذي تدركه من خلال تحليل وجوده المدرَك، عوضاً عن أن تسأل شخصاً آخر "هل عقلي موجود"، اسأل نفسك هل العقل كما تحسه وتدركه، يشبه المادة التي تحسها جسدياً بحواسك الخمس ؟
هذا بيان مختصر لتفرق بين الموضوعات العقلية والموضوعات الحسية المادية
الموضوعات العقلية :
- تكون دائماً ملازمة لعلاقات
- تكون دائماً ملازمة لأحكام
- الموضوع العقلي وحدوي وليس متكثراً ولا قابل الانقسام
- الاتصال بين المعقولات هو اتصال جوهري ينبعث من طبيعتها وليس من اعتبار الإنسان
الموضوعات المادية :
- المادة معزولة عن الهوية العلاقية، العلاقات بين المواد هي تجاور واقتران زمني ومحلي بين ذريرات.
- لا يوجد أحكام على المواد، المادة يتم الإحساس بها فقط.
- الكائن المادي وعلى فرض وجوده، هو مجرد تجمع لذريرات لانهاية لها، كانت لتتشكل على آلاف الصور الأخرى ولا يمكن الجزم بوجود وحدة داخلية أدت لهذا الشكل بالذات، فالاقتران شيء ظاهري وليس جوهرياً، إنه مجرد رصدك لشيئين بنفس الميقات، وليس أنهما حقاً معاً متحدين.
- لا يوجد اتصال بين المواد، المادة معزولة بطبيعتها وكل ما تظنه إتصالاً بين مادة وأخرى هو "حكمك العقلي" على وجود تلك المواد بنحو متصل، فالدائرة مثلاً أو الخط الذي ترسمه أياً كان، هو مجرد نقاط حبر متتالية، كل نقطة منها مجرد عناصر كيميائية متجمعة، والوحدة بينها حكم عقلي فقط.
هذا فقط بيان توضيحي بأسهل ما يكون، لماذا هناك علم اسمه "فلسفة العقل" وهو علم تجريبي، ولا يمكن أن يتم حسم الموضوع بالموقف الساذج الذي يقول : العقل وظيفة دماغية فقط!
ولكن الحقيقة أن طبيعة الإدراك أو الإحساس العقلي مختلفة جوهرياً عن طبيعة الإحساس المادي، وكونك تحس بالعقليات، بشكل مختلف عن إحساسك بالماديات، فهذا يعني أن "قوة إدراكك العلمي للمعقولات تختلف عن قوة إدراك المواد" فإذا أطلقنا على الثانية جسد، نقول أن الأولى هي "العقل" وهذا بالتأكيد ليس المشاعر والأفكار، نحن نتعامل مع عالم متكامل.
وكما تدرك المحسوسات المادية وتتيقن من إدراكك لها، فبنفس الطريقة تدرك المعقولات المجردة عن الماديات، وبنفس مقدار ما تكون المحسوسات موضوعاً للوعي والإدراك، تكون المعقولات كذلك، لا بل هي أسبق بمراحل.
بالإضافة، العقل يمكنه تفسير المادة لأنها تحتاجه في وجودها، لأنها في النهاية ليست مجرد ذريرات متجاورة عشوائياً، ولكن المادة لا يمكنها تفسير العقل لأنه لا يحتاج إلى المادة ليكون موجوداً، فهو نوع متمايز تماماً عن الإدراك المادي المحلي، ويمكن أن يبقى قائماً حتى ولو أصبحت الموضوعات المادية غير نسبية ولا محلية، تماماً كما تعقل وتتصور عالم الكموم.
...........
ما هو الفرق بين العقل والدماغ
نوعان من الرؤية الكونية يجيب كل منهما بطريقة مختلفة عن الآخر، الأولى هي الذاتية : من الذات وتسير نحو الموضوع، أي من إدراكك إلى العالم، فتحاكم قضايا العالم بناء على إدراكك، والثانية بالعكس، الموضوعية : تحاكم فيها "إدراكك" بناء على قضايا العالم.
الرؤية الأولى تسمى علومها بالعلوم الذاتية، والرؤية الثانية تؤدي للعلوم الموضوعية.
في الرؤية الذاتية يكون ثمة غاية ووسيلة، غايتك تحددها ذاتك الحية المُدركة، فلا علاقة بينها وبين التطور الحضاري بالضرورة. ووسيلتك الذاتية تعتمد على قواك الداخلية مثل الروح والنفس والوعي والإدراك، هذه الأشياء يمكن استنهاضها بمناهج اليوغا "القديمة الهندية" أو بالعرفان الإسلامي أو بعلوم المسمرة.
في الرؤية الموضوعية يحدث العكس تماماً، فالغاية موضوعية ولا علاقة لها بذاتك، ووسيلتك دائماً مقترنة بالبيئة والآلات.
ومن الواضح أن علوم الدماغ والذكاء الاصطناعي تتواجد في حقول الرؤية الموضوعية، وليس في الذاتية، ولكن المشكلة هي أن بيانات العالم الموضوعي مختلفة نوعياً عن بيانات العلوم الذاتية، لأن المعطيات المباشرة لإدراكك تجعلك تدرك وعيك، ذاتك، كشيء مستقل أو "منفصل" عن العالم الموضوعي، وتميز بين "الخبرات النفسية الذاتية" وبين "المعطيات الغيابية الموضوعية".
سبق ووضحت ذلك في هل العقل ميتافيزيقي ؟ كيف يصنع الدماغ الوعي
إن إدراكك لكل منهما هو الذي يجعلك تفرّق بينهما، وهذا الإدراك يختلف فيه الموضوع الذي تركز عليه وتحسه، أما إذا أقصيت إدراكك جانباً فمن الصعب جداً التعرف على العقل فضلاً عن إثبات وجوده.
إذا سلمت للحظة ما أن العلوم الموضوعية قادرة على تفسير الخبرات الذاتية، فكل ما فعلته هو أنك "ألغيت تلك الخبرات" من حيث نوعيتها الإدراكية والوجودية المتمايزة، أي لم تعتمد على أصاليتها ووجودها لتحكم عليها، ولكن حولتها ل"فرضية" وتركت التعرف الذاتي إليها وجعلتها محض قضايا منطقية لا تختبرها.
وهذا يجعل البعض يصرر بإلحاح شديد على أن الروح ليس مجالها العلم ولكن بيوت الأشعار ومشاعر المحبة، وأن العلوم الصارمة كما يسمونها لا يمكن لها الوجود إلا في حيز موضوعي، يعني ببساطة، يفصلون البُعد العلمي والمعرفي للروح عنها ويتركونها مجرد أداة للغو الحديث.
وهذه كانت مرتكز كل دعوات المحبة المتطرفة في الوقت المعاصر، والتي تريدك أن تستغني عن فكرة "النظام الروحي" فتجعل الروح مجرد شبح لا نظام له، عاجز عن إثبات شيء يتعلق به، موجه فقط للمتعة ولدعم الأخلاق النفعية غير ذاتية المنشأ.
على أي حال …
يوجد في العلم الموضوعي الحديث، مبحث اسمه "فلسفة العقل" Philosophy of Mind " يبحث عن الفرق الجوهري بين العقل والدماغ "أو الذكاء الاصطناعي باعتباره وظيفياً مادياً يشابه نوعية تكوين الدماغ" فليس الأمر بتلك السهولة التي يصورها عادة الماديون "أن العقل مجرد وظيفة" لأن وظائف العقل لا تنطوي على توجيه خوارزمي ابتدائي بلغة الآلة كما في الذكاء الاصطناعي، وهي أيضاً وظائف معلوماتية وليست ارتدادية ، أي أنها لا تعتمد منطق الحوسبة الكهربائية ومبدأ الفعل ورد الفعل.
وفي نتائج هذه الفلسفة ثمة ثلاث نظريات أساسية : أولاً العقل هو انبعاث من شدة التركيب المادي وفق قانون كوني لا يزال مجهولاً، ثانياً العقل والوعي كلاهما وهم نحس به كردة فعل عصبية، ثالثاً العقل والوعي هما تفاعل كمومي عميق، يخضع لعالم الكموم مما يتيح احتمالات لانهائية وتنتهي بقرارات لاحتمية تبدو كأنها إرادة حرة.
1 العقل كانبعاث :
نظرية قديمة نوعاً ما، ولكن بحوثها لا تزال قائمة، إذ أن زيادة التعقيد دائماً تغير نوعية الشيء وفق هذا التصور، فزيادة تعقيد الجسيمات يكون الذرة والعناصر الكميائية، وتعقيد العناصر يؤدي لتكوين المركبات، ولكن المركبات لا تشبه العناصر بشيء.
وحين تتزايد التعقيدات الوظيفية "التي لها معنى ودلالة" تتحول المادة العضوية إلى حيوية ، والتي تتعقد فينشأ عبرها جملة عصبية بدائية تتراكب أكثر من فرط التراكب ينبثق شيء اسمه الوعي والعقل.
هذا التفسير صحيح قليلاً، لأن التعقيد حتماً مرتبط بتغير ماهية الشيء وسلوكه الحيوي، ومن الواضح أنه كلما زاد التعقيد أكثر أصبح الشيء أقرب للحياة وللوعي، فما يقصده أصحاب النظرية ليس أن الوعي وهم بسبب تراكب الوظائف العصبية، ولكن أن الوعي والعقل وجودان غير ماديان، لكن نتجا عن وجود مادي "لاحظ هنا أن الوجود المادي لم يعد مادياً بسبب التطور".
2. العقل كوهم :
في كتاب "الوعي:مقمة قصيرة جداً" يخلص الكاتب في نهاية المقال الأخير تقريباً إلى أن الوعي مجرد "خداع عصبي" قام به الدماغ لنفسه، وذلك فإشارة كهربائية وظيفتها تعزيز الشعور بالوعي، هنا الوعي أصلاً غير موجود، ولكنه ارتداد كهربي للدماغ.
يدعم هذا التصور أغلب رؤوس البايولوجيا المعاصرين وعلى رأسهم دوكينز ودعاة الإلحاد الجديد، وبعض الفيزيائيين الشهيرين جداً ومنهم هوكينج وكراوس.
مشكلة هذا التفسير أنه يكتفي ب"إنكار الظاهرة العقلية والإدراكية" ولا يحاول تفسيرها موضوعياً، لأنها في النهاية شيء محسوس وقابل للإدراك، وبنفس الوقت، إدراكه مختلف كلياً عن الموضوعات المادية. وهم يقولون لا حاجة لإدراكه أصلاً أو إرجاع الخبرات الذاتية إلى أسباب، لأنها وأياً تكن، فلن تكون إلا وهماً.
هذا موقف متطرف كما يظهر بوضوح، لأنه أصلاً يلغي فكرة البحث قبل بدئه، ويحاول أن يقول لك : لا تلتفت من الأساس لخبراتك الذاتية ولا تركز ليها ولا تهتم بموضوعها على الإطلاق.
وهذا يعيدنا إلى نقطة أكثر جوهرية وهي : ما هي المعرفة أصلاً ؟ ما قيمة الحقيقة ؟ كيف يمكن معرفة العالم ؟ هل تبدأ من ذاتك أم تقصي ذاتك وما الدوافع لكل منهما ؟
هذه الموضوعات تكون أبعد عن البحث العلمي الموضوعي لأنها حاكم "قيمة البحوث الموضوعية وعلومها" وتحاول فهم حقيقتها وأحقيتها وكذلك عدم حصر رؤية المعرفة بها إذا لم يكن ثمة برهان قاطع على أن العلم موضوعي دائماً.
3. الوعي كظاهرة كمومية :
هذه كانت محاولة "روجرز بنروز" في تفسير الوعي بإرجاع الخبرات الذاتية إلى كونها نتاج عمل الكموم، لأن الكموم غير مقيدة في أعمالها ضمن مستواها ويمكن أن يحدث هناك فعلياً أي شيء، فإن المادة تقريباً تلتغي من الوجود ويحل محلها شيء أكثر تحرراً، وفي الوقت نفسه فإن الدماغ وهو "صلة الوصل بين الوعي والعقل وبين الجسد" يمكنه أن يعمل في نظام كهربي، وكما نعلم جميعاً فإن الكهرباء هي إلكترونات ناتجة عن تفاعلات كمية مباشرة، وبذلك فهو يختلف عن بقية الواد الطبيعية من حيث أنه يوفر مجال تفاعل أكثر اتصالاً بعالم الكموم، مما يتيح تفسير عمله عبر معادلات اللاحتمية والموجات الكمومية الاحتمالية - والعشوائية - .
هكذا يقول إن الوعي والعقل، لا وجود لهما بمعنى الاستقلال، ولكن وظائفهما تأتي من البناء الكمومي لهما، ولكن هذه الوظائف تنبع من عالم الكموم وليس من عالم الوعي، أي أنه أيضاً ينكر الخبرات الذاتية ويحاول الالتفاف عليها، ومع أنه يفسر معضلة "الإرادة الحرة" في ظهورها الموضوعي ولكنه لا يفسر "الخبرات العقلية" من حيث امتيازها البنائي الذي يختبره الوعي.
خارج فلسفة العقل، يوجد علم اسمه "الفينومينولوجيا" يبحث في تصنيف الخبرات الذاتية وصياغة التجارب المناسبة لها، وهذا العلم بدأ في القرن المنصرم على يد فيلسوف وعالم رياضيات اسمه "إدموند هوسرل" وكان علماً دقيقاً جداً، بحيث يمكن لأي إنسان اختبار تلك الموضوعات التجريدية أو إدراك شيء من المُطلق دون أن يكون شخصاً مميزاً ولكن سيحتاج إلى تطبيقات عملية وتدريب على الإدراك والتركيز …
ثلاثة خصائص تميز المُدرك الحقيقي عن الاعتباري وهي :
1. المُدرَكات الحقيقية إما أن تكون حاضرة للوعي أو تكون ناتجة بالضرورة عن علم حضوري .
2. المدركات الحقيقية يتم إدراك علاقاتها الداخلية وليس اقتراناتها .
3. المُدركات الحقيقية لها نسبة صحيحة إلى الوجود العام "الوجود المُطلَق" وأما الاعتبارات فنسبتها مجرد تواضع.
لذلك عندما تُدرِك موضوعاً عقلياً - مثل الرقم 2 - وتفرّق تفريقاً تاماً بينه وبين مصاديقه المحلية - هذا الشيء زوجي، هذان الاثنان "تفاحتان أو حصانان إلخ …" يمكنك حينها محاكمة إدراكك له : هل يحقق الشروط السابقة أم لا، كما ترى فهي شروط اختبار واعي وليست معادلة رياضية. عندما تقين تحقق الإدراك له على النحو السابق، سيكون له من الوجود نصيب أوفر من الأشياء المادية، فهو يشاركها بعلة الوجود ومعرفته، وهي الإدراك، ويتفوق عليها بنوعية هذا الوجود ...
يوجد مقال اسمه "العلم والإدراك" في كتاب "أصول الفلسفة والمنهج الواقعي" سيوضح بعض الأمور الأخرى المتعلقة بهذا ...
تحياتي …
0 تعليقات