لنحاول تفهم وإدراك آيات القرآن من ناحية الدلالة الوجودية للكملة والرمز، بعيداً عن القفص التاريخي للمعنى ، ولنرى كمثال هذه الآية القرآنية الكريمة …
{( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِى ٱلْقَتْلَى ۖ ٱلْحُرُّ بِٱلْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلْأُنثَىٰ بِٱلْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِىَ لَهُۥ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَٱتِّبَاعٌۢ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٌ )}
يفهم الإنسان بالرؤية التاريخية من هذا الكلام، أن هناك شخصا يقتل له قريب، وهو لا يذهب ويقتص من القاتل بالعدل والقانون، لا بل يذهب ليقتل قريباً له أيضاً، وإذا كان قد قُتِل له فتاة يذهب ويقتل فتاة ولا يصح أن يقتل رجلاً بسبب فتاة أو العكس.
ولذلك نريد أن نعلم فعلاً هل أن اسم الفاعل هنا وهو "العبد - الحر - الأنثى" هو اسم حالة الفاعل أم الفاعل بحد ذاته.
تعلم أن قضية القصاص يكون فيها أساس العدل أن كلا القيمتين ( المسلوبة والمأخوذة قصاصاً لأجلها ) تتساويان زمنياً وهما بذلك مستقلتين عن صفات الفاعل نفسه، وعن جنسه ولونه وعرقه وكل شيء ما أقصده ، ليس المعيار الأساسي هو الصفات ولكن هو تحقيق العدالة بين قيمتين إحداهما سالبة والأخرى موجبة … ركز معي جيداً ، يقول الله تعالى :
{( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )}
هل يجب أن نفهم منها أن شخصاً يقتل سنك يجب قتل سنٍ يخضه ؟ أم أن "قيمة مسلوبة تساوي سِناً أو عيناً" يتم أخذ قيمة مساوية لها قصاصاً من الجاني ؟ النفس حيث تمت خسارتها فإن قصاصها نفس ولكن السن والعين قصاصهما من مثل طبيعتهما وقيمتهما لكي يتحقق التوازن، هل ترى إذن أن الأساس في القصاص هو موازنة الحدث بحدث يكافؤه.
هل التفسير التاريخي وأسباب النزول التي تخبرك أن القصاص من شخص قتل عبد شخص آخر هو أن يقتل الآخر عبداً له، تحقق أصلاً غاية القصاص ؟ ما هي غاية القصاص هل هي إرضاء الذوق الاجتماعي ؟ الرسالة المحمدة كانت دائماً في اشتباك حربي مع مزاج المجتمع العام، ولطالما تم توبيخ المجتمعات البشرية بسبب التصاقها بمزاجها على حساب العدالة والقيم الإلهية في القرآن الكريم.
إذن القرآن أكبر من مجرد رؤية توافقية مع مزاج المتجتمع، إنه يسعى لتغييره جذرياً وإلى الأبد ... واقتلاع كافة جذور الظلام التي رصخت فيه.
كما تقول "الالكترون يصدر طاقة ضوئية في ظروف معينة" فحينها لا تقصد "الالكترون بنفسه" كمصداق مادي (كفاعل متشخص) وإنما تقصد (مقام) الالكترونية أو حالتها، أو حالة الفاعل الالكترونية، والإلكترون حالة أو صفة أو جنس ونوع، يمكن أن تُحمل على كيان له صفات أخرى إضافية غير هذه الصفة، ولكنه من حيث يحقق حالتها يمكن له أن يستن بسنة قوانين الإلكترون.
هذه الذرة المادية مثلاً تسير على نفس المنوال، هي من حيث وجود الإلكترون فيها تصدر ضياءً بقوة الحرارة ولكن هذا لا يعني أنها تتطابق تمام الطباق مع الإلكترون.
كذلك هو "حال العبد" أو جنسه، هو نفسه "قتل" ولا يحتاج قتلاً آخر، ولكن من يستعبد الإنسان يقتل حريته، فيستحق القصاص العادل قانونياً على فعلته، وذلك بتقييد حريته كما قيد حرية العبد، أي أن التكافؤ في الآية الكريمة هو بين "قيمة القتل" التي يقوم بها القاتل وبين "قيمة العقاب بالقتل" على القاتل نفسه، وأما الحالات الثلاث فهي أنواع حالات القتل وليست أنواع "المقتولين".
العدالة لا تهتم بنوع المقتول ظلماً، ولا يكون جبر الظلم بإيقاع ظلم مكافئ على شخص بريء آخر، ومن يقول هذا بسبب فهمه الحرفي للقرآن الكريم فعليه أن يتقي الله ربه، ويعلم أنما يتعصب لمعتقده المزروع في نفسه عن الله والدين، ودين الحق من معتقده براء.
لنأخذ نموذجاً عن الفهم الكلي في مقابلة الفهم المادي، ونقول إن الإنسان ضعيف، فهل ستقصد "مفهوم الإنسان" وماهيته، والتي تصدق على كل إنسان، أم ستقصد أن "هذا الإنسان ضعيف" أي شخص معين بحد ذاته ؟
في الحالة الأولى إنك تتكلم عن "نوع" الإنسان، ولكن كل إنسان هو أكثر من مجرد نوعه، لذلك يُحتمل أن يوجد إنسان يتجاوز الحكم النوعي مثلاً، وحين تقول "الإنسان في خُسر" فهذا لا يعني أن كل إنسان في خُسر، بل أن "حالة الناسوت المجردة عن الحقيقة بالنسيان" هي علة للخُسر، هذا مختلف عن أن تقول لشخص "أنت إنسان والإنسان في خُسر إذن أنت في خُسر" لأن الإنسان في النهاية ليس كامل الكينونة، وكذلك العبد والحر والأنثى والذكر هي حالات وليست أشخاصاً، وحين الحديث عنها ينطبق الحكم على الحالة وليس على مصداقها، فإذا كان قتل شخص في حالة ما جريمة ، فإنك ستكون مجنوناً بطعم السذاجة فعلاً إذا كنت ستبحث عن شخص آخر تنطبق عليه "نفس حالة المقتول" لتقتله.
أصلاً ما هو الرابط بينهما وعلى أي أساس تكون هذه العدالة والقصاص ...
الكليات والفئات في "علم المعاني والرموز" وحسب التعريف المنطقي للدلالة، يمكن تأويلها بطريقتين :
تارة نقول إن كلي "الإنسان" يعبر عن الحالة الإنسانية.
وتارة نقول عنه أنه يعبر عن "كل إنسان" والفرق وضوح بين التأويلين … ففي الحالة الأولى يكون كلي الإنسان معبراً عن حالة الناسوت التي ترتبط بالكائنات الإنسانية، مع أنها أكثر من مجرد ذلك، فهي روح أيضاً ونفس، والروح يمكن أن تتشكل بقوالب لا حدود لها.
وفي الحالة الثانية يحدث العكس تماماً، فحين تقول إن الديناصور انقرض فأنت تقصد حرفياً "كل ديناصور" ولكن هذا حكم بالاستقراء دائماً لأنكونه ديناصوراً لا يوجب ذاتية الانقراض، إنه مجرد حدث تاريخي ...
وكذلك الحر بالحر، لا يعبر عن "كل حر" بمعنى أن حريته علة السماح بقتله مقابل الحر، وإنما عن "حالة الحرية" كـ(قيمة)، تماماً مثل حالة السن المسلوب كقيمة، وإلا فلو كان الحر المصداق هو المقصود، فمن الذي يقتص لمن ؟
إن الذي يقتص لموت قريبه من قريب القاتل، إنما يقتص لـ"لمشاعره النفسية" وليس للمقتول بحد ذاته، لأن المقتول، تم قتله من قبل شخص بعينه وبالتالي يقع القصاص "بالنسبة للمقتول" من ذلك الشخص ، لكن بالنسبة لمن يقتص من علاقات القاتل فهو يقتص لنفسه ولعلاقاته الشخصية وليس للمقتول، ويحمل إثماً إضافياً بذلك لأنه يعتدي في القصاص على روح بريئة بسبب غاية دنيئة وهي تتعلق بزيفه وملكيته الخاصة لروح المجني عليه.
إذن :
- قتل حالة الحر هي قتل للحرية، والحر بالحر تعني إزالة مقام الحرية للفاعل، ويؤخذ قصاصه من مقام حرية الفاعل الآخر، والموت للقاتل هو حالة واحدة من هذا البند فقط.
- أما قتل العبد فهو قتل ما يتعلق بالشخص من أشياء تحت تصرفه وسيادته، العبد بالعبد تعني قص مقام مستحقات الفاعل ومتعلقاته الزمنية متعلقات مثل تلك التي قتلها في زمن الآخر، العبد بالعبد تعني أن ( حالة العبودية والتسخير لشخص ما، كالسلطة مثلاً، تؤخذ من سالبها حالة عبودية تعود له).
- الأنثى بالأنثى : كما سبق ، الأنثى ليست جنساً بيولوجياً، إنها حالة التفاعل السالب زمنياً والذي يحمل الزمن، ولنقل، إنها "علل ولادة الزمن" المستقبلي، منها مثلاً مصادر الرزق، أو مصادر الصناعة أو التعليم، فالذي يسلب قوة خلاقة من شخص آخر فعليه قانونياً أن يردها إليه من قوة خلاقة تعود علاقتها له.
0 تعليقات