Advertisement

Main Ad

الله حافظ لكتابه : هل الناسخ والمنسوخ أحكام زمنية في نصوص القرآن الكريم (من علوم المعاني والرموز)

يقوم التأويل الدلالي الإدراكي لمعاني الرموز على ركنين، الأول هو توجّه الانتباه نحو بنيوية الرمز المستخدم في الإشارة ، ونقصد بذلك أن معنى الرمز يتحدد وجودياً وبغض النظر عن استخدام البشر له، بطبيعة العناصر المادية والعلاقات بينها والتي تكوّن شكلانية الرمز الخارجية، وهذا يعني بالضرورة عزل الرمز عن سياق استخدامه التاريخي، وجعل هذا السياق نوعاً من المعايير الثانوية في فهم الرموز.

الأداة الثانية لفهم الرمز موضوعياً هي إدراك المعنى المشترك لجميع استخداماته أو استخدامات أجزائه، وتجريد هذا المعنى عن الاشتراط العُرفي، فمثلاً يوجد معنى مشترك لحرف "الميم" في الماء والأم والموت والمصير والمرايا وغيرها، وهو الكمون والخفاء والقابلية للتجلي والتحقق أو للإتمام الزمني، وهذا المعنى المشترك لحرف الميم ستجده في اللغتين العربية والانجليزية على حد سواء وكل كلمة فيها ميم ستحقق جزئياً مثل هذا المعنى.

هذه المناهج التأويلية للرموز تختلف اختلافاً جذرياً عن المنهج التاريخي والروائي، أولاً من حيث القيمة المعرفية، لأن التاريخ لا يخبرنا بالكثير من المعلومات الموثوقة، وأغلب ما فيه قيل عن قال وليس هناك أسانيد ثابتة وموثقة، وأما السجلات والوثائق الأثرية فهي أندر من الكبريت الأزرق ... ثانياً من حيث أن هذا المنهج بني على داخلية اللغة وعلة تكوينها بدل البحث في الاستخدامات الخارجية والتي قام بها مجتمعات لم تسهم بحد ذاتها في هذا التكوين.

يوجد لذلك سببين ، السبب الأول هو أن التأويل يتبع لغة المصدر ، وأن المخاطب عليه تعلم هذه اللغة، وهذا هو معنى التأويل، والثاني يتعلق بمدى موثوقية الفهم التاريخي لمعاني الرموز في ضمن سياق رمزي مقدس.

موضوع واضح تماماً، هب أن ما تريد فهمه من الرمز هو المعنى المستخدم من قِبل المجتمعات البشرية، فإن ما ستبحث عنه لتأويل الرمز هو استخدامهم التاريخي له في الحقبة الزمكانية التي تريد فهم معنى ذلك الرمز فيها، وهذا الأمر يعني أن معنى الرمز أصلاً بشري، تمت صناعته بشرياً ، ليحكي عن شيء يفهمه عموم المجتمع البشري.

لكن ماذا إذا كنت تريد فهم رسالة أعمق من مستوى إدراك المجتمع البشري ؟ أي أنك لا تريد فهم ما يقصده البشر من الرمز، ولكن فهم ما يقصده الله أو ملائكته أو كتبه أو رسله، فستحتاج حينها إلى نوع آخر من التأويل، لأن المجتمع البشري ككيان موحد، وسيلة اتصاله الوحيدة لغوياً هي الرموز التي تشير لأشياء موضوعية يراها كل الناس بأقل مجهود، ولا يمكن للإنسان أن يصنع دلالة تشير لمعنى باطني ويجعلها موضوعية بالوقت نفسه.

كلمة "الإله" في لغات الناس لا تشير إلى معنى غير موجود في الكون، ولكنها بدلاً من ذلك تشير إلى خاصية أو "ناحية وظيفية" يفتقدها الكون الموضوعي وهي التي تسبب عجزه عن الاكتفاء بذاته في تفسير الخلق والأحداث. الكلمات التي تتحدث عن الخالق عز وجل، في تصور الناس ، هي دائماً رموز لها دلالة تصف العجز الكوني عن تفسير الكون نفسه بنفسه، بحيث هناك "فعل" خارجي بالنسبة للكون يؤثر عليه أو يتحكم به تماماً وهذا التأثير يعرف موضوعياً من خلال أثر حالة العجز في الكون، وذلك لا يشير إلى معنى حقيقي بقدر ما يشير إلى "وظيفة" ميتافيزيقية يخبر الكون عنها، فكل ما تفهمه من هذه الكلمة هو وجود قوة غير الكون أثرت عليه و خلقته، لكن ماذا يعني ذلك ؟ ... ليس هناك جواب.

إذا كانت الرموز التي تقرؤها في كتاب مقدس ، وكنت تريد فهم خطاب الله لك ، ليس من الحكمة حينها أو من الصحيح أن تفهمها بما يفهمها الناس، لأن من يخاطبك في الكتاب المقدس يريد إيصال معنى مقدس، فهو لا يخاطب "المجتمع" بما تعنيه هذه الكلمة من نمط تفكير محدود مادياً، ولكن يخاطب الذوات الحية .. كل ذات على حدى، ويريد للذوات أن تتعرف عليه، أما أن يكون الرمز كلمة تشكل مفهوماً عقلياً يمكن إيصاله رمزياً بين أفراد المجتمع بلغة موضوعية تتناسب مع العالم الخارجي المادي فهذا سيجعل الرمز بشرياً في دلالاته ويجعل القداسة فيه مستحيلة.

إنها حقيقة ومهما كانت مزعجة لك، أن التاريخ "كله" يمكن إنكار صحة أخباره معرفياً على نحو أسهل مما تتخيل، فلا شيء يؤكد أن العالم المادي لم يبدأ لحظة ولادتك مثلاً، أو قام الخالق البارئ المصور بتصميمه ليبدو على هذا الشكل بالذات لحكمة منه، ولا شيء يؤكد أيضاً أن تاريخ العالم المادي ولو كان له وجود، لم يخضع للتزوير مراراً ومراراً أو لأية تأثيرات معينة ومقصودة، غيرت سياقه الأصلي تماماً وحولته إلى السياق الذي تعرفه ... 

هذا الحكم بالنسبة للتاريخ بأسره، فما بالك برواية آحاد ؟ رواية رواها عدد قليل من الأشخاص الافتراضيين وكتبها عنهم كاتب واحد أو بضعة كتّاب افتراضيين، ونقل ما كتبوه في كتاب افتراضي وصل إليك في الطريق عبر رحلة افتراضية عمرها أكثر من ألف سنة ؟

إذا كان من السهل إنكار وجود شخصية اسمها الاسكندر المقدوني على النحو الذي نعرفه، فسيكون أسهل بكثير إنكار رواية آحاد من بين الآلاف، ليس عليها حتى أثريات ...

هذا الذي يدفع الباحث عن الحقيقة إلى محاولة كشف حقيقة الرموز العربية التي يستخدمها كتاب الله ، ولا يكتفي بالتسليم الضعيف والضال لتوكيدات المشايخ العنيفة وإلحاحهم الغضوب، ونظراتهم المزوارة للباحث عن الحق، فهذه تحديات يجب عليه أن يتجاوزها ولا يتأثر بها ويتوقف لأن طلبه أعز من أن يحدده إنسان.




الرمز الوجودي في القرآن الكريم :

كذلك بخصوص التفسير عموماً وقضية الناسخ والمنسوخ خصوصاً، لعلنا نفهم برحابة صدر أن الناسخ والمنسوخ غير موجود في القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم .. ليس هو الآيات :

{( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )}

{( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ )}

{( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ )}

أرجو أن يكون ذلك واضحاً كفاية ... الآيات ، ليست عبارات في القرآن الكريم، وعبارات القرآن هي كلمات مقدسة من عند الله والصفوف الإلهية، والقُدس المشع - لا النص الحرفي - فيها هو ما يجعلها آيات ، وهو الذي يجعل الليل والنهار آيتين، ويجعل الآيات في الآفاق والأنفس ... الآية تحتاج إلى راصد ليدرك حكمتها وبيانها القيمي، كلمة القرآن قائمة بذاتها ولا تحتاج لراصدين.

لذلك لا ناسخ ولا منسوخ في كتاب ربنا العزيز الحكيم …

وأعجب أن كثيرين يتهمون كاتب السطور بالكفر لأنه يقول الحق، بينما يخونون أماناتهم بأهم قضايا الدين وحفظ كتاب الله عز وجل …

فيكون كتاب الله قابلاً للتحريف والفقدان في نظرهم ويكون ذا دلالة مادية لا روح لها ولا باطن فيها، فأسأل نفسي في عجب إذن عن أي نوع من الدين بالضبط هم يدافعون ؟ إذا كانوا يكفرّون القول بحفظ كتاب الله ويكفرون الذي يدعو إلى الروح والقيم، فما الذي بقي من الدين غير الاعتبارات والنصوص !!

وكذلك بخصوص التفسير عموماً ... فلا قيمة للرواية المنقولة بخبر تاريخي في تفسير القرآن الحكيم، وهناك قواعد للتفسير لا يعلمها مشيخات المسلمين، ولكن يعلمها أولو العلم الحقيقي وحتى أن منهم قسيسين ورهباناً وأحباراً يهود، ومنهم من يكتم شهادة عنده من الله ومن يفعل أسوء بكثير …

تحياتي وسلام الله

إرسال تعليق

0 تعليقات